( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون )
قوله تعالى : ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون )
اعلم أنا بينا أن إما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس ، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة ، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره . دلائل وجود الله وقدرته
وثانيها : الأرض والسماء وهو المراد من قوله : ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء ) قال في قوله ( ابن عباس قرارا ) أي منزلا في حال الحياة وبعد الموت ( والسماء بناء ) كالقبة المضروبة على الأرض ، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها ( والسماء بناء ) أي قائما ثابتا وإلا لوقعت علينا ، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها القادر الحكيم ، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها : ما هو حاصل مشاهد حال كمال حاله ، والثاني : ما كان حاصلا في ابتداء خلقته وتكوينه . دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع
أما القسم الأول : فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها : حدوث صورته وهو المراد من قوله : ( وصوركم ) وثانيها : حسن صورته وهو المراد من قوله : ( فأحسن صوركم ) ، وثالثها : أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله : ( ورزقكم من الطيبات ) وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مرارا لا سيما في تفسير قوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) [ الإسراء : 70 ] ولما ذكر الله تعالى هذه [ ص: 74 ] الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال : ( ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ) وتفسير : تبارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات ، ثم قال : ( هو الحي لا إله إلا هو ) وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو ، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعا ذاتيا وحينئذ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم .
واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال ، والدارك إشارة إلى العلم التام ، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة ، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي : الوحدانية بقوله : لا إله إلا هو ، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين :
أحدها : بالدعاء ، والثاني : بالإخلاص فيه ، فقال : ( فادعوه مخلصين له الدين ) ثم قال : ( الحمد لله رب العالمين ) فيجوز أن يكون المراد قول : ( الحمد لله رب العالمين ) ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ، ولما بين صفات الجلال والعظمة قال : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، وبين أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات ، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره ، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به ، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل .
ولما بين أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال : ( وأمرت أن أسلم لرب العالمين ) وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه ؛ لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر ، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه إلا الأفضل الأكمل ، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه ، ثم قال : ( هو الذي خلقكم من تراب ) .
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين : دلائل الآفاق والأنفس ، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه الآية أربعة : الليل ، والنهار ، والأرض ، والسماء .
وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين : أحدها : الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة ، والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع : الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات .
وأما القسم الثاني : وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال : ( هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ) فقيل : المراد آدم ، وعندي لا حاجة إليه ؛ لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني مخلوق من الدم .
فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان ، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم ، فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الآيات .
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها : كونه طفلا ، وثانيها : أن يبلغ أشده ، وثالثها : الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل ؛ وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء [ ص: 75 ] والنماء وهو المسمى بالطفولية .
والمرتبة الثانية : أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص ، وهذه المرتبة هي المراد من قوله ( ثم لتكونوا شيوخا ) وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التقسيم لا تزيد على هذه الثلاثة ، قال صاحب الكشاف " قوله ( لتبلغوا أشدكم ) متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا .
ثم قال : ( ومنكم من يتوفى من قبل ) أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا .
ثم قال : ( ولتبلغوا أجلا مسمى ) ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة .
ثم قال : ( ولعلكم تعقلون ) ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل .