المنهج في زمن الصحابة
وعندما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى توقف الوحي بعد أن أتم الله تعالى على المسلمين نعمته، وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولم يعد وحي ينزل، ولا حديث يصدر. ووقف الصحابة على أحوال هـذه الفترة المباركة يسترجعونها، ويتذكرونها، ويتأملون فيها، ويروون أخبارها، ولا سيما أنهم شاهدون عليها، ومطالبون بنقلها إلى من وراءهم من الناس. إلى جانب أن التابعين الذين فاتتهم الصحبة كانوا على شغف بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يتجمعون حول الصحابة يسألونهم ويقتبسون منهم. يضاف إلى كل هـذا ما طرأ من الحاجات الكثيرة مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، كل هـذه الأمور حدت بالصحابة إلى الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان الحديث عن العظماء يعطي مزية للمتحدث والمترجم، فكيف بمن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وفي مثل هـذا الموقف قد تتدافع المشاهد والأخبار، ويختلط المتيقن بالمظنون، والحقائق بالأوهام، ولقد بالغت الأمم السابقة في كلامها عن أنبيائها وعظمائها فاستهواها الحديث عن العظمة والعظماء، حتى مزجت بين الحقيقة والخيال والصواب والخطأ، فضاعت الحقائق، وضاع الصدق تحت حجب المبالغة والخيال، وحتى لا تصاب هـذه الأمة بما أصيب به من سبقها من الأمم شاء الله -تعالى- وقدر أن يهيء لها الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، [ ص: 45 ] فحافظ هـؤلاء على منهج النبوة وسلامة السنة من العبث والخيال والحب الأعمى.
فقد علم هـؤلاء الصحابة عظم المسئولية وهم يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا وقافين عندما يتيقنون من روايته، فقد روى الإمام البخاري وغيره من طريق ( عبد الله بن الزبير ، قال: قلت للزبير : إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما أني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ) [1] وأخرج البخاري من رواية ( أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار ) [2] ، وكذلك روي عن أبي قتادة الأنصاري .
وهؤلاء الصحابة الأجلاء -الزبير وأنس وأبو قتادة- استدلوا بهذا الحديث لا لخوفهم من الكذب المتعمد، القائم على الزور والبهتان، وإنما قصدوا الكذب غير المتعمد، الذي هـو خطأ الراوي برواية ما يخالف الواقع، وهذا الحذر هـو الذي حملهم على الاستشهاد بالحديث. يقول الإمام ابن حجر معقبا على حديث الزبير - رضي الله عنه -: والثقة إذا حدث بالخطأ، فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ، يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشرع، فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم [ ص: 46 ] إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث [3]
ولقد كان الصحابي إذا حدث فزع وخشي على نفسه من الزلل والخطأ، لشدة ورعه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي " عن عمرو بن ميمون قال: كنت آتي ابن مسعود كل خميس، فإذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفخت أوداجه ثم قال: "أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريب ذلك، أو شبيه ذلك، أو كما قال " [4] ، وهذا أبو هـريرة يسأل عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقوى على التحديث ويغمى عليه كلما هـم بالتحديث [5]
ولشدة الحديث على بعض الصحابة كان ينتظر وقتا طويلا حتى يحدث، فقد روي عن ابن عمر أنه كان يأتي عليه الحول قبل أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [6] ، " وكان زيد بن أرقم يقول: والكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد " . " وعن السائب بن يزيد قال: "صحبت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود فلم أسمع أحدا منهم يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني سمعت طلحة بن عبيد الله يتحدث عن يوم أحد " [7] . [ ص: 47 ]
ولم يترك أمر الرواية إلى الصحابة - رضي الله عنهم - دون سؤالهم عن رواياتهم، والتحري عن دقتهم، وطلب البينة على الحديث الذي يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " فقد جاءت الجدة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله عن ميراثها، فقال لها، مالك في كتاب الله شيء، ولا علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: المغيرة بن شبعة - رضي الله عنه - حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هـل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري ، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذ لها أبو بكر " [8]
وهكذا شرع أبو بكر في طلب الدليل والبرهان الشاهد على دقة الصحابي وضبطه، ثم سار عمر - رضي الله عنه - على منهج أبي بكر، بل شدد في السؤال، وتوعد من يحدث دون أن يقيم البينة على حديثه.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه ( أن أبا سعيد الخدري قال: كنا في مجلس عند أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا، حتى وقف فقال: أنشدكم الله هـل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع؟ قال أبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه. فأخبرته أني جئت بالأمس فسلمت ثلاثا، ثم انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عمر: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على [ ص: 48 ] هـذا ) [9] -وفي رواية: ( أقم عليه البينة وإلا أوجعتك ) [10] . ( وفي رواية أخرى: وإلا فلأجعلنك عظة ) [11] - ( فقالوا: لا يشهد لك على هـذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد فقال: كنا نؤمر بهذا، فقال عمر : خفي علي هـذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالأسواق ) [12] . وقد أخرج الإمام مسلم تعقيبا لأبي بن كعب - رضي الله عنه - " قال لعمر: (فلا تكن يا بن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر: سبحان الله، إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت " [13]
فهذه القصة -التي أطلنا في ذكر روايتها وتفاصيلها- توقفنا على منهج عمر في الرواية وحرصه على التثبت فيها، علما بأن أبا موسى الأشعري من المهاجرين السابقين والصحابة الكبار. وليس طلب عمر - رضي الله عنه - للبينة تهمة لأبي موسى الأشعري ، ولا يعني أن عمر - رضي الله عنه - لا يقبل خبر الواحد العدل، وإنما قصد أن يوجه الصحابة إلى طلب التحري والتثبت، وألا يحدث أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما تيقن من روايته وحفظه، وقد جاءت زيادة عن مالك في الموطأ « أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم » [14] [ ص: 49 ]
وكذلك كان موقف عمر - رضي الله عنه - من المغيرة بن شعبة ، فقد أخرج الإمام البخاري من رواية المغيرة بن شعبة ( قال: سأل عمر بن الخطاب عن إملاص المرأة -وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها- فقال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا؟ فقلت: أنا. فقال: ما هـو؟ قلت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فيه غرة عبد أو أمة. فقال: لا تبرح حتى تجيئني بالمخرج فيما قلت ) [15]
وهكذا فقد طبع الحديث في زمن عمر - رضي الله عنه - بهذا المنهج من التحري والضبط والتوقي من حديث لا شاهد عليه ولا بينة، وليس ذلك تهمة للصحابة الكرام، ولا تقليلا من شأنهم، بل هـو حب سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتبقى صحيحة، مهيبة الجانب، بعيدة عن الأوهام، لقد ظهرت هـذه البداية المنهجية مع بدء الرواية ، ثم أخذت أشكالا أخرى غير طلب الشاهد على الرواية كتتبع الروايات والطرق، والبحث عن المتابعات ، وكانت هـذه الطريقة المنهجية في وقتها المناسب، إذ تعلم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - من خلالها درسا جعلهم لا ينطقون ولا يروون إلا ما كانوا على يقين منه، فتجنبوا الغرائب والظنون البعيدة. ولو تأخرت هـذه المنهجية -لا قدر الله- لا تسعت الروايات دونما ضابط، ولما أمكن ضبطها بعد ذلك بالمناهج، فكان فضل الله على هـذه الأمة عظيما. [ ص: 50 ]