علم العلل
لم يقف علماء الحديث عند علم الجرح والتعديل الذي يهتم بأحوال الرجال، من حيث الحكم عليها بالقبول أو الرد، ووصفهم بأوصاف الثقات العدول أو المجروحين والمتروكين، إذ أن مهمة علم الجرح والتعديل الخلوص إلى حكم عام على رجل الحديث، بل تجاوزوا ذلك إلى البحث التفصيلي في أحوال الثقة وروايته؛ لأن الثقة لا يكون على وتيرة واحدة في كل أحيانه ورواياته، ففي حين يفرغ علم الجرح والتعديل من الحكم على مالك بن أنس بأنه ثقة، فإن علم العلل يبدأ من حيث انتهى علم الجرح والتعديل، فيتناول بالبحث روايات الإمام مالك رواية رواية، ويبحث عن كيفيات الرواية وأحوالها وموافقاتها ومخالفاتها، وهذا البحث التفصيلي يتفرع ويتسع، فيصبح مالك في حديث ما غيره في حديث آخر، وهذا النوع من النقد ألفت فيه كتب كثيرة، وبرع فيه علماء أجلاء، لا أقول بأن المنهج العلمي الحديث وافقهم وساواهم، بل ساروا أمام المنهج العلمي وسبقوه، وهيهات أن تدرك مناهج البحث الحديثة شأوهم في ذلك.
لقد تنبه علماء الحديث إلى أن الثقة الموصوف بالعدالة قد يخطئ، ويهم، ويقلب المتون والأسانيد، وقد ينسى، وقد يختصر فيخل، أو يطيل فيغير ويبدل، وهو في هـذه الأحوال ثقة، لا يتعمد الخطأ، ولا يقصد إلا الخير، ولا ينزل عن رتبته لاشتهاره بعموم الضبط والإتقان [ ص: 100 ] والعدالة. يقول الإمام مسلم في كتابه (التمييز) : (فإنك يرحمك الله ذكرت أن قبلك قوما ينكرون قول القائل من أهل العلم إذا قال: هـذا حديث خطأ، وهذا حديث صحيح، وفلان يخطئ في روايته حديث كذا، والصواب ما روى فلان بخلافه، وذكرت أنهم استعظموا ذلك من قول من قاله، ونسبوه إلى اغتياب الصالحين من السلف الماضين، حتى قالوا: إن من ادعى تمييز خطأ رواياتهم من صوابها متخرص بما لا علم له به، ومدع علم غيب لا يوصل إليه) [1] . ثم يناقش الإمام مسلم هـذا القول فيقول: (وبعد، فإن الناس متباينون في حفظهم لما يحفظون، وفي نقلهم لما ينقلون، فمنهم الحافظ المتقن الحفظ، المتوقي لما يلزمه توقيه فيه، ومنهم المتساهل المشيب حفظه بتوهم يتوهمه، أو تلقين يتلقنه من غيره) [2] . ثم يقول: (ومع ما ذكرت لك من منازلهم في الحفظ ومراتبهم فيه، فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا -وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيا لما يحفظ وينقل- إلا والسهو والغلط ممكن في حفظه ونقله) [3]
ونخلص إلى أن علم العلل هـو علم متابعة الثقات ورواياتهم. وهذا العلم يكشف لنا عن أمر كان يجهله أكثر الناس -والمستشرقون وأعداء السنة أكثر جهلا به- وهو أن علماءنا لم يعبئوا كثيرا بحديث المجروحين والمتروكين والكذابين، لأن أمر هـؤلاء يسير عليهم. يقول الحاكم [ ص: 101 ] النيسابوري : (فإن حديث المجروحين ساقط واه) [4] ، والكشف على هـذا الضرب سهل يستطيعه طالب العلم في أيامه الأولى من الطلب. وإنما الدقة والجهد والفهم في تتبع الثقات وقال الحاكم: (وعلة الحديث تكثر في حديث الثقات، أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا) [5]
مصطلح العلة ومعناه
بعد عرض هـذا المفهوم لعلم العلل الذي هـو رأس علم الدراية نأتي إلى تحديد معنى العلة ، إذا العلة في اللغة: المرض الخفي الكامن في الأعماق، والذي لا يظهر إلا للطبيب الخبير العميق الفهم، بينما الجرح شيء ظاهر على الجلد. والفرق بين الجرح الظاهر والعلة الخفية يصور لنا الفرق بين علم الجرح وعلم العلل. وعليه فالخبر المعول أو المعل: حديث ظاهر السلامة أطلع فيه بعد التفتيش على قادح [6]
فالحديث قد يستوفي جميع العناصر الشكلية للصحة، فيتوهم الناظر إليه أنه صحيح، ولكنه إذا عرضه على المختص الخبير يرده ولا يقبله لوجود علة فيه، فقد يكون الراوي حدث بالحديث في بلد غير بلده، والمعروف عنه أنه إذا خرج من بلده وقع في الخطأ لمفارقته كتبه وبعده عنها، وقد يكون الراوي حدث بالحديث في شيخوخته ومع بداية هـرمه، حيث تبدأ الذاكرة بالتخليط، وتشتبك الحقيقة بالخيال، [ ص: 102 ] وقد يكون الراوي ممارسا متقنا لأحاديث شيوخه، إلا واحدا منهم لم يتمكن من إتقانه وممارسته، وقد يكون الراوي سمع شيخه، ولم يتنبه على عيب في نطقه ولسانه، فغير الحرف أو الكلمة، وقد يذهب الراوي في سند وهو يريد غيره، وقد يروي بالمعنى فيختصر الحديث، فيغير حقائقه وهو لا يشعر، كل هـذا القضايا -وغيرها كثير- لا يظهر على الشاشة المرئية، ولا يقع تحت الظروف الشكلية المعروفة، وإنما يدركه من كان الحديث عنده كالهواء والطعام والشراب، يملأ وجدانه، ويشغل جنانه، ويمارسه في أحيانه كلها.
وهذا النوع من الدراية لو درى به الخلق لعرفوا عظم علوم الحديث والجهد الذي بذله علماؤنا، لا سيما وأن أصحاب الكتب المشهورة كالشافعي ومالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم كثير؛ هـم أساتذة في علم العلل ورواد من رواده.
ومن أشهر علماء العلل ورواده شعبة بن الحجاج المتوفى سنة (160هـ) ، قال ابن رجب في ترجمته: وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقب عن دقائق علم العلل.
ومن رواده كذلك يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة (198هـ) خليفة شعبة والقائم بعده مقامه، وعنه تلقاه أئمة هـذا الشأن، كأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين .
ومن رجاله الحاذقين عبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة (198هـ) وهو الذي قال عنه علي بن المديني: (لو أخذت فأحلفت بين الركن [ ص: 103 ] والمقام لحلفت بالله أنني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي ) [7]
ومن علماء العلل الأفذاذ علي بن المديني المتوفى سنة (234هـ) شيخ البخاري، قال عنه أبو حاتم الرازي : (كان علي بن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل)
[8] . وقد صنف علي بن المديني كتبا زادت على الثلاثين كتابا
[9]
وللإمام أحمد بن حنبل باع طويل في معرفة الحديث والعلل، وقد كتب عنه تلاميذه مئات الأجزاء. وأجوبته في العلل مبثوثة في كل كتاب، ولا يدانيه أحد في كثرة الأحكام والأقوال في الرجال والعلل.
وللإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح براعة خاصة وتعمق كبير في علم العلل، حتى وصفه تلميذه الإمام مسلم بقوله: (أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله) [10] . [ ص: 104 ]
واشتهر الإمام أبو عيسى الترمذي بهذا الفن من فنون الحديث، وهو أول من صنف الحديث على الأبواب المعللة، ويعتبر كتابه (الجامع) كتابا معللا. وله كتابان في العلل: العلل الصغير -وهو ملحق بكتابه الجامع- والعلل الكبير [11]
ولا يتسع المجال لذكر علماء العلل والكتب المؤلفة في العلل، ويمكن الرجوع إلى الكتب المتخصصة [12] في هـذا الشأن لمن أراد المزيد.
ونخلص من هـذا كله إلى أن علم العلل نوع من النقد الموضوعي العميق الذي يحتاج إلى معرفة واسعة، ويتناول أنواعا من الفقه النقدي بعضها تاريخي، وبعضها اجتماعي، وبعضها نفسي، وبعضها عقيدي، وبعضها فقهي. وقد صنفت كتب عديدة في علل الحديث أشهرها كتاب "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" لأبي الحسن الدارقطني المتوفى سنة (385هـ) . و"العلل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة (327هـ) ، ومن أجود الكتب في هـذا المضمار: "شرح علل الترمذي" لابن رجب الحنبلي [13] المتوفى سنة (795هـ) . [ ص: 105 ]