[1] الشمول
إذا كانت المناهج الوضعية -وخاصة الحديثة منها- في محاولاتها إيجاد الحلول الناجعة لمشكلة الفقر والتخلف -تقف مواقف متباينة متعددة، فهي لا تخرج في جملتها عن الدعوة إلى إقامة نظام مبني على توزيع الموارد الاقتصادية بين فئات الأمة توزيعا يسعى لمحور أبرز الفوارق بين تلك الفئات، وإلى إبعاد بعض الجرائم- لا الجرائم كلها- التي ترتكب في غالب الأحيان بسبب انعدام مثل هـذا التوزيع، فإن الإسلام قد وضع أحسن نظام لتوزيع الموارد الاقتصادية إنتاجا واستهلاكا بين جميع الناس من غير تفرقة جنسية أو لونية أو دينية. [ ص: 62 ]
وهو بعد أن يقرر أن إقامة نظام من قبيل الأنظمة الوضعية قد يكون ذا آثار في تخفيف الوطأة عن المجتمعات التي تئن تحت أعباء المشاكل الاقتصادية، يرى من جهة أخرى أن تلك الأنظمة كلها التي توصل إليها العلماء، بعيدة البعد كله عن تحقيق الغاية السامية التي يهدف إليها، لأن هـذه الأنظمة تفتقد الشمولية للمشكل، فهي تنظر إليه على أنه محض قضية مادية، في حين أن الإسلام ينظر إليه على أنه أعمق جذورا من ذلك، وأشمل غاية من هـذه الغاية المحدودة التي تتوخاها المناهج الوضعية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، ففي بعض المناهج الوضعية تتكفل الدولة لطائفة من رعاياها بإيجاد العمل في دائرة ضمان المأكل والملبس والمسكن، وقد يتجاوز ذلك إلى قليل من الثقافة العامة البسيطة، بينما المنهج الإسلامي يعني بالدرجة الأولى بإيجاد مجتمع متكامل من جميع الوجوه.. مجتمع تعتبر فيه مضامين العدالة الاجتماعية الحديثة تافهة، إذا قيست بالأغراض النبيلة التي يراها الإسلام ضرورية لوجود المجتمع المتكامل، أعني به الذي يجمع بين المادة والروح، لأن احتياج الإنسان في بعض الأحيان إلى الروحانيات هـو أهم بكثير من احتياجه إلى الماديات البحتة.
ولهذا ففي الوقت الذي لا يغفل الإسلام خطورة المادة، وأثرها في الحياة الإنسانية تكييفا وتوجيها، لا يقف فيما عداها موقف المتفرج دون أية التفاتة إلى المضامين والغايات التي وراءها، فالإسلام في منهجه [ ص: 63 ] لتحقيق التنمية الاقتصادية يدعو إلى إقامة عدالة اجتماعية تتساوى فيها -في أهميتها وخطورتها- الناحيتان المادية والروحية على اعتبار أن الأولى طريق لتحقيق الثانية، ويدعو في الوقت نفسه إلى العمل الجدي على أساس من التوازن والتجانس الكلي بين حاجيات المجتمع ضمن الإطار العام لمجتمع إسلامي روحا ومادة وطرقا وغاية.
والحياة الروحية في الإسلام، ليست كما يتصور بعض الناس مسألة سلبية تواكلية بعيدة عن الجد والإنتاج، وإنما إيمان بالله واستشعار للمسئولية يدفع إلى العمل الصالح، سواء كان ذلك الإيمان أو تلك المسئولية المتأصلة في العقل والنفس والمتمثلة في النشاط والسلوك، مردها خشية الله والخوف من عقابه، أو كان مردها ابتغاء مرضاته والفوز بجنته.
فالإسلام لا يعرف الفصل بين ما هـو مادي، وما هـو روحي، ولا يفرق بين ما هـو دنيوي وما هـو أخروي، فكل نشاط مادي أو دنيوي يباشره الإنسان، هـو في نظر الإسلام عمل روحي أو أخروي، طالما كان مشروعا، وكان يتجه به إلى الله تعالى، فالله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، أي ليعملوا عملا صالحا طبقا لما شرع، والإيمان في الإسلام ليس إيمانا مجردا، ولكن إيمان محدد مرتبط بالعمل الصالح، ومبدأ الشمول في التنمية الاقتصادية، يقتضي أن تضمن التنمية الاقتصادية الإسلامية الاحتياجات البشرية كافة من مأكل وملبس [ ص: 64 ] ومسكن، ونقل وتعليم وتطبيب وترفيه وحق العمل وحرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية... إلخ، بحيث لا يقبل الإسلام تنمية رأسمالية تضمن حرية التعبير، ولا تضمن لقمة الخبز، كما لا يقبل تنمية اشتراكية تضمن لقمة الخبز وتلغي حرية التعبير.