( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى )
قوله تعالى : ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي عن أبي جهل لعنه الله أنه قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم ، قال : فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه ، ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنكص على عقبيه ، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا . وعن الحسن أن أمية بن [ ص: 21 ] خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة .
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره ، فلذلك قالوا : إنه ورد في أبي جهل ، وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي ، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل ، ثم يعم في الكل ، لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه .
المسألة الثانية : قوله : ( أرأيت ) خطاب مع الرسول على سبيل التعجب ، ووجه التعجب فيه أمور :
أحدها : أنه عليه السلام قال : بأبي جهل بن هشام أو بعمر ، فكأنه تعالى قال له : كنت تظن أنه يعز به الإسلام ، أمثله يعز به الإسلام ، وهو : ( اللهم أعز الإسلام إما ينهى عبدا إذا صلى ) .
وثانيها : أنه كان يلقب بأبي الحكم ، فكأنه تعالى يقول : كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ، أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثان ! .
وثالثها : أن ذلك الأحمق يأمر وينهى ، ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته ، مع أنه ليس بخالق ولا رب ، ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق ، ألا يكون هذا غاية الحماقة .
المسألة الثالثة : قال : ( ينهى عبدا ) ولم يقل : ينهاك ، وفيه فوائد : :
أحدها : أن التنكير في "عبدا" يدل على كونه كاملا في العبودية ، كأنه يقول : إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته . يروى في هذا المعنى أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم ، فقال عمر : اطلبه من بلال فهو أعلم به مني . ثم إن بلالا دله على فاطمة ثم فاطمة دلته على علي عليه السلام ، فلما سأل عليا عنه قال : صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه ، فقال الرجل : هذا لا يتيسر لي ، فقال علي : عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال : ( قل متاع الدنيا قليل ) [النساء : 77] فكيف أصف وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال : ( أخلاق النبي وإنك لعلى خلق عظيم ) [القلم : 4] فكأنه تعالى قال : ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق .
وثانيها : أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى .
وثالثها : أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة ، روي عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواما ، فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم ؟ فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله : ( يصلون قبل صلاة العيد أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) فلم يصرح بالنهي عن الصلاة ، وأخذ منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو حنيفة أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي ؟ قال : يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي .
ورابعها : أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجدا غيره ، إن محمدا عبد واحد ، ولي من الملائكة المقربين ما لا يحصيهم إلا أنا وهم دائما في الصلاة والتسبيح .
وخامسها : أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول : إنه مع التنكير معرف ، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر : ( أسرى بعبده ) [الإسراء : 1] ، ( أنزل على عبده ) [الكهف : 1] ، ( وأنه لما قام عبد الله ) [الجن : 19] .