الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

الدكتور / محسن عبد الحميد

الفصل الثالث عشر

المذهبية الإسلامية وأزمة المثقفين

إن قصور المناهج التعليمية القديمة في العالم الإسلامي عن تقديم المذهبية الإسلامية الشاملة المتكاملة المترابطة إلى الأجيال الجديدة في القرون الأخيرة، ضيع عليها فرصة تاريخية كبيرة، عندما واجه المناهج التغييرية التي وجهتها المذاهب المادية في الثقافات الغربية، بحيث لم تستطع تلك الأجيال أن تدرس وتمحص تلك المناهج المذاهب في ظل رؤية سليمة للمذهبية الإسلامية، فوقعت في عبودية مشينة لها، وألغت عقولها تجاهها، وظنت أنها هـي الحقيقة الكبرى التي انتهت إليها [ ص: 139 ] الثقافات المتطورة، وفيها الحل الأوحد لأزمة الإنسان المسلم وإخراجه من الأزمان القديمة الراكدة إلى الزمن الجديد الذي يصوغ حياته صياغة جديدة، وينقذها من سلبيات القرون الأخيرة، ومآسيها التي حطمت طاقات الأمة وأوقفت مسيرتها التنموية.

إن الفراغ الفكري الذي حدث نتيجة لغياب المذهبية الإسلامية الواضحة وسيطرة فكر الجمود التواكل والخرافة على الأمة، وتوجيه الثقافة المعاصرة من قبل المؤسسات التنصيرية والاستشراقية الاستعمارية كان مأساة تاريخية كبرى في العالم الإسلامي، انتهت إلى عزل أجيالنا المثقفة عن الثقافة عن الثقافة الإسلامية الأصلية عزلا، كاد أن يكون كاملا، في حين سيطرت الثقافات المادية والعلمانية سيطرة تامة على مؤسساتنا الجامعية والتعليمية ودوائرنا الثقافية والإعلامية التي غدت تفكر وتخطط لتغيير الحياة في العالم الإسلامي بمعزل عن الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا، لا بل عدت تلك الدوائر الإسلام بكل أنظمته وشموله فكرا لاهوتيا رجعيا وطبقت عليه المعايير المادية الأوروبية الحديثة ومواقفها تجاه الكنيسة وفكرها من خلال فهم تاريخ الإسلام في ضوء التاريخ الأوروبي الحديث.

إن هـذه المأساة التاريخية حدثت في ظل جهل مركب بالإسلام دينا وحضارة وتاريخا، ثم عدم الاستعداد لتصحيح الخطأ الكبير والانحراف المشين والجهل الفاضح.

إن كل المعنيين بتاريخ الإسلام في العصر الحديث، لاحظوا ثمار تلك المأساة من خلال الاحتكاك الواقعي ومن خلال دراستهم لأنماط [ ص: 140 ] الكتابات التي تتحدث عن مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفلسفية.

إن مئات الدراسات الجامعية وغير الجامعية وعشرات المجلات الفكرية والدوريات العامة كانت تمشي في خطين متوازيين:

أولهما:

تجاهل الإسلام تجاهلا كاملا.

ثانيهما:

الجهل المركب به وبحضارته وقضاياه.

كان الناس يقرأون على سبيل المثال، في كتب الاقتصاد، في الجامعات وغيرها، كل شيء حول الاقتصاد ومذاهبه وتاريخه، دون ذكر أي شيء عن الاقتصاد الإسلامي، علما ومذهبا وتاريخا، وإن ذكر فيذكر خلال جهل مركب وسخرية واستهزاء.

لقد سئل أحد أكابر الاقتصاديين العرب الماركسيين في قاعة إحدى الجامعات العربية، عما يعرفه حول الاقتصاد الإسلامي، فأجاب:

لم أقرأ حول هـذا الموضوع أي شيء.

وسئل آخر، فأجاب مستهزئا:

(أستطيع أن أقول إن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد رأسمالي بدائي ) .

وعندما سأله الطلبة أن يعطيهم بعض المصادر حول الاقتصاد الإسلامي قال:

تستطيعون مراجعة كتاب الخراج لأبي يوسف ، وعندما راجعني [ ص: 141 ] بعض هـؤلاء الطلبة، فأعطيته قائمة بأسماء الكتب الاقتصادية الإسلامية الحديثة ومن بينها عدة رسائل جامعية فواجه بها الأستاذ في قاعة الدرس، أخفى الأستاذ موقفه الجاهل المخجل بقوله:

(أنا أدرس الاقتصاد وليس الدين ) !!..

وإذا التفت إلى كثير من علماء القانون والاجتماع والفلسفة وعلم النفس وغير ذلك من مظاهر الثقافة في المجتمع الإنساني تجد هـذا الجهل واضحا وضوحا كاملا.

وقد يقول قائل: إنكم تظلمون المثقفين المعاصرين، فكيف يجوز أن يجهل كبار مثقفينا الإسلام ؟

نقول ... استمع إلى واحد من أكابر أساتذة الفلسفة المعاصرين يعترف بهذه الحقيقة، وهو الدكتور زكي نجيب محمود الذي يسمونه بفيلسوف الوضعية المنطقية في العالم العربي:

لم تكن قد أتيحت لكاتب هـذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي - قديم أو جديد - حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هـو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هـذه الحال مع كاتب هـذه الصفحات أعواما بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوربي تدريسه وهو أستاذ، والفكر [ ص: 142 ] الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ ...

استيقظ صاحبنا - كاتب هـذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هـو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان كأنه سائح مر بمدينة باريس ، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقي بالنظرات العجلى هـنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل ... [1] .

نعم لقد بدأت الصورة تتغير ببطء خلال العقود الأخيرة، بعد أن تحررت الدراسات الإسلامية الحديثة من كتب المتأخرين المغلقة ومن أساليب التعليم العقيمة ومظاهر عصر التأخر، وقدمت في جميع فروع الفكر الإنساني أنظمة الإسلام التفصيلية في دراسات جامعية، تعتمد البحث والاستنتاج والمقارنة في ضوء أصول الإسلام ومتغيرات الحياة الجديدة، بحيث اقتحمت تلك الدراسات العميقة الناضجة مجالات الثقافة الواسعة على الرغم من العوائق الكبيرة التي توضع أمامها من حيث المنع أو الإعلام أو النشر أو النقد، فبدأ كثير من الباحثين والعلماء في مختلف نواحي العلوم الإنسانية يعيدون النظر في مواقفهم ويخرجون من قوقعة ثقافاتهم الأوروبية، ليدرسوا عقيدتهم وشريعتهم وما قدمه مفكروهم عبر التاريخ من دراسات ونظريات. [ ص: 143 ]

ونستطيع أن نصنف أولئك المثقفين إلى صنفين:

صنف كانت دراساته للإسلام ومنهجه وحضارته عميقة شاملة، انطلق فيها من خلال حب الوصول إلى الحقيقة فوصل إلى نتائج باهرة، وأعلن في كتبه ومحاضراته التزامه بالإسلام ومبادثه العامة الملزمة للمسلمين في كل عصر [2] .

وصنف آخر لا يزال يصارع ثقافاته الماضية التي شكلت بقوة خلفيته الثقافية واقتناعاته الإنسانية. وهذا الصنف يدرك من الإسلام بقدر ما يبذل من جهد وصدق نية، وبقدر ما يحمل نفسه على التخلص من التعصب والرواسب والهوى.

والحق أن هـناك أسبابا كثيرة تحول بين الصنف الأخير وبين عودته إلى رحاب الإسلام نستطيع أن نعرضها على الوجه الآتي:

- الأول:

إن الإنسان الذي تربى على مصطلحات وأفكار الثقافات الأجنبية وشاب عليها من الصعوبة البالغة أن يتحرر منها، لأنه تعود أن ينطلق منها ويفكر خلالها، فهو إن لم يقرأ الإسلام وحضارته قراءة عميقة من داخله وفي إطار مصطلحاته ووحدته، لا يمكن أن تحدث في كيانه هـزة عميقة، تحوله إلى خط الإسلام الواضح.أما الاكتفاء بمراجعة بعض جوانب الفكر الإسلامي أو قراءة جانب من جوانب ما يسمى بـ (التراث) فهو قد [ ص: 144 ] يصحح بعض المفاهيم والأخطاء ولكنه لا يكفي لنقل صاحبه إلى الخط الإسلامي الصحيح لا سيما إذا كانت قراءته سطحية سريعة اقتصرت على بعض مظاهر التطور في الفكر الإسلامي الذي لا يخلو من سلبيات قد يحسبها على الإسلام نفسه [3] .

- الثاني:

قد ينطلق الباحث من ثقافته الغربية ويحاول أن يسقطها على الإسلام وحضارته ودراسة مفكريه، أي إنه يحكم من خلال ضوابط وخصوصية نمط حضاري على نمط آخر يختلف عنه اختلافا جذريا، وهذا على القطع يقود إلى الخطأ في النتائج، فبعض الباحثين على سبيل المثال يدرسون من خلال فكرهم العلماني الغربي سواء أكان ماركسيا أم ليبراليا ( ابن رشد ) فيجدون أنه يدعو إلى أن يمشي البرهان الفلسفي في طريقه والدين في طريقه، فيظنون أن ابن رشد يدعو على فصل طريق العقل عن الدين، فيسقطون على مقولة ابن رشد علمانيتهم فيقولون: إن العمانية ليست جديدة وإنما هـي من صلب أفكار مفكرينا القدماء، لا يسما من أصاب المذاهب العقلية الفلسفية، ويوهمون الجيل الجديد أن العقلانية الحديثة أو العلمانية الحديثة لا تشكل خطرا على الإسلام ولا تصطدم معه.

بينما هـم ينسون أن ابن رشد كان يفكر في إطار الحضارة الإسلامية، [ ص: 145 ] وقوله طريق العقل وطريق الدين لكل بناؤه الداخلي، يعني من وجهة نظره، أن للعقل أساليبه الخاصة في التفكير وللدين طريقه في الوصول إلى الحقيقة، إلا أنهما يلتقيان في الحقيقة عينها، أي إن ابن رشد يقول لنا:

إننا إذا اقتصرنا على البرهان العقلي فلا محالة أن نصل إلى ما قرره الإسلام في أصوله من حقائق عليا.

وهذا واضح جدا في كتابه (فصل المقال ) و (مناهج الأدلة ) وكتبه الفلسفية الأخرى.

- الثالث:

وهنالك باحثون آخرون

[4]

ينطلقون في فهم الإسلام من خلال واقعه التاريخي الفكري في مجالات العلوم الإنسانية كلها. وهذا الواقع يحمل خصائص الفكر الذاتي وأخطاء وقصور العقل البشري، كما يحمل سلبيات وانحرافات المراحل المتتابعة التي نتجت من الاحتكاك المباشر بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى، وكذلك المخططات الثقافية التي نسج خيوطها الأعداء في أوكار التآمر على الإسلام وأمته خلال تاريخه الطويل. [ ص: 146 ]

إنهم لا يدركون أن الإسلام من حيث هـو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان وأن الثقافات المتنوعة التي نسجت حوله، تمثل أشخاصا وعصورا، ومن هـنا فلا بد من الفصل الكامل عند الحكم بين الوحي والفكر أو الوحي والتراث حتى تكون المراجعة واضحة ومفيدة.

هل يكون تقبل ابن سينا لأفكار أرسطو وغنوصية الشرق ممثلا للإسلام نفسه؟ وهل كل ما يقوله المعتزلة والأشاعرة والمتصوفة ، يمكن أن يكون هـو الإسلام نفسه؟ أم هـو الفكر المتأثر بالحضارات الدخيلة وطبيعة الصراعات المرحلية، وهل كل ما يقوله الفقهاء يجب أن يحسب بالتالي على الإسلام.

إن الذي يريد أن يحكم على هـذه القضايا المصيرية الخطيرة، لا بد أن يعرضها على أصول الإسلام القاطعة في الكتاب والسنة، إن كان لا يزال يعتقد بعصمة الوحي الإلهي.

إنني أعتقد اعتقادا جازما أن التطورات الثقافية في العالم الإسلامي في صالح المذهبية الإسلامية. إذ ما من يوم تشرق الشمس فيه على العالم إلا ويظهر دليل جديد على أحقية مذهبية الإسلام في الكون والمجتمع والإنسان.

إننا ندعو المثقفين الذين لا يزالون مسلين أن يدرسوا الإسلام دراسة شاملة ومختصة كل من خلال اختصاصه، حتى لا يحكموا على قضايا الحياة من جانب واحد، يبعدهم عن الإسلام ومذهبيته الواضحة في الوجود. على أن يكون في ذلك الوصول إلى الحقائق كما هـي، في ضوء منهج علمي موضوعي، بعيد عن المناهج المسبقة، والمصطلحات [ ص: 147 ] المادية ، والمبادئ التي تعود إلى منظومات حضارية تتنافى مع أصول الإسلام.

إن المسلم الذي يعتقد أن الإسلام هـو دين الله الخاتم يفرض عليه منطق الإيمان أن ينطلق من أصوله وفي إطار ضوابطه وقواعده، ولا يجوز أن يتخذ من الثقافات الأجنبية والمذاهب المادية والاتجاهات العلمانية التي آمن بها في غياب فهم صحيح للإسلام، حجة على الإسلام، يحاول أن يحرف مبدئه وضوابطه في سبيل أن يسوغ خلفيته الثقافية الأجنبية التي شكلتها ثقافات متنوعة تصطدم مع الإسلام في أصوله وقواعده وأنظمته الحيوية.

على هـؤلاء أن يذكروا موقفهم بين يدي رب العالمين، إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، عندما يحاسبهم الله تعالى عما ارتكبوه من الأخطاء والآثام بحق دينهم وأمتهم، لأنهم لم يتبعوا طريق الإسلام الحق، بل شوهوا الحقائق وحرفوا الشرائع، وزيفوا الأفكار، فاقتدى بهم كثيرون من أبناء جيلنا الحائر القلق.

إنهم يحملون أوزار هـؤلاء مع أوزارهم، نرجو الله تعالى لهم الهداية والاستقامة، ولنا الثبات على دينه، ونعوذ بالله تعالى في ختام هـذه الصفحات من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونردد بإخلاص قوله تعالى على لسان المنيبين إليه:

( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هـديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ) . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 148 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية