إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده ولا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فصلوات الله وسلامه على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.. وبعد:
فلقد كثر الكلام في هـذا العصر عن المنهجية والفكر المنهجي، حيث أصبح لكل علم منهجه الذي يضبطه بكلياته وجزئياته، ونحن لا ننكر، ولا يجوز لنا أن ننكر، أن العالم من حولنا قد تقدم في مناهج البحث والتفكير، كما تقدم في منهاج العمل والتطبيق، وأصبحت فروع المعرفة ترتبط ارتباطا عضويا لا عفويا.
ولكن هـذا التقدم يأخذ طابع الشكلية المنهجية أكثر مما يأخذ طابع الحقيقة المنهجية، وها نحن نجد الكثير من الباحثين يأخذون بالطريقة المنهجية في التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والأخلاق، ولكنهم لا ينطلقون من البدايات الأصولية المنهجية، وإنما ينطلقون من فروض تحكمية، ويكفي - مثالا على هـذا - [ ص: 15 ] أن هـذه المناهج تنطلق من تصور منحرف يدعي العلمانية القائمة على فصل الكون عن الخالق، وقد يغرب هـذا التصور فينطلق من إنكار الخالق، وهذا أصل الانحراف والضلال في المناهج الحديثة، وهو الذي يبعدها عن الحقيقة المنهجية.
ولقد أنطلق القرآن الكريم يؤصل هـذه المنهجية الحقيقية منذ نزول أول آية منه: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) [العلق:1]،
حتى آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281]،
ولقد فصل القرآن الكريم بين مرحلتين من تاريخ المنهجية: مرحلة الأسطورة والفكر المثالي الغارق في الخيال، والفكر الحسي الغارق في الأوحال، وغير ذلك من أنواع الضلال، فهدم كل هـذا ولم يبق إلا على القليل من الخير فيه، ومرحلة الهدى وهي المنهجية الحقيقية الأصولية التي مدت ظلالها إلى جميع فروع المعرفة، ومن هـذه المنهجية القرآنية استمدت جميع المناهج الإسلامية، ومن بينها منهجية علماء الحديث.
هذه القضية المنهجية هـي الفكرة الأولى في هـذا الكتاب "الفكر المنهجي عند المحدثين" الذي جاء تأليفه استجابة لرغبة سعادة وكيل رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر على إثر محاضرة ألقيتها بدعوة من الرئاسة كان موضوعها "منهجية علماء الحديث"، وكان لها صدى طيب في أوساط المثقفين المسلمين، ولا سيما بعد نشر خلاصتها في مجلة الأمة الغراء ثم في "المسلمون" الغراء، [ ص: 16 ] وقد كتب إلى بعض القراء يطلب مزيدا من التوسع في هـذا الأمر، فوجدت فسحة من الوقت أمكنني فيها الوفاء بما وعدت, والحمد لله.
وليس كتاب "الفكر المنهجي عند المحدثين" كتابا تفصيليا في المعرفة الحديثية، ولم يكن هـذا غرضه، وإنما هـو كتاب في الفكر يذكر الأسس المنهجية، ويجيب على تساؤلات، ويرد على شبهات، ويعمق ولاء المسلم وانتماءه، وقد يصلح لعرض جزء من المعجزة الإسلامية في ميدان السنة، والفكر العالمي بحاجة إلى مثل هـذا الموضوع على درجة أكبر من التفصيل والبيان.
وقد بينت في هـذا الكتاب أمورا قد تكون عناوينها مألوفة، ولكنني حاولت -ما أمكن- أن أقدم الجديد إما في أصل الفكرة وإما في تطوير ما كتبه السابقون، في مفهوم السنة والحديث ذكرت المصطلحات اللغوية والشرعية ولكنني خلصت إلى أن كلمة سنة فيها معنى التكرار والاعتياد والتقويم وإمرار الشيء على الشيء، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هـذه المعاني لما فيها من جريان الأحكام واطرادها وصقل الحياة الإنسانية بها، فيكون وجه المجتمع السائر على هـديها ناضرا بخيرها وبركتها.
وناقشت مسألة حجم الأحاديث الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبينت دور المنهج في الاقتصار من هـذا الحجم الهائل على ما توافرت فيه الشروط المنهجية في الإثبات، كما تكلمت عن تفاوت الصحابة في [ ص: 17 ] الرواية، لمعالجة شبهة إكثار بعض الصحابة من الرواية، وفي موضوع كتابة الحديث ناقشت مسألة النهي عن كتابة الحديث زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبينت أن هـذا النهي نهي منهجي أدى إلى تواتر القرآن وحفظه -بتوفيق الله- وعمل على تأكيد أهمية الصحبة والممارسة، لكي يبقى الصحابي مشدودا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينشغل عنه بالكتابة، بل سبيل التلقي عنه الصحبة والمعايشة.
وتكلمت عن الفتنة وأثرها على الحديث، وخالفت المستشرقين وأتباعهم في قولهم بأن الفتنة عصفت بالحديث وشككت في أصوله، فبينت أن هـذه الفتنة أعطت الحديث أكثر مما أخذت، وكانت حافزا ملحا على ضبط الرواية منذ بدايتها، وهكذا فقد أفادت المنهجية الإسلامية، ولا سيما في زمن الصحابة الكرام الذين هـم أهل السنة ونقلتها المباشرون، فكانت الفتنة سببا مباشرا في إرساء المنهجية عند المحدثين.
وناقشت مسألة الإسناد ومحاولة أعداء الإسلام في التشكيك بأن الإسناد جاء متأخرا بعد قرن من الرواية، وبينت أن الصحابة لم يشترطوا السند فحسب، بل اشترطوا السند السالم من الوهم والخطأ.
ثم تناولت البناء المنهجي لعلوم الحديث على أساس تقسيمه إلى فرعين: الرواية والدراية ، وحاولت أن أقدم للقارئ الصورة المنهجية المتكاملة. [ ص: 18 ]
وقد خصصت ثلث الكتاب -تقريبا- للكلام عن مناهج أشهر المحدثين، وأشرت إلى المزايا المنهجية في كل كتاب من هـذه الكتب، وذلك لأقرب شباب الإسلام إلى هـذه المصادر العظيمة، وليتقدموا للتعامل معها مباشرة، ولينهلوا من معينها الذي طالما حاول الأعداء أن يعكروا صفوه ليفصلوا بين الأمة ومصادرها المنهجية.
وفي أثناء الكلام عن مناهج كتب الحديث ذكرت أمثلة يسيرة ربما كان الإكثار منها مفيدا ولكنه يخرج بالموضوع عن خطة سلسلة "الأمة" وغايتها، التي هـي الإطلالة والإحالة، أكثر من التخصص، والتعمق، وسترى -أخي القارئ- في الصفحات الأخيرة رسوما توضيحية لم أجد غنى عنها لبيان الصورة وتقريبها.
وعلى كل، فهذا الكتاب "الفكر المنهجي" بين يديك -أخي القارئ- فالتمس لي العذر إن أخطأت أو خانتني العبارة، وإن أصبت فمن الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يجعل هـذا الكتاب ذخيرة عنده، وأن ينفع به شباب الإسلام السائر على درب الهدى ولا يسعني في الختام إلا أن أتقدم بالشكر لرئاسة المحاكم الشرعية على رعايتها للعلم وحرصها على إيصال الخير إلى من ينتفع به إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين..