أما فإنه نزله على قلبك ) ففيه سؤالات : قوله تعالى : (
السؤال الأول : الهاء في قوله تعالى : " فإنه " وفي قوله : " نزله " إلى ماذا يعود ؟ الجواب فيه قولان :
أحدهما : أن الهاء الأولى تعود على جبريل ، والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] يعني على الأرض وهذا قول وأكثر أهل العلم . أي إن كانت عداوتهم لأن ابن عباس جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله . قال صاحب " الكشاف " : إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته .
وثانيهما : المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه .
السؤال الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم فما السبب في قوله نزله على قلبك ؟ الجواب : هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله : ( القرآن إنما نزل على نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته ، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال : نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه .
السؤال الثالث : كان حق الكلام أن يقال على قلبي ، والجواب : جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي ، من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك .
السؤال الرابع : كيف استقام قوله : ( فإنه نزله ) جزاء للشرط ؟ والجواب فيه وجهان :
الأول : أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورا فكيف تليق به العداوة .
والثاني : أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك ، لأنه نزل عليك الكتاب برهانا على نبوتك ، ومصداقا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه .
أما قوله تعالى : ( بإذن الله ) فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :
أولها : أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم ، واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن .
وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم .
وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة .
أما قوله تعالى : ( مصدقا لما بين يديه ) فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن [ ص: 180 ] محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب ، فلم صار بأن يكون مصدقا لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها ؟ قلنا : الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة ، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع .
أما قوله تعالى : ( وهدى ) فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين :
أحدهما : بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى .
وثانيهما : بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى ، فإن قيل : ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل ؟ الجواب من وجهين :
الأول : أنه تعالى إنما خصهم بذلك ، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] .
والثاني : أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين ، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين ، فلهذا خصهم الله به .
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ) فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى : ( من كان عدوا لجبريل ) لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد ، وجب أن يكون عدوا لله تعالى ، بين في هذه الآية أن من كان عدوا لله كان عدوا له ، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم ، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر ، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ؟ والجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وذلك محال على الله تعالى ، بل المراد منه أحد وجهين ، إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] وكقوله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) [ الأحزاب : 57 ] لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة ، فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم ، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة ، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم .
السؤال الثاني : جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة ؟ الجواب لوجهين : لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر
الأول : أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة .
الثاني : أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جرم نص على اسميهما ، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل ، وإذا ثبت هذا فنقول : يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه :
أحدها : أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر ، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا فوجب أن يكون مستقبحا شرعا [ ص: 181 ] لقوله عليه السلام : " " . ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
وثانيها : جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح ، أن وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل .
وثالثها : قوله تعالى في صفة جبريل : ( مطاع ثم أمين ) [ التكوير : 21 ] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه .
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار ، ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل ، وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل ، وفيه لغة أخرى ميكيئل على وزن ميكيعل ، وميكئيل كميكعيل ، قال : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه . ابن جني
المسألة الثالثة : الواو في جبريل وميكال ، قيل : واو العطف ، وقيل : بمعنى أو يعني من كان عدوا لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين .
المسألة الرابعة : ( عدو للكافرين ) أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن كفر . عداوة الملائكة