أحدها : ما روي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا وما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله هذه الآية .
وثانيها : أن اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه . السحرة من
وثالثها : أن قوما زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا ، ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال : ( ? ولكن الشياطين كفروا ) يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان ، ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولا بالسحر فقال تعالى : ( ? يعلمون الناس السحر ) واعلم أن يقع من وجوه : الكلام في السحر
المسألة الأولى : في البحث عنه بحسب اللغة فنقول : ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه ، والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه ، قال لبيد :
ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان :
أحدهما : أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع .
والآخر : نغذى ، وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال :
[ ص: 187 ]
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ، ويحتمل أيضا أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر ، والسحر هو الرئة ، وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول رضي الله عنها : " عائشة " ، وقوله تعالى : ( ? توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري إنما أنت من المسحرين ) [ الشعراء : 153 ] ، يعني من المخلوقين ، الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم : ( ? ما أنت إلا بشر مثلنا ) [ الشعراء : 154 ] ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا ، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة : ( ? ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ) [ يونس : 81 ] وقال : ( ? فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ) [ الأعراف : 116 ] فهذا هو . معنى السحر في أصل اللغة
المسألة الثانية : اعلم أن مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى : ( ? لفظ السحر في عرف الشرع سحروا أعين الناس ) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى : ( ? يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ طه : 66 ] وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد . روي أنه الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم ، فقال لعمرو : خبرني عن الزبرقان ، فقال : مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره ، فقال الزبرقان : هو والله يعلم أني أفضل منه ، فقال عمرو : إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال ، يا رسول الله صدقت فيهما ، أرضاني فقلت أحسن ما علمت ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إن من البيان لسحرا فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحرا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته ، فإن قيل : كيف يجوز أن يسمي ما يوضح الحق وينبئ عنه سحرا ، وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر ؟ قلنا : إنما سماه سحرا لوجهين : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأول : أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب ، فمن هذا الوجه سمي سحرا ، لا من الوجه الذي ظننت .
الثاني : أن المقتدر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا وتقبيح ما يكون حسنا فذلك يشبه السحر من هذا الوجه .