تقديم بـقـلـم : عـمـر عـبـيـد حسـنة
الحمد لله، الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كانت الغاية من ابتعاثه: إلحاق الرحمة بالعالمين، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ، وبعد: فهذا كتاب الأمة الخامس والأربعون: (رؤية إسلامية في قضايا معاصرة) ، للدكتور عماد الدين خليل، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة قطر، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وتحريك إمكانات التجديد، وإحياء مقوماته، وتحرير مفهومه، ومصطلحه، وتنمية المسؤولية به عند كل مسلم، ليمارس دوره بالقدر الذي يستطيعه، ومن خلال الثغر الذي يقف من ورائه، ليصبح التجديد ثقافة عامة، لكل فيها نصيب، إلى جانب كونه تكليفا شرعيا، وفرضا حضاريا، للعودة إلى ينابيع التلقي في الكتاب والسنة، وتقويم سلوك المجتمع بها، ونفي نوابت السوء التي لحق بها، وإعادة المعايرة والمراجعة للواقع الاجتماعي، وما ترسب فيه من تقاليد، وعادات، قد تكون جانحة عن [ ص: 9 ] التعاليم الواردة في الكتاب والسنة، والتطبيقات، والتنزيلات على الواقع، المتمثلة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وممارسة خير القرون، وإحياء الأنموذج المسدد بالوحي، والمؤيد به، ليكون محل القدوة، وإلغاء الاقتداء بالنماذج البشرية التي يجرى عليها الخطأ والصواب، انضباطا بالتكليف الشرعي: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21) ، وسدا لذريعة استرداد الأصنام مرة أخرى، بصورة بشرية، ولو ادعى المقتدون بها، أنها تقربهم إلى الله زلفى، فيتحول بها المسلم، من معرفة الأشخاص بالحق، إلى معرفة الحق بالأشخاص، وما يحمل ذلك من مخاطر الانحراف والتحريف، والمغالاة، والتأويل الفاسد. ذلك أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها - أو دينها ) (أخرجه أبو داود، في الملاحم) ، لا يقتصر - فيما نرى - على جانب إخبار المعصوم، وإنما يعني فيما يعنيه، التكليف بالاجتهاد والتجديد.. وتجديد الدين، أو أمر الدين، والعودة بمفهوماته إلى الينابيع الأولى، ونفي البدع، ونوابت السوء، لا يخص فردا، أو جماعة، أو عصرا، أو منطقة، أو جنسا بشريا، وإنما يعم.. فهو مسؤولية جماعية، تضامنية، وفرض كفائي في المواقع والثغور المتعددة. وأعتقد - والله أعلم - أن المقصود بتجديد الدين، أو تجديد أمر الدين، على اختلاف الرواية، هـو تجديد التدين، وإعادته إلى الجادة، [ ص: 10 ] بعد ما يمكن أن يكون ناله من الزيادة، أو الانتقاص، أو المغالاة، أو الغياب لبعض المعاني، والمسالك الأخلاقية، أو ا لركود، وفتور الهمم، وانخفاض أقدار التدين، وانطفاء الفاعلية، بسبب الإلف، وترسب العادات والتقاليد، لأن قيم الدين مكتملة، وكاملة، ومحفوظة بحفظ الله لها، وخالدة، مجردة عن حدود الزمان والمكان، لكن أقدار التدين، والالتزام، هـي التي ينالها ما ينالها من الإصابات، والسقوط، والنهوض، والضعف، والنسيان، وغياب العزم، ومضي سنة التدافع البشري، والتداول الحضاري. فالتجديد من لوازم الخلود والخاتمية.. والتجديد للتدين، وليس للدين.. والتجديد إعادة معايرة الواقع، لتحديد مواطن الإصابة.. والتجديد تقويم للواقع بشرع الله، وامتلاك القدرة على وضع الخطط والاستراتيجيات، من خلال استصحاب الواقع، وفي ضوء المعايير الثابتة في الكتاب، والسنة والسيرة، ورؤية القيم في الكتاب والسنة، والسيرة، والاجتهاد في محل تنزيلها، من خلال الواقع، واستطاعاته، واتباع سنة التدرج في الأخذ بيده، في طريق النهوض، شيئا فشيئا، أو بمعنى أدق: التعامل مع الواقع، من خلال القيم في الكتاب والسنة، والتعامل مع القيم من خلال الواقع. ذلك أن استمرار الخطاب الإسلامي، خطبة، ووعظا، وتأليفا، وإعلاما، بضخ سيل من الواجبات: يجب كذا، ويجب كذا ... حيث لا يتورع بعضهم عن جلد المؤمنين من الناس على تقصيرهم - وإن ترافق [ ص: 11 ] مع الحماس الزائد، والنية الحسنة - دون القدرة على وضع دليل عمل، وخطة، واستراتيجية لحركتهم، من خلال استطاعاتهم، أو من خلال الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، والأخذ بعين الاعتبار، التوارث الاجتماعي للتقاليد، وغلبة سلطانها، والركود الحضاري، وانطفاء الفاعلية، وضمور المسؤولية ... ليس من التجديد في شيء، إن لم نقل: بأنه يساهم سلبيا في تكريس التخلف، والتراجع، وتوضع الإصابات في جسم الأمة. ونخشى أن نقول هـنا: بأن النخبة التي نيط بها، من حيث الشكل على الأقل، التجديد، وتقديم الحلول لمشكلات الأمة، والدليل لمسيرتها، تصبح هـي المشكلة، أو هـي مشكلة الأمة الحقيقية، بحيث تتحول النخبة من وسيلة تجديد، ونهوض، إلى أداة تخلف وجمود، وعجز، يستدعي (الآخر) ، ليقود الأمة، ويمارس فيها التضليل الثقافي والسياسي، على حد سواء. وهنا قضية، لا بد أن نطرحها، ونفتح ملفها للحوار، والنقاش، والمفاكرة، والمثاقفة ... إلخ، مهما كانت ملابساتها صعبة، وشاقة على النفس، وأن نمتلك الشجاعة والجرأة الكافية، للمكاشفة، والمناصحة، والمراجعة، والتقويم، وهي : أن الواقع الإسلامي، الذي نحن فيه، ولا نحسد عليه، هـو من بعض الوجوه، أو هـو من معظم الوجوه، دليل وشاهد إدانة للنخبة، وعجزها عن التغيير والتجديد، خاصة وقد أتاح العصر من الآليات، وحفظ المعلومات، واختزال المسافات، وتوفير [ ص: 12 ] التخصصات، إضافة إلى هـدايات الوحي، التي تتميز بها الأمة المسلمة، ما لا يدع عذرا لمعتذر. والادعاء بالهجمة الشرسة، والحصار الخارجي، أو بكلمة مختصرة: التعلل بالعامل الخارجي، والظروف الدولية، والإقليمية، والمحلية، بات لا يقنع أحدا، إن لم نقل: بأنه يحمل في طياته، من بعض الوجوه، دليل الإدانة للنخبة.. وأقل ما يقال فيه: بأن النخبة بعمومها، ليست في مستوى الأحداث، وعواملها الدولية، والإقليمية، والمحلية، وليست في مستوى العصر، والقدرة على التعامل معه، هـذا إن لم نقل: بأنها ليست في مستوى فهم الإسلام والعصر معا، الفهم الصحيح. ذلك أن إشاعة مناخ التخاذل الفكري، ومحاولة تعميم فلسفة الهزائم، وشيوع العقلية الذرائعية، عقلية التسويغ والتبرير، التي تتلخص في أنه في نهاية المطاف: ليس بالإمكان أفضل مما كان، يعني الجمود والخمود، والاستنقاع الحضاري، مع أن التكليف بالتجديد والاجتهاد، الذي هـو روح سارية في الأمة، يعني: أنه بالإمكان دائما، الارتقاء بأقدار التدين، وبالإمكان أن يكون أفضل مما كان. وفي تقديري، أن خصائص النخبة، ومواصفاتها، تختلف من عصر إلى عصر، ومن واقع إلى آخر، ومن مرض إلى آخر، من أمراض الأمم، في ضوء حاجات الأمة، ومشكلاتها، وعمرها الحضاري، الأمر الذي يقتضي أن ينال التجديد النخبة، بالدرجة الأولى، التي تصبح مع الزمن جزءا من الواقع، وتعجز عن الانفلات من قيوده، وتثقلها ثقافة مجتمعها. [ ص: 13 ]
إن المواصفات والخصائص المطلوبة لنخب الدفاع، وحماية الحدود، والمرابطة على الثغور، واسترداد الأرض، وحماية العرض، غير المواصفات المطلوبة لعملية البناء والنهوض، وإعادة التشكيل، وممارسة التجديد والاجتهاد، وتقويم الواقع بشرع الله، ووضع الخطط والأوعية الشرعية لحركة الأمة.. إن ورش البناء والتغيير، هـي بطبيعة الحال غير ورش الهدم، وترحيل الأنقاض. ففي مرحلة الإيقاظ من النوم، وهز إيقاع السبات العام، والإنذار بالمخاطر، والقيام بعملية التحريض، وإعادة الشحن، والشحذ للقابليات، تكون الحاجة ماسة لإشعال الحماس بكل الوسائل، من ضرب الطبول، وقرع الأجراس، واختراق جدار الخوف والصمت، في مراحل الصحوة الإسلامية الأولى.. لكن الخطورة، كل الخطورة، أن يستمر قرع الطبول، بكل ضجيجها، ومساحاتها، بعد أن أصبحت الصحوة الإسلامية، حقيقة قائمة، وهي أحوج ما تكون إلى دليل عمل لحركتها، وتأصيل لكيانها، ومرجعية لرؤيتها، وإدراك لعصرها، وتقدير لاستطاعتها، واستراتيجية لمسيرتها، وشرعية لعلاقاتها. إن الاستمرار في مرحلة قرع الطبول، بأشخاصها، وأشيائها، وشعاراتها، ومساحاتها، ومواقعها، على الرغم من تبدل الظروف، وتغير الأحوال، وتجدد المسؤوليات، وتنوع المواقع، يعني العجز عن الاستيعاب، ويعني العجز عن التجديد، والعجز عن البناء.. إنه يعني: الغياب الرعيب عن الشهود الحضاري، والغيبوبة عن الوعي، والعودة إلى [ ص: 14 ] حالة السبات العام، لكن على الأنغام والأصوات الجديدة، التي أصبحت جزءا من هـذا السبات.. إنه يعني أن يصير الماضي هـو المستقبل، ويصبح الافتتان بالتاريخ الخاص، هـو البديل عن التعامل مع الحاضر، واستشراف المستقبل. إن تشكل النخبة وتشكيلها، أو ما يسمى بالمصطلح الشرعي: (أهل الحل والعقد) ، الذين هـم بمثابة العقل المفكر، والرأس المدبر، بالنسبة للأمة، لم يعد أمرا عفويا، تحكمه عقلية البساطة والسذاجة، ولم يعد ينفع معه الادعاء، ومزيد التوثب والحماس، وإنما لا بد لهذا الرأس المفكر، من أن تجتمع لديه الحواس جميعا، أو بمعنى آخر، أن يتحقق بالاختصاصات جميعها، حتى يتمكن من التفكير السديد، والتدبير الرشيد، التزاما بقوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم.. ) (الإسراء:36) . وما لم تصبح النفرة إلى تحقيق الفقه في الاختصاصات المتنوعة، التي يحتاجها العصر، والتي تحقق الاكتفاء الذاتي، دينا، استجابة لقوله تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ، فإن حياة الركود، بين السقوط والنهوض، ستستمر إلى ما شاء الله،الذي عهد بحفظ هـذا الدين، وجعل النصر والنهوض، منوطا بعزمات البشر، ومشروطا بالتزامهم، ونصرتهم لهذا الدين، قال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) .. وقال: [ ص: 15 ] ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد:7) .. كما جعل فعل التغيير لواقع الحال، منوطا أيضا بإرادة البشر، وقدرتهم على التغيير، فقال: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) .. إنه الفقه في الدين، بالمعنى الشامل للدين، والمعنى العام لكلمة الفقه، بما فيها معنى الفقه الاصطلاحي. فإذا كان التخصص، في فروع المعرفة المختلفة، مطلوبا لعموم أفراد الأمة المسلمة، بكل فرقها، ومواقعها - لأن الإنجاز الحضاري يتطلب جهود أمة، ويعز على نخبة أو جماعة - فهو مطلوب بشكل أخص لأفراد النخبة، أو جماعة أهل الحل والعقد، الذين يمثلون الصفوة، أو خلاصة الخلاصة، ويثيرون الاقتداء بحالهم، ويناط بهم انتشال الأمة من واقعها، استجابة لقوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) - (الإسراء:36) .. وقوله تعالى: ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (النجم:28) .. وقوله تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) (يونس:39) ..وقوله تعالى: ( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14) ..فأين أهل الخبرة والتخصص، في المسائل المختلفة، الذين يتحققون بالمرجعية الشرعية، ويصوبون شهادة الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتكون عندهم الأهلية، ليشهدوا على الناس، وينبئوهم بالحق، لينتشلوهم مما هـم فيه؟! وهنا قضية، أو هـي إشكالية حقيقية في عالم المسلمين اليوم، وهي: أن الكثير من المتخصصين في فروع المعرفة المختلفة، تلقوا تعليمهم [ ص: 16 ] وتدريبهم، في معاهد وجامعات غير إسلامية، بالمعنى الأدق لكلمة إسلام، فارتهنوا لفلسفتها، في الحياة، ومناهجها، وكتبها، ومدرسيها، ومراجعها، وأنظمتها المعرفية، دون أن يتحققوا بالقدر المطلوب من المرجعية الشرعية، والمنطلقات الإسلامية السليمة.. إنهم يفتقدون مركز الرؤية.. لذلك نرى أن الكثير منهم قد يحكمون على الإسلام، ويتنكرون لقيمه عن جهل، خاصة إذا عجزوا عن قولبة الإسلام، بالقوالب الحضارية الغربية، وافتقدوا الاستجابة المطلوبة، في عالم المسلمين، ناسين أو متناسين، أدب المعرفة، ومنطق الأشياء العلمي: بأن الحكم على الشيء، فرع عن تصوره. وقد لا يتسع المجال لإيراد الكثير من الأدلة، وشواهد الإدانة، على ذلك، وحسبنا هـنا شهادة مرحلة النضج والاكتمال، التي أدلى بها الدكتور زكي نجيب محمود قبل وفاته، بعد هـذه الرحلة الفكرية الطويلة، والتي تدعي الأستاذية، وتعتمد المنطق والحجة والفلسفة، التي أدان فيها أحكامه السابقة على الإسلام، والثقافة الإسلامية كلها.. لقد جاءت هـذه التوبة الفكرية، بعد شيء من الاطلاع، ولكنها بعد فوات الأوان، إلا أنها دلالة على الهدى، الذي نسأل الله أن يكتب له نصيبا من ثوابه. والقليل منهم، من المتحمسين للإسلام، المنحازين له عاطفيا، يمارسون الاجتهاد الفكري الإسلامي، من خلال المنظومة الفكرية الغربية، ودليلها المعرفي الذي درسوه، دون أن يتوفروا على المرجعية الشرعية المطلوبة، والنظام المعرفي الإسلامي، وأدواته، التي تمكنهم من الإفادة [ ص: 17 ] من معارفهم، ووضعها في خدمة المقاصد الإسلامية، في مواقعها، لذلك يقدمون للأمة المسلمة اجتهادات، وثقافات، فاقدة للمرجعية، ونقاط الارتكاز الشرعية، والضوابط العقدية، فيجيء عطاؤهم فيه الكثير من التشويش، والدخن، والأخطاء، أو الخطايا الفكرية، ويحتاج إلى الكثير من التأصيل، والتنقية الثقافية، وتتعاظم مخاطره في أنه يجيء من الداخل الإسلامي، أو ينبت في التربة الإسلامية . هذا أحد وجوه الإشكالية، أما الوجه الآخر لها، فيتمثل في العجز عن المضي - عند معظمهم - في اختصاصهم، وجعله في خدمة قضيتهم، وعقيدتهم، فيغادرون اختصاصهم، ويخلون مواقعهم، ويتحولون إلى وعاظ، أو كتاب في القضية الإسلامية، أو خطباء، أو مرشدين، دون أن يكون عندهم الزاد الكافي لممارسة هـذه الأمور الدقيقة، والخطيرة، من حيث الآثار المترتبة على الخطأ فيها، هـذا إن لم نقل: وكأنهم بسلوكهم، وفرارهم من مواقعهم، يثبتون مقولة: فصل الحياة عن الدين، وينتقصون من شمولية الإسلام. وقد يعجب الإنسان، عند ما يرى بعضهم يتحدث عن أهمية الاختصاص، ودوره في النهوض، والتكامل، وبناء النخبة، ومن ثم الأمة، ولا يكتفي بذلك كقضية عامة - قد يكون من حقه الحديث فيها - وإنما يتجاوز للحديث في دقائق القضايا، التي لا تمت إلى اختصاصه بصلة.. إنه يسمح لنفسه الخوض، والنظر، والاجتهاد، فيما لا اختصاص له فيه، من أمر قضايا الإسلام الدقيقة! [ ص: 18 ]
وكأنه بفعله، يوبخ نفسه، ويعطي مثلا سيئا من أن شمولة الإسلام، تضيق، وتضيق عن مساحات المجتمع، وتتراجع عن مجالات الحياة، بتنوع اختصاصاتها، لتقبع في إحدى زواياها المنعزلة. فكم من المتخصصين المتدينين في شعب المعرفة المتنوعة، علمية، وإنسانية، غادروا منابرهم، وتخلوا عن مواقعهم، وتركوها ثغورا مفتوحة في العقل المسلم، وتحولوا إلى وعاظ، ومفتين، ومرشدين، دون أن يقدروا قيمة هـذه المنابر، ومدى تأثيرها، وحاجة المسلمين إليها، لو أحسنوا توظيفها، واغتنامها، وأدركوا كيفية التعامل معها.. إنهم قد يحملون العلم، لكنهم يفتقدون الثقافة والمرجعية، التي تقود الاختصاص العلمي، وتحقق له أهدافه. وما أزال أذكر، عندما كنت أتحدث عن أهمية الاختصاص، ودوره في بناء النخبة والأمة معا، وأهمية إعادة تحرير مفهوم أهل الحل والعقد، في ضوء مقاصد الشرع، ومنطق العصر، وإحياء فكرة فروض الكفاية، في إحدى الجامعات، في عالمنا العربي، كيف أن إحدى المداخلات جاءت لتقول: إن ذلك عبء ثقيل، يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أننا أمة أمية، لا نقرأ ولا نحسب ! فتملكني العجب حقا من هـذا الفهم الغريب، أمام ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: ( إنما بعثت معلما ) - الحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة يتقوى بها - وقوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ، إضافة إلى [ ص: 19 ] عشرات الآيات التي تحض على العلم، وتدعو إلى التفكير، وتجعل العلم فرضا على كل مسلم، والنفرة لتحصيل الاختصاص، فرض كفاية.
ولعل في قصة بدء الخلق وبدء الوحي، ومسيرة الوحي، وركائز بناء المجتمع المسلم، الأنموذج، ما يشكل الإجابة الحاسمة.
فلقد بدأ الخلق بتعليم آدم الأسماء كلها، وبدأ الوحي الخاتم بـ: ( اقرأ ) ، فجاءت استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم العفوية لذلك بأنه أمي: ( ما أنا بقارئ ) ، فأخذه جبريل فغطه، حتى بلغ منه الجهد، فقال: اقرأ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما أنا بقارئ ) ، ثلاثا، وقد بلغ الجهد مداه، إلى أن قال: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (انظر صحيح البخاري، باب: بدء الوحي) ... وكأني ببدء الوحي يقرر: أنه لا سبيل إلى وراثة الكتاب، وحمل الرسالة الخاتمة، والشهادة على الناس، والقيادة لهم، بدون القراءة، فهي طريق التخصص والمعرفة، وهي المفتاح الحضاري، بدأت بها الخليقة على الأرض، قال تعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ، وأكدتها الرسالة الخاتمة: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1) .
وهنا قضية جديرة بالطرح، والمناقشة، ولعل المجال لا يتسع لمناقشتها بالشكل المطلوب، فلا أقل من طرحها، وهي: أن الكثير من الأخبار النبوية في مثل حديث تجديد الدين، وفي غيره، من أحاديث وردت تحت أبواب أحاديث الفتن، التي ستحل بالأمة المسلمة، وما يمكن أن نطلق عليه: مصطلح (المستقلبات) ، هـي من جانب، إحدى دلائل النبوة [ ص: 20 ] في الإخبار عن الغيب دون شك، إلا أنها من الجانب الآخر، تنبيه للمسلمين، ليعدوا العدة المطلوبة، للمواجهة، ويأخذوا حذرهم، ويغالبوا قدرا بقدر أحب إلى الله، ولا يعجزوا، ويستوعبوا سنن السقوط والنهوض، ويبادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم، حيث يصبح الإنسان مؤمنا، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.. إنها حالة من الاضطراب، والضياع، والضلال، تفتقد معها الأمة ثوابتها، ويشيع فيها الجدل، والفلسفات، والمعارف الباردة، بحيث لا يكون المخرج منها، إلا بالحصانة بالأعمال الصالحة، التي تبين الأفكار الغثائية، وما يمكث في الأرض، وتصدق القول بالعمل.
وفي تقديري: إن هـذه الأحاديث والأخبار، لم ترد لتصيب المسلم بالعطالة، وتطفئ فاعليته، وتخرجه من ساحة الفعل، إلى غرفة الانتظار، لحلول الفتن والبلاءات، بمقدار ما هـي حوافز، واستفزازات، ومحرضات حضارية، للإعداد للمستقبل.. لكن المشكلة، فيما أرى، أن ثقافة التخلف، وعقلية التخلف، تضفي على أصحابها لونا من التفسير والتبرير، يوافق حالهم، بدل أن ينتشلهم مما هـم فيه.. ولو أن مسلمي العصر الأول، كان لهم هـذا الفهم المعوج، وهذا التدين الساذج، لتقاعسوا عن كتابة القرآن، وجمعه، وحفظه، ونقله، ولم يرعبهم اشتداد القتل في القراء، في معركة اليمامة، ليبادروا إلى جمع القرآن، وحفظه، خشية أن يختلف فيه، كما اختلف اليهود والنصارى.. فإذا [ ص: 21 ] كان الله سبحانه قد تعهد بحفظه، بقوله: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) .. فلماذا يتعبون أنفسهم إذن بالجمع، والحفظ، والنقل؟!
ويمكن أن نرى بعض الملامح لهذه الفهوم والتفسيرات المختلفة، أيضا في شرح بعضهم لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ... وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، هـي ما أنا عليه وأصحابي ) (رواه الترمذي، والحاكم) .. فبدل أن نراجع أنفسنا وسلوكنا، ونختبر مدى تمسكنا بالسنن، وإقتدائنا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعتبر طريق النجاة، وبذلك نتعامل مع المقدمات التي نملكها، أقمنا معامل للتكفير، وانصرفنا للتعامل مع النتائج، التي تملكنا ولا نملكها، وهذا لا يجوز أن يفهم منه، الدعوة إلى عدم فضح الباطل، ومنازلته، وبيان زيفه، وإنما لا بد أن يترافق ذلك مع تحقيق المقصد الأساس من الحديث، وهو أن الاستمساك بالسنة، هـو طوق النجاة.
إن وجود قدر بسيط من الثقافة الإسلامية، المترافق مع الحماس، والانتصار العاطفي للإسلام، والإخلاص في الرغبة لنصرة الدين، وانتصاره، لا يؤهل صاحبه ليكون من النخبة، أو من أهل الحل والعقد، ولا يجعله أهلا للفتيا في النوازل والمشكلات، التي تعرض للحياة الإسلامية، ولا يجعله فقيها، قادرا على الموازنة، والمقارنة، والمقايسة، والترجيح بين الأدلة، وتقدير الاستطاعة، والنظر في محل الحكم. [ ص: 22 ]
فكثير من المخلصين، والمتحمسين، والعابدين، في تاريخنا العلمي والثقافي، رد العلماء حديثهم، لأنهم ليسوا من أهل الحفظ والضبط، أي ليسوا من أهل الفن - الاختصاص المطلوب - ولم تشفع لهم حماستهم، ولا إخلاصهم في قبول حديثهم، حتى لقد اعتبر الحماس الزائد، والرغبة في الخير، التي دفعت بعض المسلمين، ترغيبا من الخير، وترهيبا من الشر، لوضع أحاديث من عند أنفسهم، تحض على ذلك، من أسباب وضع الحديث، حتى الذين قالوا منهم: نحن لا نكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما نكذب له، ليخلصوا أنفسهم من عقابيل مخالفة قوله الصلاة والسلام: ( من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار ) (رواه البخاري والمسلم) ! لذلك قال بعض العلماء: إن هـذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.. حيث لا بد من اجتماع الإخلاص والصواب.. العلم والإيمان.. المعرفة وخلقها.. والاختصاص والحماس.. الأهلية والصدق..
كما أن ليس حفظ قدر من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، أو حفظ مجموعة من المسائل الفقهية، يجعل حافظها فقيها.. إنه حامل للفقه، وليس فقيها.. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( رب حامل فقه ليس بفقيه.. ورب حامل فقه، إلى من هـو أفقه منه ) (أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن) . و ( ... رب مبلغ أوعى من سامع ) (أخرجه البخاري) .
كما أن القدرة على الخطابة، واستثارة العواطف، وإثارة الرأي العام، وزيادة التوثب والحماس، دون كسب للعلوم الشرعية، والتحقق بها، [ ص: 23 ] لا تؤهل صاحبها لأن يكون من أهل الحل والعقد، أو من النخبة، التي تمثل الرأس المفكر، والمخطط للأمة.. وكم عانى ويعاني المسلمون اليوم، من حضور الخطباء، وغياب الفقهاء.. وكم عانوا ولا يزالون، من زعامات الخطبة، القادرة على تجميع الناس، العاجزة عن وضع الأوعية لحركتهم، صوب استرداد الحياة الإسلامية، ووضع الاستراتيجيات لقيادتهم، وتحقيق مقاصد الدين في الحياة، في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات أو الاستطاعات المتوفرة، وعدم خلط الأمنيات بالإمكانيات، والسنن الجارية المتعبد بها، بالسنن الخارقة، المعجزة، التي لا يد للإنسان فيها.
كما أن مجرد الانتساب إلى الجماعات، والمؤسسات، والتنظيمات، والجمعيات الإسلامية، لا يكفي وحده لأن يجعل صاحبه في أهل الحل والعقد، ولا يجعل منه فقيها، قادرا على الفتوى في نوازل الحياة، إذا لم يتوفر على مرجعية شرعية، تشكل له مركز الرؤية، وتخصص في أحد فروع المعرفة، وإحاطة بعلمه..
صحيح بأن النبوة، أو معرفة الوحي، في الكتاب والسنة، تشكل لنا الهدايات الأساسية، وتبين لنا المقاصد والغايات، ودليل العمل والتشغيل والتصويب، لما يمكن أن يكون من جنوح أو انحراف، حيث إنها توجه أنشطة الإنسان، وتمنحنا دليل التعامل مع الناس، والكون، والحياة، وتختصر لنا التجارب البشرية، وتبصرنا بالعواقب، وتحمي طاقاتنا من التبدد والضياع، وتحولها إلى المواقع المجدية، وتزودنا بطاقات غير محدودة، تضمن لنا استمرار الفاعلية، والقدرة على التجاوز، وتحول دون اليأس [ ص: 24 ] والإحباط، والانسحاب من الحياة، كما تحول دون الاستسلام للقدر الواقع، وإنما تدفعنا إلى مغالبة قدر بقدر أحب إلى الله، وأرضى له..
إنها بكلمة مختصرة: تمنحنا الثقافة، بالمفهوم الشامل لها، التي تشكل لنا دليل التعامل مع الحياة، والفقه، والاستيعاب لمتغيرياتها، وتلفتنا إلى كثير من السنن الكونية، والاجتماعية، والنفسية، التي تحكم الحياة والأحياء، وتجعل تسخيرها تكليفا شرعيا، لا يمكن أن يتم بدونه أي إنجاز حضاري، كما تطلب إلينا مزيدا من كشف السنن والأسباب، وتضعنا في مناخ التفكير العلمي والموضوعي، لنبدأ رحلة الحياة، متسلحين بمعرفة الطريق، ورؤية الغايات، بعيدا عن التضليل والضلال.
فمعرفة الوحي، هـي من بعض الوجوه: الثقافة، التي تبين وظيفة العلم، ومهمة التخصص، الإنسانية، وتقود خطواته، وتبين أهدافه، وتدفع إلى المزيد من التزود والإحاطة به وكشف مغاليقه، وبيان أسراره.. تمنح العلم، أو العالم التقي، صاحب أهلية الفرقان، الذي تمكنه من جعل العلم والتخصص، لبنة في البناء الإسلامي الشامل.
ونستطيع أن نقول، كما أكدنا على ذلك كثيرا: بأن الميزة التي يتمتع بها العقل المسلم، أنه لم يعان من ثنائية: الله والإنسان.. الوسائل والغايات.. والعلم والدين.. والعقل والوحي.. والدنيا والآخرة.. والمعهد والمعبد. والعمل في مجال التخصص العلمي الدقيق، والدعوة.. والفردية والجماعية.. والرجل والمرأة.. والتعليم المدني، [ ص: 25 ] والتعليم الديني.. والروح، والمادة.. والفرض العيني، والفرض الكفائي..إلخ.
إن معرفة الوحي في الرؤية الإسلامية، أو الثقافة، التي منحتنا إياها معرفة الوحي، حسمت هـذه الأمور جميعا، وحققت الانسجام والتماسك، ووحدت اتجاهها ومصبها، أو بكلمة مختصرة: معرفة الوحي هـي التي تحقق: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة:138) .
لذلك أعتقد أن المسلمين الذين لما يستشعروا الحاجة بعد، إلى استدراك الاختصاصات المطلوبة، لتحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة، وبناء النخبة، أو أهل الحل والعقد، بناء متكاملا، والذين يتراجعون عن تحصل اختصاصاتهم، وبذل جهدهم للإبداع، والنبوغ بها، والذين ما يزالون يحسون بعقدة الذنب، من المتخصصين، تجاه مسؤولية الدعوة، فيدفعهم هـذا الحس المغلوط، إلى مغادرة، اختصاصاتهم، والتحول إلى منابر الوعظ والإرشاد، والفتوى، دون امتلاك أداة ذلك، ووسيلته، إنما يعانون خللا في بنائهم الثقافي الإسلامي، واستيعابهم معرفة الوحي، ومرجعيتهم الشرعية، ورؤيتهم الشاملة.. إنهم ينتقصون الإسلام، ويهمشون دوره، ويحاصرونه، بعيدا عن الاقتدار على صياغة الحياة، بجوانبها المتشعبة، وصبغها بالإسلام..
إنهم أدلة رديئة ومشوهة، افتقدت العلم والثقافة معا، وفصلت الدين عن الحياة، وأخلت مواقعها المهمة، ومنابرها المؤثرة، لعلماء [ ص: 26 ] ومتخصصي الثقافات الأخرى، الذين يعبثون في حياة الناس، ويسيطرون على العالم، ويحتكرون وسائل وآليات التقدم، وشغلت مواقع لم تهيأ لها، وتتخصص بها، ورضيت من الغنيمة بالإياب، وعجزت عن وضع تخصصها في خدمة عقيدتها، وعاشت الثقافة النصرانية، والانشطار الثقافي، الذي يضع الإنسان دائما أمام الخيار الصعب، فإذا اختار الدين، فما عليه إلا الانسحاب من الحياة، وإذا اختار الدنيا، فما عليه إلا أن يدير ظهره لقيم الدين.
وهكذا تستمر المعادلة الصعبة، المفروضة علينا، وليست منا، وتنكمش الرؤية الإسلامية، وتتقطع إلى تفاريق وأبعاض، ونضفي من ثقافاتنا المستوردة، التي تعاني من هـذه الثنائية، تفسيرات كيفية لمعرفة الوحي، وانتقاءات لبعض النصوص، التي نحاول من خلالها تدعيم اختياراتنا، بلون من التدين المغشوش، والفهوم المعوجة، فتختلط الأوراق، وتستمر رحلة التيه.
والمشكلة اليوم - فيما نرى - تتراوح بين الذين غادروا اختصاصاتهم العلمية، للعمل في مجال الوعظ والإرشاد، وعجزوا عن تعبيد الحياة للدين، ووضع اختصاصهم في خدمة عقيدتهم - وأنى لهم هـذا إذا كانوا مرتهنين للثقافة الغربية، ومفاهيمها، التي تتلمذوا في معاهدها وجامعاتها، وهم مفتقدون للمرجعية الشرعية - وبين الذين استدعوا الإسلام، أو الأسلمة، من خارج الاختصاص، وحاولوا إلباسه لفكرهم، أو إلباس فكرهم واختصاصهم للإسلام، وحاولوا تطبيق نظرياتهم، [ ص: 27 ] ومناهجهم، وأنظمتهم المعرفية، ذات النسق الغربي، أو تقنياتهم المعرفية، على الإسلام، فتحول الإسلام على أيديهم، من معيار للتقويم والتصويب، ليصبح هـو موضوع التحليل، ومادته.. يقبلون منه ويرفضون، ويبرزون ويغيبون ما يتوافق مع نظامهم المعرفي، الغريب عن الإسلام، ومرة أخرى تعتمد الحضارة الغربية، هـي المعيار والمقياس للحضارة الإسلامية .. يرفعون شعارات الإسلامية، أو الأسلمة، وقد لا يفقه بعضهم الأحكام الشرعية للطهارة (!!) وبذلك يخرجون الإسلام من كونه دين حياة، يشكل نسقا وصبغة لشعب المعرفة جميعا، ودليلا لوظيفة العلم، ومقاصده، إلى إحدى الفلسفات، الخاضعة للتحليل، والدراسة، والنظر.
وحيث إن العقل المسلم قد توقف عن الامتداد بشعب المعرفة، وعجز عن الإنتاج المعرفي والثقافي، من خلال نسقه ورؤيته، وحاصر معرفة الوحي، في الكتاب والسنة، وأخرجها من مجالات الحياة، بسبب عجزه وتخلفه عن استيعابها، وفهمها فهما متخلفا، فقد انتهى بنا الأمر بشكل طبيعي، إلى احتضان نماذج لثقافات (الآخر) ، لتحتل المنابر الفكرية الإسلامية.
لقد كان المأمول أن تتمكن الجامعات، ومعاهد الدراسات العليا، من حل المعادلة الصعبة في العالم الإسلامي، والتوجه صوب دراسة المشكلات التي تعاني منها الأمة، ووضع الحلول، من خلال رسائل الماجستير والدكتوراه، ومراكز البحوث والدراسات، إلا أن الجامعات والمعاهد، [ ص: 28 ] لم تستطع هـي أيضا أن تنفك عن ثقافة التخلف، وتخرج عليها، بل أصبحت جزءا منها، تعيش على إيقاعها، سواء منها المرتهنة في مناهجها، ونظامها التعليمي، لثقافة الغالب، على الرغم من أنها تسكن العالم الإسلامي، إلا أنها مسكونة بالغرب، أو الجامعات التقليدية، التي لم تستطع أن تطور نفسها وآلياتها، فهي تعاني من غربة الزمان والمكان، ولولا أنك تدخل إليها من الحاضر، ما عرفت لأي عصر تنتسب، وفي أي زمان تعيش !
والناظر في موضوعات ومعالجات رسائل الدكتوراه والماجستير، لا يمكنه أن ينسبها، إلى عصر، أو مجتمع، أو واقع، له ظروفه ومشكلاته، مهما بذل من الجهد الفكري، إلا أن يقرأ تاريخ الإجازة، وجنسية صاحبها.. فماذا تعمل الجامعات في العالم الإسلامي ؟ وماذا تقدم من حلول لمشكلات الأمة؟ وما تفعل هـذه الألقاب العلمية، الكثيرة، التي أصبحت أشبه بالأوراق النقدية الزائفة، أو بالأوراق المالية في بلاد التضخم النقدي؟
وما أزال أذكر لقائي بطلبة الدراسات العليا بقسم الدعوة والإعلام، في إحدى الجامعات العربية، وبحضور عدد من المدرسين، عند ما بدأت المداخلات، وطرح الأسئلة، وإثارة القضايا، والمشكلات الإعلامية، والسؤال عن كيفيات التعامل معها، والمعالجة لها، عندها اضطررت أن أقول: لماذا لا تكون هـذه القضايا والمشكلات، التي تعاني منها الأمة، موضوعات لرسائل الماجستير والدكتوراه، وتأخذ حقها من الدرس، [ ص: 29 ] والبحث الأكاديمي، وتقدم رؤى وحلولا، لمشكلات ثقافية وإعلامية، ودعوية، تعاني منها الأمة؟ فنظر بعضهم إلى بعض!
لكن لا بد هـنا من الاعتراف، أن إنضاج مثل هـذه الموضوعات، ومعالجة المشكلات، يحتاج إلى جهود كبيرة، ودراسات، وإحصاءات، ومقارنات، وتحليلات.. إنها عبء ثقيل على الدارس والمدرس معا، تختلف كثيرا عن عمليات الشحن من الكتب القديمة، والتفريغ على الأوراق الجديدة، كما هـو الحال، الأمر الذي يكرس حالة الركود، والاستنقاع الحضاري، والجمود، أو التقليد الثقافي.
ولعل من المؤشرات الخطيرة: غياب العقل الاستراتيجي، عن الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة.. العقل القادر على استشراف الماضي، وفقه الحاضر، وإبصار المستقبل، في ضوء عطاء الوحي، وهداياته، وكسب العقل، من خلال التخصصات المتعددة، التي لابد منها لتشكيل العقل الجماعي للأمة.. وشيوع عقل التبرير والتسويغ.. وغياب فقه المقاصد، وبروز فقه المخارج، والحيل الشرعية.. غياب جلب المنافع، وبروز درء المفاسد، وسد الذرائع.. الأمر الذي لا يعني أكثر من المحافظة على الواقع، والإبقاء عليه، مما أدى بالتالي، إلى فقر المكتبة الإسلامية المعاصرة، للبحوث والدراسات، والمؤلفات، التي تقدم دراسات مقدورة في أسباب النهوض والسقوط، والانقراض الحضاري، ودراسات عن حركات التغيير، وسبب إخفاقها، وعبرة تجربتها، من خلال رؤية الوحي ومرجعيته.
وليس من قبيل المجازفة، القول: بأن معظم المتوفر من ذلك، قد يفتقر [ ص: 30 ] أصحابه إلى لغة التنزيل.. وعاء التفكير.. كما يفتقر إلى المرجعية الشرعية، ومركز الرؤية الدقيقة، لذلك جاء معظم كسبهم لا يتجاوز بعض النظرات، والملحوظات، والتأملات، التي تمثل نقطة الضوء، أو شرارة قدح الزناد، التي تحتاج إلى كثير من التأصيل والضوابط الشرعية، علما بأن دراسة أسباب النهوض والسقوط، وحركات التغيير والتجديد، تعتبر من الفروض الجماعية، التي يمكن أن تشكل المحور الرئيس لآيات التنزيل، الميسر للذكر، المستدعي للمدكر: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17،22،32،40) .
هذا على مستوى التاريخ العام، إضافة إلى التقصير الكبير والرعيب، في فقر المكتبة الإسلامية المعاصرة، إلى دراسة وتقويم حركات التغيير الإسلامي، على مستوى التاريخ الخاص، وبيان الخلل الذي حال دون بلوغها الغاية، واعتصار التجارب الذاتية لصالح الجيل، ولصالح المستقبل الإسلامي.
وقد يكون المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى - كما أسلفنا - تحرير مفهوم أهل الحل والعقد، وإعادة تشكيل النخبة، لا سيما وأن المسلمين ما يزالون يراوحون في مواقعهم، ويعانون من حالة الركود، وتقطيع النعال، دون قطع المسافات المطلوبة.. يعانون من حالة (اللاسقوط واللانهوض) .. أما عدم السقوط، فبحفظ الله ورحمته لهذا الدين، لأنه الدين الخاتم، الخالد، وأما عدم النهوض، فبعجز، وتخاذل، وقصور المسلمين، ومسئوليتهم بشكل عام، وعجز النخبة بشكل خاص، عن الإنتاج المأمول، في المواقع المتعددة، لأن الله سبحانه [ ص: 31 ] وتعالى ناط عملية التغيير بهم، من خلال السنن الجارية وعزمات البشر.
ولعلنا من هـنا، يمكن أن نفهم، أو ندرك أهمية النصوص الشرعية، التي تدعو للانفلات من حالة الركود، والتوارث الاجتماعي، واعتزال المجتمع، والانسحاب من الواقع.. وهذا الخروج وهذه العزلة، لا تعني الهروب من المسؤولية، بمقدار ما تعني محاولة إعادة بناء النفس، بعيدا عن الأمراض الاجتماعية، والتحقق بالسلامة، ليعود المسلم، وهو أقدر على الإسهام بعملية العلاج، والنهوض من جديد.
ولئن كان عزل المريض، والحجر عليه، هـو المطلوب في الحالات الطبيعية، حتى لا تنتقل العدوى للأصحاء، فيحق لنا أن نقول هـنا، بعد هـذه الرحلة من الإحباطات، وحمل الكثير من الأمراض الاجتماعية نفسها، التي يعيشها الآخرون، إنه : لا بد من عزل السليم، عزل الأصحاء، حتى لا تنتقل لهم العدوى، بعد شيوع المرض، وتفشيه، وإصابته لمن يدعون القدرة على شفائه، ممن أصبحوا هـم المشكلة، وليس الحل.. ومن هـنا ندرك متى تكون العزلة، لإعادة التزود، والعودة إلى الحل الإيجابي، وليس السلبي الانسحابي، لما تعانيه الأمة، وندرك في ضوء ذلك، مدلول ومقاصد الأحاديث، والآيات، التي ترغب فيها، وتعتبرها وسيلة النجاة.
وبعد: فالكتاب الذي نقدمه، هـو عبارة عن مجموعة قضايا إسلامية، عرض لها الكاتب، وفتح ملفها، كلون جديد في سلسلة (كتاب الأمة) ، في مرحلتها الجديدة.. وقد رغبنا أن يأتي التقديم، واحدة من هـذه القضايا المطروحة، في إطار التنهيج للعقل المسلم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. [ ص: 32 ]