الفصل الحادي عشر
المذهبية والمصطلح الحضاري
إذا أردنا أن تتغير أوضاعنا الحضارية في ضوء المذهبية الإسلامية، فلا بد أن تكون مصطلحاتنا الحضارية تعبر تعبيرا دقيقا عن حقائقها وطبيعتها ووحدتها الداخلية ومنظومتها المتميزة؛ لأن في ذلك الصفاء ووضوح الرؤية واستقامة المنهج، ولأن التغيير الحضاري في أي مجتمع إذا قاده التلفيق بين مجموعات اصطلاحية، تنتمي إلى منظومات حضارية مختلفة فإن التغيير يفقد التخطيط الموجه ويدخل في إطار الفوضى في الفكر والممارسة، فيؤثر ذلك في كيان المجتمع كله. [ ص: 111 ]
وفوضى الاصطلاحات من جهة أخرى دليل عدم الأصالة، وبرهان عدو وجدان الذات، وفقدان للخصوصية الحضارية.
ومن المشاكل الفكرية الخطيرة التي تعاني منها في مرحلتنا الحاضرة، تشابك الاصطلاحات التي تنتمي إلى حضارات متضادة في كل شيء، والتي لم تستطع إلى الآن أن تضعنا على طريق الفهم الحضاري المشترك والاتفاق ولو على أصول مذهبية واحدة، وبذلك فقدنا الانسجام الفكري والأرضية المشتركة للتفاهم في مجتمع مشتت الفكر، لم تتوضح أمامه الرؤية المذهبية بعد:
فمن أهل الفكر من يدعو إلى استعارة المصطلحات الحضارية الأجنبية دون تردد، لأنها أصبحت لغة عالمية، فهم لا يرون مانعا من استعمال كلمات اليمين واليسار، والديمقراطية والثيوقراطية ، والطبقة والحكم الإلهي المطلق، ورجال الدين والصراع والثورة، والرأسمالية والماركسية والاشتراكية ... وما إلى ذلك، على أساس أننا لا بد أن نعيش - في زعمهم - عصرنا ونفهم مصطلحاته ونستعملها حتى يفهمنا الناس، ويتوحد فكرنا على أساسه وتظهر آثار التقدم والتطور في حياتنا ونتحرر من المصطلحات التراثية التي أكل عليها الدهر وشرب.
ويصرحون بأننا لا بد لنا أن نسقط لغتنا العقيدية الخاصة ونتبنى لغة المصطلحات الحديثة الشائعة حتى نصل إلى لغة مشتركة للحوار بين الاتجاهات الفكرية داخل ثقافتنا وبين حضارتنا وحضارات أخرى.
هذا واحد منهم يقول:
وقد حدثت ظاهرة لغوية فريدة هـي ظاهرة (التشكل الكاذب ) [ ص: 112 ]
عندما أسقطت الحضارة الإسلامية الناشئة لغتها العقائدية الخاصة ووضعت محلها لغة العصر لغة الحضارات القديمة وليست بالضرورة اللغة اليونانية لأنها كانت لغة العصر في ذلك الوقت وعبرت عن مضمون الحضارة الإسلامية التي لم تعد اللغة الدينية القديمة قادرة على التعبير عنها وعن كل إمكانياتها. وهي في مواجهة حضارات مجاورة تنتشر فوقها تحتويها وتتمثلها. لم يعد لفظ (الله ) يعبر عن مضمونه (كذا ) بل كانت ألفاظ (المحرك الأول ) (العلة الأولى ) (الصورة المفارقة) (الواحد ) (العقل العاقل والعقول ) (اللانهائي ) إلى آخر هـذه الألفاظ التي استعملها الفلاسفة قديما وحديثا للدلالة بها على مضمون التنزيه ومع ذلك ظل المضمون الأول وإن تم الاستغناء عن الشكل وهو اللفظ [1] .
إن مقارنة موقفنا الحضاري بمواقف أسلافنا من الحضارات الأخرى، مقارنة تفتقر إلى الأساس المشترك، وهذا الأساس مفقود هـنا لما يلي:
- الأول إن أسلافنا عندما واجهوا الحضارات الأخرى، كانت مذهبيتهم الإسلامية، تسيطر على حياتهم وتوجه حضارتهم. وكانت دولتهم أقوى الدول. ولم تكن هـنالك مذهبية أخرى تستطيع أن تشكل خطرا على مذهبيتهم الإسلامية بتفاصيلها الدقيقة، فلم تكن مشكلة الضياع والذوبان مثارة يومئذ أصلا، بل هـم كانوا يفتحون عقولهم وقلوبهم لدينهم وحضارتهم وجوانب حياتهم المشرقة. [ ص: 113 ]
ونحن اليوم بعكس أسلافنا. كياننا السياسي الإسلامي ممزق، وحضارتنا الإسلامية قد سقطت منذ زمن بعيد. لا بد غزتنا الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الغربية غزوا يكاد يكون كاملا، بحيث فقدنا شخصيتنا المستقلة.
فنحن اليوم عندما نختار لسنا أحرارا كأسلافنا؛ منطلقاتنا الفكرية ليست واضحة، رؤيتنا لما حولنا لا تتحكم فيها عيون سليمة، حياتنا الاجتماعية والحضارية غير مخططة، لا لون لنا، لا نمط متميز لحياتنا.
فهل وضع أسلافنا ووضعنا متماثلان؟ حتى نجمع بينهما ونتصرف على أساسهما ونختار، هـذا إذا كانت القضية التي نواجهها تشبه التي واجهوها، فكيف إذا كانت القضيتان مختلفتين؟
- الثاني إن المصطلحات التي نواجهها اليوم تختلف اختلافا كبيرا عن المصطلحات التي واجهها أسلافنا؟ لأن المصطلحات في عصرنا ليست ألفاظا لغوية أو أوصافا لعلم من الأعلام، وإنما هـي مصطلحات تكمن وراءها منظومة حضارية تختلف في مقدماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطنا الاجتماعي.
فلو جئنا إلى لفظ الجلالة (الله ) سبحانه وتعالى نجد أنها اسم علم، يدل على الفاطر أو الخالق أو المبدع، وهو المعبود الحق الذي لا معبود سواه. فإذا وصفنا هـذا الخالق بأنه (العلة الأولى ) أو (المحرك الأول ) [ ص: 114 ] أو (الواجب الوجود ) . لم تتغير الحقيقة، لأن الباري تعالى يتصف بهذه الأوصاف جميعا، ثم إننا لم نبتعد بإطلاقنا تلك الألفاظ عن دائرة الفهم اللغوي المباشر. واستعمال هـذه الألفاظ لا يستدعي أبدا إدخال معنى آخر بجانبه. ومن استعمل من الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد ، مضامين أخرى بجانب تلك الألفاظ، لم يأخذوها لأنها مضامين تدخل في معنى تلك المصطلحات. وإنما هـم أخذوا فلسفة أرسطو الإلهية بكاملها وظنوها صحيحة تسند المذهبية الإسلامية. أو ظنوا ذلك دفعا للتعارض بين العقل والنقل.
والحقيقة أنه لم يكن هـنالك تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، بل كان هـنالك تعارض بين النقل وبين أقوال ( أرسطو ) وفلسفته الإلهية ذات التأثيرات الوثنية [2] .
أما ما نحن اليوم فيه من المصطلحات الحضارية، فلها وضع آخر غير الوضع الذي تحدثنا عنه. فلنتكلم على وضع كل مصطلح متى نركن إلى الحقيقة فيه.
الرأسمالية الرأسمالية ليست معنى لغويا صرفا، ولا هـي مجمل في المعنى، وإنما تدل دلالة قطعية على نظام اقتصادي حر، لا يرتبط بقاعدة أخلاقية في الحصول على التملك أو كيفية الحصول عليه. وفوق ذلك [ ص: 115 ] فإنه نظام يتأسس عليه حكم معين وتترتب عليه نتائج تولد المآسي والمظالم لا تقف عند المجتمع الرأسمالي وإنما تتجاوزه إلى مجتمعات أخرى.
فكيف يمكن أن نجيز موضوعيا لباحث إسلامي يصف الاقتصاد الإسلامي بأنه اقتصاد رأسمالي لمجرد أنه يبيح الملكية الفردية بشروطها المعروفة في الشريعة الإسلامية.
إن الاقتصاد الإسلامي يتفرع من مذهبية إسلامية شاملة متكاملة لها جوانب كثيرة مترابطة، مقدماتها وموضوعاتها ونتائجها تختلف جذريا مع الاقتصاد الرأسمالي.
الشيوعية هذا المصطلح، ليس معنى لغويا بحتا وليس مجملا، وإنما يدل على نظام خاص محدد، له تفسيره المادي لشئون الكون والمجتمع والإنسان، وتتفرع منه أنظمة تنسجم مع مقدماته ذات التفسير المادي للتاريخ، منها النظام الاقتصادي المبني على تحريم الملكية لأدوات الإنتاج، وسيطرة الدولة الكاملة على توجيه النشاط الاقتصادي في المجتمع.
فهل يمكن أن نكون علميين إن قلنا: إن النظام الاقتصادي الإسلامي هـو نظام شيوعي أو شبيه بالشيوعية ، لأن اتجاه الاقتصاد الإسلامي هـو اتجاه جماعي، أو لأنه يبيح للإمام التدخل في الأوضاع الاقتصادية وإعادة [ ص: 116 ]
التوازن إلى المجتمع، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، زد عليه أن النظام الاقتصادي الإسلامي هـو جزء من كل يختلف أساسا عن الكل الحضاري الذي تنتمي إليه الشيوعية.
الديمقراطية كلمة يونانية الأصل تتكون من مقطعين، الأول يعني الشعب والثاني يعني الحكم، ومعناه أن يحكم الشعب نفسه بنفسه مباشرة أو عن طريق الممثلين الذين يختارهم في مجلس النواب، وهو نظام علماني، ليس فيه محور ثابت لحركة التغيير، بل إن الشعب عن طريق نوابه يغير حياته كما يشاء من دون ارتباط بقيمة ثابتة.
وهذا المعنى يختلف عن النظام السياسي الإسلامي الذي ينبثق من المذهبية الإسلامية التي تستند نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القاطعة، ولكن لها الحق أن تغير ما يتعلق بالأمور الدنيوية التي تخضع لتغييرات الحياة في داخل الضوابط المستنبطة من الكتاب والسنة وطبيعة اللغة وحقائق المنطق العام، فكيف يمكن أن نسمي النظام الإسلامي بعد ذلك بالنظام الديمقراطي الإسلامي.
الثيوقراطية وهي عبارة عن كلمتين في اليونانية: (ثيو) معناه : ديني [ ص: 117 ] و (كراتيس ) معناه: حكم، وهو الحكم، القائم على التفويض الإلهي، أي أن الحاكم يختاره الله فيحكم باسمه ويستمد منه سلطته، يحيط به جمع من الكهنة يسيطرون على الناس ويستغلونهم.
وهذا المعنى النابع من التاريخ الأوروبي لا ينطبق على مفاهيم الحكم الإسلامي، لأن إمام المسلمين أو خليفتهم، لا يختاره الله، بالمعنى السابق ولم يفوض إليه أن يحكم باسمه، بل تختاره الأمة، فينوب عنها في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. ثم إنه لا توجد طبق كهنة أو رجال الدين في الإسلام، وإنما يوجد العلماء، شأنهم شأن غيرهم من العلماء في العلوم والآداب والفنون، وليس لهؤلاء العلماء الاجتهاد في موضع النص القاطع الثابت بالوحي الإلهي.
فإذن كيف يمكن أن يستعمل هـذا المصطلح للدلالة على الحكم الإسلامي؟
اليمين واليسار من التعابير الاصطلاحية التي أصبحت مرتبطة بنظم الحكم وبالمذاهب السياسية والأحزاب المعاصرة، نشأ اللفظ أصلا مع قيام الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1789م التي مهدت لقيام الثورة. إذ كان النبلاء من أعضائه يجلسون في مكان الشرف إلى يمين رئيس المجلس بينما كان يجلس ممثلو الشعب إلى اليسار، ثم شاعت في المجالس الأوروبية، أن يجلس المحافظون في اليمين والراديكاليون التقدميون في اليسار،ثم توسع في استعمال اللفظ، فأطلق اليمين على المحافظين واليسار على الثوريين أو [ ص: 118 ] التقدميين [3] .
إذن فهذان المصطلحان يرتبطان بما حدث من تطورات سياسية في داخل المنظومة الحضارية الغربية، ولهما دلالات ترتبط بهما ارتباطا عضويا.. فكيف يمكن أن يوصف ما جرى في تاريخ الإسلام بهذين المصطلحين؟!
إن الإسلام كان له مصطلحان معروفان، وهما الحق والباطل، فأهل الحق هـم معروفون لمن يعيش في إطار المنظومة الحضارية الإسلامية، وكذلك أهل الباطل. ولو نقل المصطلحان إلى الحضارة الغربية، لم يفهم أحد معناهما لأنه لم يستعملهما أحد داخل المنظومة الحضارية الغربية.
وهكذا الأمر بالنسبة للمصطلحات: ( الاشتراكية ) و ( الدكتاتورية ) و ( الرجعية والتقدمية ) ... وغيرها، فهي ثمرة تطور النمط الحضاري الغربي لا علاقة لها بتاريخ الإسلام وحضارته وتطور الحياة فيه.
على أنه توجد مصطلحات أخرى لا ترتبط بمنظومة حضارية معينة، ولو قيدتها بمعان خاصة بها وبالمبادئ التي تفرعت منها عند استعمالها. فألفاظ مثل: (الثورة) أو (الطبقة ) أو (التقدم) كانت ولا تزال مستعملة في ثقافات شتى، فمن الناس من يستعملها على إطلاقها ومنهم من يستعملها مقيدة. فهي عندئذ بمثابة الألفاظ المجملة. فعند إطلاقها [ ص: 119 ] لا بد لنا أن نبحث عن المعنى المقصود في السياق، حتى نحدد موقفنا منه بدقة. فالسياق هـو الذي يحدد معنى قول الماركسي (ثورة الطبقة ) والديمقراطي (الثورة الفرنسية ) والإسلامي (جاء الإسلام ثورة على المجتمع الجاهلي ) .
فلو سألنا الماركسي:
ماذا تقصد بكلامك؟
أجابنا:
أقصد بثورة الطبقة ثورة الطبقة التالية على الطبقة السابقة عليها كثورة البورجوازية على الإقطاع وكثورة العمال على البورجوازية بشروطها التاريخية.
ولو سألنا الديمقراطي أجابنا:
هي ثورة الشعب الفرنسي على المظالم التي كانت سائدة قبلها.
ولو سألنا الإسلامي أجابنا:
أقصد أن الإسلام لما جاء اقتلع جذور الجاهلية وقلبها رأسا على عقب.
وفي رأيي أن استعمال الألفاظ المجملة بسياقها المعرف الذي يزيل كل ليس عند القارئ لا خطر فيه. فالكاتب الإسلامي عندما يقول:
(لا توجد طبقية في الإسلام ) لا يحدث كلامه التباسا عند القارئ، لا سيما أن هـذه الجملة وردت ضمن موضوع يتحدث عن أن الناس كلهم عيال الله. فلا تمايز لجماعة على الأخرى إلا بالتقوى، أي لا طبقية بأي مفهوم من مفاهيمها الظالمة في الإسلام. [ ص: 120 ] فهذا شيء، وقولنا (الإسلام نظام ديمقراطي ) أو (ثيوقراطي ) إلى آخره شيء آخر.
وإذا قيل : ما المانع أن أستعمل تلك المصطلحات، ثم أشرح المقصود بها في كلامي. قلنا: هـذا فساد في الفكر. إذ كيف تصف الإسلام بمصطلح أجنبي استقر معناه، ثم تنتهي إلى ضده؟
والذين يقولون: إن طبيعة الحوار في عصرنا تقتضي استعمال تلك المصطلحات لأنها تشكل جسور التفاهم بيننا وبين أصحابها. نقول لهم: لقد ثبت لنا أن كل علم أو فن أو دين له مصطلحاته الخاصة به. فنحن نستطيع عن طريق الإيضاح والتفسير أن نفهم مقاصدنا للناس. فإذا كنت أكلم مفكرا انجليزيا وقلت له: إن الإسلام (ديمقراطي ) في الحكم. فهم الكلام في إطار مفهومه هـو عن الديمقراطية . والحال أن الإسلام ليس كذلك، إذن فلا بد أن نقدم إليه الحقيقة كاملة حول الإسلام حتى يدرك التمييز الكامل بين نظام الحكم في الإسلام والنظام الديمقراطي. وهكذا في المصطلحات الأخرى.
إن المشكلة الكبيرة في عصرنا أن أبناء القرن الرابع عشر الهجري في العالم الإسلامي الذين عاشوا داخل المنظومة الحضارية الغربية وفي إطار مصطلحاتها، لا يتصورون أن يتم التفاهم إلا بما نشأوا عليه.
إن المذهبية الإسلامية بكلياتها ومصطلحاتها غدت غريبة في مجتمعاتنا الإسلامية. فالمسلمون لا يعيشون في إطارها. فلا بد لمنهج التغيير الذي يتبناه الإسلاميون، أن يلتزم بإطار المصطلحات الإسلامية، حتى ترجع الأصالة الفكرية إلى مجتمعنا فلا نعيش إلى الأبد على فتات [ ص: 121 ] موائد المذهبيات المادية التي توجه الحضارة الغربية المعاصرة.
إن المذهبية الإسلامية تعيش اليوم في معركة ضارية مع المذهبيات المادية العلمانية . واستعمال المصطلحات التي تعبر عنها لن يكون إلا في صالح تمكين أفكارها ونمطها الثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية. [ ص: 122 ]