أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ) ففيه مسائل :
[ ص: 131 ] المسألة الأولى : العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر ، وإنما سمي خبره سبحانه عهدا لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر ، فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه .
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : " فلن يخلف الله " متعلق بمحذوف وتقديره إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أتخذتم ) ليس باستفهام ، بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم ، بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع ، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80فلن يخلف الله عهده ) يدل على
nindex.php?page=treesubj&link=33678_29682أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده . قال أصحابنا : لأن الكذب صفة نقص ، والنقص على الله محال ، وقالت
المعتزلة : لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا عنه ، والكذب قبيح ؛ لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنيا عنه يستحيل أن يفعله ، فدل على أن الكذب منه محال ، فلهذا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80فلن يخلف الله عهده ) ، فإن قيل : العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه ، فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز ، ثم العقل يطابق ذلك ، لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم . قلنا : الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب .
المسألة الخامسة : قال
الجبائي : دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد
موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب ، لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على
اليهود هذا القول ، وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب ، فقد وجب أن يكون عذابهم دائما على ما هو قول الوعيدية ، وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة ، لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم ، إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف ، واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول : لا نسلم أنه تعالى ما وعد
موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار . قوله : لو وعدهم بذلك لما أنكر على
اليهود قولهم ، قلنا : لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على
اليهود ذلك ، وما الدليل على هذه الملازمة ؟ ثم إنا نبين شرعا أن ذلك غير لازم من وجوه :
أحدها : لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب ، فإن قولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) يدل على أيام قليلة جدا ، فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب .
وثانيها : أن
المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو ، فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع ، فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك .
وثالثها : أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع ، سلمنا أنه تعالى ما وعد
موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار ، فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار ؟ بيانه أنه فرق بين أن يقال : إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال : إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه ، فإنه تعالى ربما
[ ص: 132 ] لم يقل ذلك
لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة ، وإنما رد على
اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل ، فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات ، سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم
موسى من النار ، فلم قلت : إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار ، وأما قول
الجبائي : لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم . فهو تحكم محض ، فإن العقاب حق الله تعالى ، فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين ، فثبت أن هذا الاستدلال ضعيف .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) فهو بيان لتمام الحجة المذكورة ، فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع وثبت أنه لم يوجد السمع ، كان الجزم بذلك التقدير قولا على الله تعالى بما لا يكون معلوما لا محالة ، وهذه الآية تدل على فوائد :
أحدها : أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل .
وثانيها : أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي .
وثالثها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=21709_21469منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية . قالوا : لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم ، فوجب أن لا يكون التمسك به جائزا لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) ذكر ذلك في معرض الإنكار .
والجواب : أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوما ، فكان القول به قولا بالمعلوم لا بغير المعلوم .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 131 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْعَهْدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَعْدِ وَالْخَبَرِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ خَبَرُهُ سُبْحَانَهُ عَهْدًا لِأَنَّ خَبَرَهُ سُبْحَانَهُ أَوْكَدُ مِنَ الْعُهُودِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنَّا بِالْقَسَمِ وَالنَّذْرِ ، فَالْعَهْدُ مِنَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ : " فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ " مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أَتَّخَذْتُمْ ) لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ ، بَلْ هُوَ إِنْكَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى حُجَّةَ رَسُولِهِ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ أَنْ يَسْتَفْهِمَهُمْ ، بَلِ الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا بِالسَّمْعِ ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ الْجَزْمُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ) يَدُلُّ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=33678_29682أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ . قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّ الْكَذِبَ صِفَةُ نَقْصٍ ، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ ، وَقَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ ، وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَالْعَالِمُ بِقُبْحِ الْقَبِيحِ وَبِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ مِنْهُ مُحَالٌ ، فَلِهَذَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ) ، فَإِنْ قِيلَ : الْعَهْدُ هُوَ الْوَعْدُ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، فَلَمَّا خَصَّ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ جَائِزٌ ، ثُمَّ الْعَقْلُ يُطَابِقُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعْدِ لُؤْمٌ وَفِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ . قُلْنَا : الدَّلَالَةُ الْمَذْكُورَةُ قَائِمَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ وَعَدَ
مُوسَى وَلَا سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ التَّكْذِيبِ ، لِأَنَّهُ لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنَّ يُنْكِرَ عَلَى
الْيَهُودِ هَذَا الْقَوْلَ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّهُمْ عَلَى وَعِيدِ الْعُصَاةِ إِذَا كَانَ بِذَلِكَ زَجْرُهُمْ عَنِ الذُّنُوبِ ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُهُمْ دَائِمًا عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِيَّةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأُمَمِ وَجَبَ ثُبُوتُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ ، إِذْ كَانَ قَدْرُ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْجَمِيعِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ فِي نِهَايَةِ التَّعَسُّفِ فَنَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ
مُوسَى أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ . قَوْلُهُ : لَوْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى
الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ ، قُلْنَا : لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ لَمَا أَنْكَرَ عَلَى
الْيَهُودِ ذَلِكَ ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ ؟ ثُمَّ إِنَّا نُبَيِّنُ شَرْعًا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَلَّلُوا أَيَّامَ الْعَذَابِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ) يَدُلُّ عَلَى أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ جَزْمَهُمْ بِهَذِهِ الْقِلَّةِ لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ انْقِطَاعَ الْعَذَابِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ
الْمُرْجِئَةَ يَقْطَعُونَ فِي الْجُمْلَةِ بِالْعَفْوِ ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ ، فَلَمَّا حَكَمُوا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ لَا جَرَمَ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَعِنْدَنَا عَذَابُ الْكَافِرِ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُخْرِجُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ ، فَلِمَ قُلْتَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ ؟ بَيَانُهُ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ تَعَالَى مَا وَعَدَهُ إِخْرَاجَهُمْ مِنَ النَّارِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَالْأَوَّلُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى رُبَّمَا
[ ص: 132 ] لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ
لِمُوسَى إِلَّا أَنَّهُ سَيَفْعَلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى
الْيَهُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَتَوَقَّفُوا فِيهِ وَأَنْ لَا يَقْطَعُوا لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ قَوْمِ
مُوسَى مِنَ النَّارِ ، فَلِمَ قُلْتَ : إِنَّهُ لَا يُخْرِجُ عُصَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّارِ ، وَأَمَّا قَوْلُ
الْجُبَّائِيِّ : لِأَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي الْأُمَمِ . فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ ، فَإِنَّ الْعِقَابَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى الْبَعْضِ بِالْإِسْقَاطِ وَأَنْ لَا يَتَفَضَّلَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَاقِينَ ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) فَهُوَ بَيَانٌ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ إِلَّا السَّمْعُ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ السَّمْعُ ، كَانَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَا مَحَالَةَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَوَائِدَ :
أَحُدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَابَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ .
وَثَانِيهَا : أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ عَقْلًا لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَى الْإِثْبَاتِ أَوْ إِلَى النَّفْيِ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21709_21469مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْقِيَاسَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِهِ جَائِزًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ حُصُولِ الظَّنِّ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ كَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ مَعْلُومًا ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ قَوْلًا بِالْمَعْلُومِ لَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ .