خصائص الواقع العالمي الراهن
من اللازم منهجيا في هـذا العمل أن نقوم بمحاولة لتحديد خصائص الواقع العالمي الراهن، الذي يفترض أن تقوم فيه السنة النبوية بعملية توجيه كبرى، بهدف تحقيق تغيير حضاري أصيل، يساهم في إنجاز البناء الحضاري المنشود للبشرية كافة. [ ص: 69 ]
فمن الضروري أن نقوم بتحديد خصائص (الواقع العالمي المعاصر) في شقيه الإسلامي، وغير الإسلامي، لأن العجز عن القيام بهذا العمل سوف يؤثر في طبيعة الأفكار التي نريد إيصالها من خلال هـذا الجهد المتواضع. فالربط المنهجي بين الرؤية التغييرية الإسلامية، ومنهجيتها في التوجيه، وبين الوعي على الواقع العالمي الراهن، أمر أساس وحاسم في نجاح الجهود الراهنة في حقل البناء الحضاري، بمعنى أنه سوف يكون من العسير علينا فهم (السنة النبوية، كمركب حضاري) والوصول إلى كشف نظامها الفكري، والتوجيهي لحركة المجتمع، دون إدراك موضوعي، لطبيعة العصر، وخصائصه. فهذا الوعي على الواقع هـو الذي سنؤسس عليه منهجنا الأدائي المتصل بحياة الناس، التي يراد تنزيل الشرع الإلهي عليها. وأخذها بالخطاب الرباني، الذي جاء ليحقق مصالح البشر في الدارين.
فوعي الواقع القائم شرط من شروط توجيهه، والتأثير في حركته، بما يتوافق وعقيدة المجتمع.
إننا لا نهدف هـنا إلى بحث مفهوم الواقع المعاصر من الوجهة اللغوية، ولا المصطلحية، التي تشتغل بالمعنى الساكن للمفاهيم، ولكن سنحاول تحديد مضمون هـذا الواقع، وخصائصه الملازمة له من وجهة نظر من يريد أن ينجز مشروعا حضاريا في حقل اجتماعي، وثقافي مترامي الأطراف ( كالأمة الإسلامية مثلا) .
ملاحظة عن فهم الواقع:
عندما يعاني الإنسان مأزق تنزيل الأفكار إلى أرض الواقع في ظل وسط بشري معضل يحس ساعتها بقيمة وعي الواقع، كشرط من شروط التنزيل الأساسية. فمراعاة واقع الناس لازمة من لوازم التطبيق الأحسن للشريعة الإسلامية، وقانون من قوانين البناء الحضاري المستقيم، وسنة من سنن الله في [ ص: 70 ] خلقه، من أخل بها فقد أخل بمصالح العباد التي جاءت الشريعة لتثبتها، وتوضحها، وتحافظ عليها، مع مراعاة ظاهرة تغير الواقع في الزمان والمكان، وهذا ما يتطلب الوعي المستمر عليه.
ففي دراسة أي واقع، يجب أن نؤكد على أن هـناك أمورا إيجابية، يمكن الاستفادة منها في واقعها الأصلي، ومنها ما هـو سلبي، يجب التخلص منه، وتغييره بما يتناسب والعيش في ظل النموذج الحياتي الإسلامي. والأمور السلبية والإيجابية، قد تختلط على الناس، فيصبح الزبد في مقام ما ينفع الناس، ويتحول في أذهانهم ما ينفعهم إلى زبد، يجب استئصاله، وتكثر أضراب هـذه المشكلات عندما يصاب المجتمع بفقر الفهم، والوعي، والإبداع. وفي هـذه المراحل التاريخية، تختل موازين العمل، ومقاييس الجهد النافع، ويصبح التزييف والعبث، واللهو من التجارات الرابحة في حياة الخلق. فكم من خير عميم توارى تحت نظارة سياسي جاهل، أو صاحب عمامة متمشيخ، أو دكتور صنعته الشهادة، أو داعية مصاب بالشذوذ الفكري، أو رجل يسعى إلى بناء مجده على حساب المستضعفين في الأرض.
فكل إنسان من الناس له نظارة يتصور بها الأشياء، ويقوم بها الأمور، فالعلماء والرعاة، والرعية من أصحاب النظارات، ولكن النظارات في أوساط العلماء كثيرة، ومتنوعة.. ونفس الشيء في أوساط الرعاة، وكذا في أوساط الجماهير. فقد تجد في المستويات الثلاثة من يمتلكون نظارات صافية نقية خالصة لوجه الله، ومنهم من يمتلك نظارة مزيفة مشوبة مشوشة، ولأن كل نظارة من هـذه النظارات تتصل في تشكيلها، وبنائها، ووظيفتها بما يدور في العقول من وعي وفهم، وقدرة، وما يعشش في القلوب من إيمان، وأشواق، ومبررات، وما تشع به الجوارح من خير، وعمل، وسلوك.. وكذلك لأن الأمر متصل بما تفرزه حركة المجتمع من ثقافة، وتاريخ، ومناهج، فإننا في هـذه الحالة مضطرين من [ ص: 71 ] الوجهة المنهجهية الصارمة إلى البحث في الأصول التكوينية للأشياء، والأفكار.. وعليه في فهم الواقع، من العودة إلى الجذر التكويني للسلوك البشري، وبالتالي الدخول إلى (مخابر صناعة الحضارة) حيث كهوف المنهج وشعابه المعقدة.
إن دراسة الواقع الإنساني، لم تصبح بعد علما قائما بذاته في عالمنا الإسلامي الحديث.. وأعني بدراسة الواقع، اكتساب رؤية منهجية في دراسة الأحداث والمشكلات، أي دراسة حركة الخلق، ووجهتها الحضارية، ومعرفة مواقفهم من القضايا التي تواجههم، وإمكاناتهم الفكرية، والعقلية، والروحية، والسلوكية، والجسدية، ومعرفة أوضاعهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والعسكرية. وإدراك كل ما يتعلق بحياتهم الفردية، والجماعية، بشروط قيامها وبعوامل انهيارها، وكذلك ما يتصل بعلاقاتهم مع الخالق سبحانه وتعالى ، ومع بعضهم بعضا، ومع الكون المحيط بهم.
ونحن هـنا لا تهمنا الكثير من هـذه العناصر، فغرضنا هـو تحديد الخصائص الواقعية العامة، التي تتصف بها حياة أمتنا الإسلامية، وأمتنا الإنسانية، وبعبارة أخرى التعرف على طبيعة المرحلة الحضارية التي تجتازها البشرية، ومدى تأثير هـذه الطبيعة في أي حركة تغييرية، تقوم اليوم في العالم، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين.