الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[7] غايتها الإنسان

وذلك ليكون بحق خليفة الله في أرضه، وهذا هـو الذي يحدد بواعث أو غاية التنمية الاقتصادية الإسلامية وآثارها. فالباعث في التنمية هـو تحقيق أكبر قدر من الربح، مما يؤدي عادة إلى الانحراف بالإنتاج عن توفير احتياجات المجتمع الضرورية مع وفرة إنتاج السلع الكمالية التي يطلبها المترفون والأغنياء، وما يصاحب ذلك من سيادة المادة ومختلف المساوئ الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الغربية.

وأما التنمية الاشتراكية فباعثها المعلن ليس الربح شأن التنمية الرأسمالية ، وإنما هـو سد احتياجات الدولة، وفق أطماع وسياسات [ ص: 77 ] القائمين على الحكم, لا وفق احتياجات ورغبات المواطنين أنفسهم , مما يهدد كلية حرية الفرد, ويجعل منه مجرد آلة أو أداة لا غاية.

أما التنمية الاقتصادية الإسلامية فباعثها ليس الربح ؛ كما في التنمية الرأسمالية, ولا أهواء القائمين على الحكم, شأن التنمية الاشتراكية, وإنما هو توفير حد الكفاية لكل مواطن ليتحرر من أية عبودية - في مجال المال أو الحكم - إلا عبودية الله وحده . فغاية التنمية الاقتصادية الإسلامية هو الإنسان نفسه, ليكون محررا مكرما يعمر الدنيا ويحييها بالعمل الصالح, فيكون بحق خليفة الله في الأرض.

لهذا فإن الإسلام يريد أن يرتفع بالإنسان إلى المستوى اللائق به كمخلوق مكرم خلقه الله تعالى في أحسن تقويم, وسخر له قوى الكون والطبيعة لخدمته . قال تعالى ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ) ( النبأ: 6 6-16 )

فالإنسان في نظر الإسلام هم أسمى من في الوجود, والإسلام جاء لتأكيد هذه المكانة له, ولهذا فهو ينظر إلى الحياة من زاوية أوسع من الزاوية التي تنظر منها المناهج الوضعية, فالإنسان في نظر الإسلام لم [ ص: 78 ] يخلق ليكون حيوانا هـمه من الحياة الأكل والشرب والجنس، بل هـو إنسان يحتاج لتوفير أشياء كثيرة لحياته، مادية ومعنوية، وهي الحاجيات التي حرص الإسلام على توفيرها للفرد.

والإسلام جاء ليحقق للإنسان مبدأ العدالة الإنسانية في جميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم كان المنهج الإسلامي في كل مجال يهدف أولا إلى بناء الفرد، ومن بناء الفرد ينطلق إلى بناء المجتمع، وقد طبع الفرد على حب الذات، وهذا يتنافى مع مصلحة المجتمع، لهذا فإن الإسلام يعمل على إصلاح الفرد ليطهره من النوازع السيئة، وبعبارة أخرى لينقله من صفة الفرد إلى صفة الإنسان. فقد وصف الله الإنسان بشدة حبه للمال في قوله تعالى: ( وإنه لحب الخير لشديد ) [العاديات:8]، وقال تعالى في وصفه بالشح: ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) [الإسراء:100].

وبما أن الإنسان هـو أداة وهدف التنمية الاقتصادية، فقد جاءت التشريعات الإسلامية لتعالج هـذه النوازع السيئة في الفرد حتى يصبح إنسانا صالحا ونواة حسنة للمجتمع الصالح وأداة صالحة لتحقيق التنمية الاقتصادية.

وإذا كان طغيان الفرد على الجماعة خطرا كبيرا يحرمه الإسلام، ويحاربه عن طريق مختلف النظم التشريعية والتربوية وغرس الأصول [ ص: 79 ] النفسية، فإن طغيان الجماعة على الفرد خطر آخر في حقه، لا يقل عن الخطر الأول، لأن ظلم الفرد إهدار لكرامته، وإذا أهدرت كرامة الفرد أهدرت إنسانيته، وإذا أهدرت إنسانيته كان عاملا من عوامل فساد المجتمع؛ لأن هـذا الأخير يتكون من مجموع أفراده.

ومن ناحية أخرى تعتبر التنمية الاقتصادية في نظر الإسلام حقا من الحقوق الإنسانية التي يتوجب على الدولة ضمانها. يقول الإمام الغزالي : " إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم: دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم [1]

ولو تتبعنا الآيات القرآنية لوجدناها تؤكد هـذه الحقوق الطبيعية للإنسان -وفي جميع الحالات- دون تقييد أو تحديد، بل تحض الإنسان على الدفاع عنها، وتهدد المتهاونين في حقوقهم بالعذاب الشديد، قال تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [النساء:97]. وقد حرم الله قتل النفس فقال: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) [الأنعام:151]. وشرع أشد العقوبة للذين يقطعون الطرق، ويثيرون في نفوس الناس الفزع، ويهددون أحيانا أمنهم وحياتهم، فقال: ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) [المائدة:33]. [ ص: 80 ]

فهذه الجرائم التي تستهدف الاعتداء على هـذه الحقوق الطبيعية للإنسان إنما تسود المجتمعات التي ينتشر فيها الفقر والجوع والتخلف، ولا يمكن القضاء عليها بمجرد قطع يد السارق ورجم الزاني؛ لأن الحدود إنما شرعت لحماية المجتمع الإسلامي لا لإقامته، ولا يمكن أن تطبق إلا في الوقت الذي يتحقق فيه لجميع أفراد المجتمع كفايتهم، ويتم إشباع حاجاتهم من الطعام واللباس والسكن، وبما أن التنمية تستهدف أول ما تستهدف القضاء على الفقر والتخلف، فإنها تكون بذلك قد هـيأت المناخ المناسب الذي يتمتع فيه الإنسان بحقوقه كاملة، فيأمن على دينه ونفسه وماله وعرضه. [ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية