( إذ يغشى السدرة ما يغشى )
وقوله تعالى : ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : العامل في ( إذ ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان ، فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان : [ ص: 253 ] أظهرهما ( رآه ) أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى ، والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة ، تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى ، أي نزوله لم يكن إلا بعدما ظهرت العجائب عند السدرة ( فغشاها ما غشى ) [ النجم : 17] فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة ، وإن قلنا ما بعده ، فالعامل فيه ( ما زاغ البصر ) [ النجم : 17] أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها ، وسنذكره عند تفسير الآية .
المسألة الثانية : قد ذكرت أن في بعض الوجوه ( سدرة المنتهى ) هي الحيرة القصوى ، وقوله ( يغشى السدرة ) على ذلك الوجه ينادي بالبطلان ، فهل يمكن تصحيحه ؟ نقول : يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة ، أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين ، ورأى محمد صلى الله عليه وسلم عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته ، والأول هو الصحيح ، فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة .
المسألة الثالثة : ما الذي غشى السدرة ؟ نقول فيه وجوه :
الأول : فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف ، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي ، فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل ، وإن لم يصح فلا وجه له .
الثاني : الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور ، وهو قريب ، لأن المكان مكان لا يتعداه الملك ، فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين ، كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها .
الثالث : أنوار الله تعالى ، وهو ظاهر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها ، كما تجلى للجبل ، وظهرت الأنوار ، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت ، فجعل الجبل دكا ، ولم تتحرك الشجرة ، وخر موسى صعقا ، ولم يتزلزل محمد .
الرابع : هو مبهم للتعظيم ، يقول القائل : رأيت ما رأيت عند الملك ، يشير إلى الإظهار من وجه ، وإلى الإخفاء من وجه .
المسألة الرابعة : ( يغشى ) يستر ، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان ، يقال فلا يغشاني كل وقت ، أي يأتيني ، والوجهان محتملان ، وعلى قول من يقول : الله يأتي ويذهب ، فالإتيان أقرب .