واعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها ، وذلك لأن عطف قوله : ( وما أنزل ) على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل ، أما قوله : لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى . قلنا : تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود ، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
القول الثاني : أن كفر ؛ لقوله تعالى : ( تعليم السحر ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ، فالجواب : أنا بينا أنه واقعة حال ، فيكفي في صدقها صورة واحدة ، وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ، ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق .
القول الثالث : أنه لا يجوز بعثة الأنبياء - عليهم السلام - لتعليم السحر فكذا الملائكة . قلنا : لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء - عليهم السلام - لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله .
القول الرابع : إنما ؟ قلنا : فرق بين العمل وبين التعليم ، فلم لا يجوز أن يكون العمل منهيا عنه ؟ وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأمورا به . يضاف السحر إلى الكفرة والمردة ، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه
المسألة الثانية : قرأ الحسن : ( ملكين ) بكسر اللام ، وهو مروي أيضا عن الضحاك ، ثم اختلفوا ، فقال وابن عباس الحسن : كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر ، وقيل : كانا رجلين صالحين من الملوك . والقراءة المشهورة بفتح اللام ، وهما كانا ملكين نزلا من السماء ، وهاروت وماروت اسمان لهما ، وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما السلام ، وقيل : غيرهما ، أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه :
أحدها : أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر .
وثانيها : كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله : ( ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) [ الأنعام : 8 ] .
وثالثها : لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك ، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلا وتلبيسا على الناس ، وهو غير جائز ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنسانا ، بل ملكا من الملائكة ؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) [ الأنعام : 9 ] .
والجواب عن الأول أنا سنبين وجه ، وعن [ ص: 199 ] الثاني أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة ، والخاص مقدم على العام ، وعن الثالث أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين ، وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنسانا ، كما أنه في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي ألا يقطع بكونه من البشر ، بل الواجب التوقف فيه . الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر
المسألة الثالثة : إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما ، فروي عن أن الملائكة لما أعلمهم الله ابن عباس بآدم وقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فأجابهم الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعا من الملائكة ، وهم الكرام الكاتبون ، فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة ، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح ، ثم أضافوا إليها عمل السحر فازداد تعجب الملائكة ، فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة ، فقال لهم : اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علما وزهدا وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما شهوة الإنس ، وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب ، فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء ، وهي الزهرة فراوداها عن نفسها ، فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم ، وإلا بعد أن يشربا الخمر ، فامتنعا أولا ، ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك ، فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم ، فقالت : إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا ، فإن أردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل ، فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله ، فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها ، ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى ، فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض ، يعلمان الناس السحر ، ثم لهم في الزهرة قولان :
القول الأول : أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم ، أمر الله الكوكب الذي يقال له : الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض ، إلى أن كان ما كان ، فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما .
والقول الثاني : أن المرأة فاجرة من أهل الأرض ، وواقعاها بعد شرب الخمر ، وقتل النفس ، وعبادة الصنم ، ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت به وعرجت إلى السماء ، وكان اسمها " بيدخت " فمسخها الله ، وجعلها هي الزهرة ، واعلم أن هذه الرواية فاسدة ، مردودة غير مقبولة ؛ لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك ، بل فيه ما يبطلها من وجوه :
الأول : ما تقدم من الدلالة الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي .
وثانيها : أن قولهم : إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب ؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، فكيف يبخل عليهما بذلك ؟ .
وثالثها : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ، ويدعوان إليه وهما يعاقبان ، ولما ظهر فساد هذا القول فنقول : وجوه : السبب في إنزالهما
أحدها : أن السحرة كثرت في ذلك الزمان ، واستنبطت أبوابا غريبة في السحر ، وكانوا يدعون النبوة ، ويتحدون الناس بها ، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر ، حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد .
وثانيها : أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر [ ص: 200 ] متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر ، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر ، فلا جرم ، هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة ، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر ؛ لأجل هذا الغرض .
وثالثها : لا يمتنع أن يقال : السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا ، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض ، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما ، واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله .
ورابعها : أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ، ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما ؛ لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه .
وخامسها : لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها ، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن .
وسادسها : يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة ؛ فيستوجب به الثواب الزائد ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال : ( فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ) [ البقرة : 249 ] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : قال بعضهم : هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام ؛ لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ، ولا يجوز كونهما رسولين ؛ لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكا .
المسألة الخامسة : " هاروت وماروت " عطف بيان للملكين ، علمان لهما ، وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ، ولو كانا من الهرت والمرت ، وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا ، وقرأ : " هاروت وماروت " بالرفع على : هما الزهري هاروت وماروت .
أما قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) فاعلم أنه تعالى شرح حالهما ، فقال : وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به ، وهو قولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي ، كقولهم : فتنت الذهب بالنار ، إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب ، وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر ، فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر ، ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة ، فيقولا له : ( إنما نحن فتنة ) أي : هذا الذي نصفه لك ، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز ، ولكنه يمكنك أن تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي ، فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه ، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة .