الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[4] العدالة

أقام التشريع الإسلامي أحكامه على أساس مبدأ العدل بين الناس، وقد [ ص: 69 ] أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل في كثير من الآيات، قال تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) [النحل:90].

وجاء التشريع الإسلامي ليقيم العدل بين الناس، قال الإمام ابن القيم : " إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفرت - بأي طريق كان - فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم [1] ونجد هـذا واضحا في المسائل المالية - على سبيل المثال - فقد حرص التشريع الإسلامي على تحقيق العدالة بين الناس في مجال الجباية والتوزيع بين المسلمين وغير المسلمين.

ففي مجال الجباية فرض الإسلام على الأغنياء قدرا محدودا من المال يدفع للفقراء حقا لهم، وهذا القدر ليس كثيرا ولا قليلا، بل يكفي الفقراء ولا يلحق الضرر بالأغنياء، وبهذا فقد كان المقدار عادلا؛ لأنه لا يجوز أن تهدر مصالح فئة من الناس لحساب فئة أخرى، ودفع الضرر [ ص: 70 ] عن فرد أو فئة من الناس لا يكون بإلحاق الضرر بالآخرين، ومن القواعد المقررة عند الفقهاء: أنه لا يزال الضرر بمثله.

ولما كانت الزكاة عبادة، ولا تجوز العبادة من الكفار، أوجبت الشريعة على الكفار من أهل الذمة أن يدفعوا الجزية عن رءوسهم، والخراج عن أراضيهم للدولة الإسلامية، مقابل الزكاة المفروضة على أموال المسلمين، وصدقة الفطر المفروضة على رءوس المسلمين، حتى تتحقق العدالة في الجباية بين المسلمين وغير المسلمين.

وتبدو هـذه العدالة بشكل واضح في مجال التوزيع، فقد وضع الخلفاء قواعد خاصة لتوزيع العطاء بين الناس بالعدل، روى أبو عبيد عن سفيان بن وهب الخولاني قال: " شهدت خطبة عمر بن الخطاب بالجابية، قال: فحمد الله وأثنى عليه بما هـو أهله، ثم قال: " أما بعد فإن هـذا الفيئ شيء أفاءه الله عليكم، الرفيع فيه بمنزلة الوضيع، ليس أحد أحق به من أحد إلا ما كان من هـذين الحيين لخم وجذام ، فإني غير قاسم لهما شيئا. فقام رجل من لخم فقال: يا ابن الخطاب: أنشدك بالله في العدل والتسوية، فقال: ما يريد ابن الخطاب بهذا إلا العدل والتسوية، والله لأعلم أن الهجرة لو كانت بصنعاء ، ما خرج إليها من لخم وجذام إلا قليل، أفأجعل من تكلف السفر وابتاع الظهر بمنزلة قوم، إنما قاتلوا في ديارهم؟! فقام أبو حدير فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى ساق الهجرة إلينا في ديارنا فنصرناها وصدقناها، أذاك الذي سيذهب حقنا، فقال عمر: والله لأقسمن لكم، ثم قسم بين الناس، فأصاب كل [ ص: 71 ] رجل منهم نصف دينار إذا كان وحده، فإذا كانت معه امرأته أعطاه دينارا [2]

وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يحرصون على تحقيق العدالة بين الناس، فلم يكونوا يسمحون للولاة أن يتميزوا عن غيرهم من الناس بشيء؛ لأن ذلك مدعاة للشك بأنهم قد حصلوا على ذلك نتيجة استغلال نفوذهم.

روى أبو عبيد القاسم بن سلام ، ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا، فجاء يقول: هـذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيقول: هـذا لكم وهذا أهدي لي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هـل أهدي إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحد منهم بشيء إلا جاء به على رقبته يوم القيامة ، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هـل بلغت اللهم فاشهد. )

التالي السابق


الخدمات العلمية