إن التربية المنشودة ليست شيئا سهلا، إنها معاناة وجهد يقوم بهما المربي والمربى معا وتشترك في تحقيق النتيجة عناصر أخرى، في مقدمتها: البيت والبيئة والسلطة الحاكمة، كما يشترك الماء والشعاع، والحر أو البرد في إنضاح الثمار...
وعظة المنبر، ونصيحة المدرس وحدهما لا تصنعان الناشئ، وإن كان لهما أثرهما.
إن علم المنطق، كما عرفوه، آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ في الفكر، ومع ذلك فهذا العلم لا يصنع مفكرا.
وعلم العروض والقوافي قد يحصي بحور القصائد، ويكشف ما في التفاعيل من خبن وقبض، وهيهات أن يصنع شاعرا.
وقد ألفنا أن نتلقى الدين كلاما أو رسوما، بيد أن هـذا التلقي لا يصنع زكاة الأنفس، ولن تفلح نفس فقدت هـذه الزكاة، ولن يفلح امرؤ إذا تحرك عقله [ ص: 51 ] تحركت معه قيود الخرافة أو الأوهام التي نسجها الخيال..!!
والعناصر المؤثرة في التربية لا بد من تجانسها وتناسقها، أي: لا بد أن ينتظمها ولاء واحد، وأن تتدافع إلى هـدف واحد، فإذا كان البيت مسلما ملتزما لتعاليم الدين فإن عمله سيبطل أو يضعف إذا كانت الحكومة علمانية والمدرسة مدنية..
والخلل الذي نلاحظه على المسلمين المعاصرين يعود كفل ضخم منه على هـذا التقطع والتضاد في وسائل التوجيه، فإن الاستعمار العالمي استمات في إقامة أجهزة اجتماعية واقتصادية وسياسية تضرب التربية الإسلامية بخبث وقساوة، فما ينجو إلا من عصم الله..
وأكره أن أحمل الاستعمار كل هـزائمنا المادية والأدبية، وأن أفر من تبعات التقصير الذي عرقل خطاي من قديم، إننا نحن المسلمين عنينا بجانب من الأخلاق وأهملنا جوانب ذات بال، وظننا أن هـذا الإهمال يغفر أو يجبر بالانتماء إلى عقيدة ما، والمداومة على عبادة ما..!!
أخذنا من الأخلاق جوانبها القريبة، فقد نفهم الأمانة على أنها الوديعة ونرد ما استودعنا الآخرون إياه، أما أن المنصب أمانة لا يجوز استغلالها لمأرب خاص، ولا يجوز الإخلال بأعبائه الجسام فهذا شأن آخر.
ويغلب أن يكون طلب المنصب للاستغناء والاستعلاء، والبحث عن الذات لا البحث عن مصالح الأمة..
والصدق خلق معروف، ويغلب أن نصدق في القول لا في العمل، لأن الصدق في العمل صعب، إنه إحقاق الحق وإبطال الباطل، والتزام السنن التي قامت عليها السموات والأرض.
وقد يتقاضانا هـذا أن ننتخب الأصلح، ولو كان من غير قرابتنا، وأن نؤثر [ ص: 52 ] بالوظيفة فقيرا ونطرح غنيا، وليس يقدر على هـذا إلا... الرجال..
وحب النفس من طباع البشر، فإلى أي مدى يهيمن هـذا الطبع على مسالكنا؟ إن السيارة تقدم، فيسبق الرجل المرأة، ويتخطى الكبير الصغير، ويتحرك هـذا الشعور الهابط في عشرات المعاملات! الكل يقول: نفسي نفسي! فهل هـذا السلوك هـو التفسير المنتظر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ؟.
هل وضعنا تنفيذا عمليا يكفكف شرور هـذه الأنانية الصغيرة، ويواري هـذا الإحساس الحيواني في دماء الناس؟
إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ونكاد نحن نكون قد قررنا التقصير في كل شيء!
وقد بحثت عن السبب وراء هـذا الخراب النفسي، وهديت إلى شيء قد يكون الحق، أو بعض الحق، إن المغالاة في تقدير الجانب الغيبي من الدين تتم على حساب الجانب العملي أو الواقعي، وهذا خطأ!
رأيت تاجرا يبيع السلعة لأحد الناس بأغلى من سعرها، فقلت له: لم تغبن هـذا المشتري وهو مسترسل معك؟ قال: ألا تعرفه، إنه فلان الذي ينكر كرامات الأولياء! قلت: ينكرها أو يقرها، يجب أن تعامله بشرف! قال: هـذا قليل الدين و.... قلت له: ليكن يهوديا أو نصرانيا فاستغلاله لا يجوز، والخداع حرام مع المؤمن والكافر..!! أتظن إيمانك بالكرامات مسقطا لفضائل الأخلاق..
ولاحظت أن شابا يتكلم بحقد عن أحد الدعاة، قلت: ما تنقم منه؟ قال: ما يعرف السنة، ألا ترى إسباله لثوبه؟ وما يحسن الصلاة! يقعد وقدماه على هـيئة كذا!! قلت: تكره مسلما وتتمنى له الشر لهذه الصغائر؟ إن [ ص: 53 ] تضخيم هـذه الأمور دليل مرض نفسي، ومعصية قلبك أبعد عن المغفرة من اضطراب مظهره، ولعله أقرب إلى الله منك..!!
وعلى هـذا النحو ترى رجلا يتبع مذهبا في العقيدة، أو في فقه الفروع، فيحسب أن اهتداءه إلى هـذا المعنى، أو إلى هـذا المسلك، قد جمع له المجد من أطرافه، فلا حرج عليه أن يتصرف كيف يشاء، وكأنما قال الله له: افعل ما شئت فقد غفرت لك!!
ومن هـنا استهان كثير من الذاكرين، أو الدارسين لبعض السنن، بمعاقد الأخلاق وقواعد الآداب، كما استهانوا بشئون الحياة، وضبط مجراها وامتلاك زمامها، فكانوا نكبة على الدين والدنيا معا، ولقي الإسلام على أيديهم هـزائم نكراء!!
والأمراض الخلقية التي تصاب الأمم بها، مع انتشاء الفساد السياسي كثيرة، وهي تختلف من عصر إلى عصر، ولسنا بصدد إحصائها، وإنما نتساءل فقط: ماذا يعنيه تزوير الانتخابات في قطر ما؟؟
إن هـذا التزوير يحدث دمارا أخلاقيا أوسع من الدمار المادي الذي يحدثه أي زلزال رهيب! جيش من الرجال ذوي المناصب الكبرى والصغرى يتحول إلى خلية نحل في مصنع للأكاذيب واسع الدائرة، هـادر الآلات، يعاون بعضه بعضا في اختلاق الآراء وتسجيلها، وتصعيدها وترحيلها من بلد إلى بلد، ثم تلتقي آخر الأمر كما تلتقي شبكة المجاري القذرة لتخبر العالم كله أن فلانا أحرز من أصوات الناخبين كذا وكذا... ونجح نجاحا كاسحا...!!
وعندما يمسي الناس ويصبحون على هـذا التكاذب المفضوح، أيكون الصدق عملة رائجة أم مزجاة؟ أتستقر في المجتمع تقاليد الشرف أم تقاليد اللصوصية؟ أيتقدم أهل الأدب والتقوى أم يهال عليهم التراب؟ [ ص: 54 ]
إن دعائم التربية تحتاج إلى حراسة مشددة بعد أن يتم استنقاذها من هـذا البلاء المبين..!
وعرض ثقافتنا الذاتية على الناس في هـذه الأيام ينبغي أن يصحبه ما اكتنفها على مر العصور.. ونحن نذكر على عجل أن المسلمين في العصر النبوي، ثم في عصر الخلافة الراشدة، لم تكن لديهم هـذه البحوث المطولة في أصول الدين وفروعه، كانت آيات أو سور من القرآن الكريم، وجملة من الأحاديث الصحيحة هـي كل ما يعرفون - حاشا المتخصصين وأهل الفتوى - وكان فقه العبادات يتناقل بالأسلوب العملي.. ثم يتوجه الجمهور بعد ذلك إلى الكدح والجهاد وإعلاء كلمة الله!!
ثم استفاضت الدراسات الدينية، وكثرت البحوث في كل ميدان.. ترى هـل هـذه السعة للتحلي والتسلي أم لمزيد من الخشية والتقى..؟
المقرر عندنا أن المرء مسئول عن علمه ماذا عمل به؟
والذي رأيته وأنا أعمل في ميدان الدعوة من أربعين سنة أو يزيد، أن أكثر هـذه المعارف فضول، وأن الناس يقبلون عليها تزجية للفراغ، ومدافعة للبطالة.. وأن عشر ما يعلمون يكفيهم في فقه الإسلام كله، ويبقى عليهم بعد ذلك أن ينصرفوا إلى العمل المثمر.
والقرن الرابع عشر ينتهي، ثم يجيء القرن الخامس عشر، ومشكلات الأمة الإسلامية تتعقد وتتضاعف..
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبة!
الأعداء تنمو أطماعهم، وتربو ضغائنهم، وتتقارب مسافة الخلف بينهم، والتخلف الحضاري عندنا يثير الأسى، ومع ذلك كله فإن بعض حملة العلم الديني يستحيي من الآراء المدفونة ما يثير الغثيان! [ ص: 55 ]
وبدلا من أن يوجه شباب القرن الجديد إلى العمل المناسب لخدمة دينهم، يديرهم في حلقة مفرغة من القضايا التي أوجدها الفراغ أيام الفراغ..
قلت لواحد من هـؤلاء: إن الفكر الديني سمن ونما له كرش من هـذه القضايا، وما تعود له صحته إلا إذا ذهبت هـذه السمنة، واختفى هـذا الكرش، واشتغل المسلمون بعلوم الحياة التي ينصفون بها دينهم المحرج، ويردون بها أعداء متوقحين..
وهنا نتكلم عن الثقافة الأخرى المقابلة لثقافتنا التقليدية، أو العلم الذي لا وطن له كما يقال!
لقد فكرت يوما في ((المطبعة ومخترعها)) ووددت لو أن هـذا المخترع النابه رجل مسلم عربي أو غير عربي، فإن المعروف لدينا أن أول كلمة في وحي الله لنبينا ((اقرأ)) لكن هـذا الجهاز بدأ ساذجا في الصين ، ثم تحسن كثيرا في ألمانيا ، وبلغ حدا من الكمال في هـذه الأيام بعيدا عن أرض الإسلام!!
تساءلت: لماذا؟
إن هـذا الاختراع وغيره ولد ونما بعيدا عن مجتمعاتنا، فهل نحن بشر دون البشر؟
وسمعت صحافيا يقول عن خبرة: إن الصحراء الغربية مليئة بالنفط.
فقلت: لماذا لا يستخرج؟ قال: إن الشركات الأجنبية ترجئ ذلك إلى حينه!
قلت: وما دخل الشركات الأجنبية؟ قال: هـي التي تملك أدوات التنقيب، وتتعرف بأجهزتها على الأماكن الحافلة بالمادة الثمينة!! وهمست إلى نفسي ونحن لا نعرف الأماكن، ولا نملك الأدوات، لماذا؟ [ ص: 56 ]
ويجب أن نعرف الإجابة على هـذه الأسئلة! إننا لسنا فوق المساءلة! إن المسلمين الآن خمس العالم أو ربعه، ولهم دينهم ودعاواهم وآمالهم! لقد كان المفروض أن يكونوا للعالم مرشدين، فماذا أزرى بهم؟ وكان مفروضا أن تكون يدهم العليا بالعطاء الأدبي والمادي فماذا عراهم؟
هل لدينهم أثر في هـذا العجز؟ والجواب السريع: كلا كلا، فما يوجد كتاب ينتمي إلى السماء فيه تنشيط للعقل، وإطلاق للمواهب كالقرآن الكريم! وماذا بعد أن يقال للناس إن الله سخر لكم الكون كله، سماءه وأرضه، فاهبطوا واصعدوا وسيحوا وقروا كيف تشاءون ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة .. ) !! (لقمان: 20).
هل المسلمون دون البشر، ففي بصرهم قصر، وفي فكرهم ضحالة، وفي هـممهم بلادة؟؟ كلا كلا، فقد سادوا العالم كله أعصارا، ودخلوا في عراك فناء أو بقاء مع أعتى أمم الأرض، وخرجوا من ميادين الوغى منتصرين بعد جلاد وحشي!!
إذن ما السبب فيما عرا العقل الإنساني - بعد - من خمول - وما أصاب جماهير المسلمين من كلال سلط عليهم ذئاب الأرض تنهشهم من كل جانب، ذئاب الأرض؟ لا بل ذبابها.!؟
إن يهوديا من (( لوس أنجلوس )) بالولايات المتحدة جاء إلى فلسطين يطلق الرصاص على أهل ((الخليل)) يريد استخراجهم من مساكنهم واحتياز الأرض لنفسه!
إن البغاث بأرضنا يستنسر!! [ ص: 57 ]