أثر الفتن على الحديث في عصر الصحابة
مما لا شك فيه أن فتنا كبيرة وقعت في عصر الصحابة، أولها مقتل عمر - رضي الله عنه - ثم مقتل عثمان - رضي الله عنه - ثم الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - ولقد استهدفت هـذه الفتن الإسلام في أصوله وفروعه، وأراد موقدوها أن يفسدوا على المسلمين أمور دينهم، ولقد حاول المستشرقون وأعداء الإسلام أن يصوروا للناس أن الفتنة قد أثرت على السنة تأثيرا بالغا، وأنها شجعت أهل الأهواء، على الوضع والكذب، ومما لا ريب فيه أن الفتنة ذات أثر سلبي، ولكنها -في الوقت نفسه- كانت دافعا لاستكمال منهجية الحديث رواية ودراية [ ص: 56 ] ولعل بروز الفتنة في ذلك العصر المبكر والصحابة متوافرون كان في غاية الفائدة بالنسبة للسنة. وكم ستكون المشكلة كبيرة لو أن هـذه الفتن وقعت بعد انتهاء عصر الصحابة - رضي الله عنهم -.
إن حدوث الفتن أفاد السنة فائدة كبيرة، ويمكن أن نقارن هـذا الأثر الإيجابي بأثر اللحن على اللغة العربية، إذ عندما ظهر اللحن وفشا واختلط العرب بالعجم ظهرت الحاجة إلى تقعيد النحو وضبطه وتدوين شواهده، فكان اللحن مفسدة من جهة أثره على الفطرة اللغوية السليمة، ولكنه كان حافزا لحفظ اللغة وتأسيس مناهجها، وإن فشو اللحن في ذلك الزمن المبكر حيث الفصاحة والبيان والفطرة اللغوية في قلب الجزيرة العربية قد مكن العلماء من استنباط القواعد وجمعها، والتوصل إلى مناهج الضبط اللغوي. ولو تأخر اللحن حتى زالت السليقة عن طريق الاختلاط بين العرب والعجم لحدثت مشكلة لا حل لها ولا علاج. وكذلك الحال بالنسبة للحديث، فقد ظهرت الفتن والصحابة أحياء، والرواية قريبة من مصدرها الأصلي، وخطوط الاتصال بين الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمة مفتوحة. كل هـذا ساعد على استقرار المنهج، ولو تأخرت الفتنة، ووقعت بعد عصر الصحابة، وقد بعدت الرواية عن مصدرها، فإنه لا يمكن عندئذ استكمال القواعد المنهجية.
لقد أثرت الفتنة على النظام السياسي الإسلامي، ولكنها في الوقت ذاته ساعدت على تأصيل مختلف العلوم الإسلامية، وأبرزت مناهجها.. ولقد خاب ظن المستشرقين المتكئين على الفتنة باعتبارها مصدر تشكيك بالسنة، وكان الأجدر أن يعلموا أن الحديث قد أخذ من [ ص: 57 ] المغانم أكثر مما دفع من المغارم. وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتيه من يحدثه فلا يلتفت لحديثه، تطبيقا لقاعدة "إن من لا يعرف حاله لا يقبل حديثه"، ( " عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا بن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا بما نعرف " ) [1] . فهذا النص يدل بجلاء على تشمير الصحابة لتحذير الناس من الوقوع في أحابيل الكذب، وقد أعلن التابعي الكبير محمد بن سيرين عن أثر الفتنة على البحث والنقد، فقال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) [2] [ ص: 58 ]