( 2 )
وقد يكون كل من الطرفين على صواب، وقد يكونان على خطأ، أو قصور في الرؤية، أو عجلة من الأمر، بل - ربما - على ميل أو هـوى، يسوقهم إلى تأكيد قناعاتهم الفردية، أو الجماعية، باستمداد الشواهد السخية، من معطيات الإسلام، في هـذا الاتجاه، أو ذاك.
إننا نجد مفكرا فيلسوفا متألقا كإقبال - مثلا - يندفع بإخلاص، قبالة ضغوط وتأثيرات الحضارة، والفكر الغربي، في النصف الأول من هـذا القرن، [ ص: 56 ] للتأكيد على كل ما هـو ذاتي، في هـذا الدين.. كل مفردة، أو ممارسة، أو تعليم، أو خبرة، يمنحها الإسلام لأبنائه، ويلزمهم بها، لكي يبني كل ذاته، بالعمق المطلوب، والتأصيل الضروري، والإغناء اللازم، ولكي ما تلبث عملية بناء الذات هـذه، أن تتمخض عن ذلك الإنسان، المؤمن، الواثق، القدير على الفعل، المستعد لمجابهة التحديات، والصمود بوجهها، واجتيازها.
إن محمد إقبال، في (تجديد الفكر الديني) ، وعبر معظم دواوينه السخية، ببطانتها الفكرية، يؤكد هـذا المنحى، وهو صادق في استنتاجاته هـذه، لأنه كان يجد هـذا الدين، لا سيما في زمن دمار الشخصية الإسلامية، وفنائها، وتلاشيها، هـروبا من تحديات الحضارة الغربية، أو اندماجا فيها، كان يجد هـذا الدين، يضع للمنتمين، برنامج عمل في ميدان تأكيد الذات، وتفردها، لم تبلغ سائر المذاهب والأديان الفردانية عشر معشاره.
لكن هـذا الوجه وحده لا يكفي، لأن هـناك وجها آخر، يتعامل، ويرسم، ويخطط، من أجل أن بيني الجماعة المسلمة، ويعزز وجودها، قبالة تحديات التآكل والفناء، ويمنحها دفعا كبيرا، للتميز، والتماسك، والعطاء، الأمر الذي جعل فئة أخرى من المفكرين، وبعضهم ممن حسب يوما على ما سمي باليسار الإسلامي، يعلنون عن موقف نقيض تماما، للموقف المذكور، بتأكيدهم على (جماعية) الفكر الإسلامي، وعلى أن هـذا الدين، كان يستهدف (المجتمع) ، في نسيجه الشامل، أولا، وأخيرا. وهم - كذلك - قد وجدوا حشودا من الشواهد لتغذية قناعاتهم.. ذلك أن حركة الإسلام - كما المحنا قبل قليل - بمجرد أن تنداح دائرتها، فيما وراء عتبات الذات، ستجد نفسها، تمتد إلى كل ما هـو جماعي.. كل ما يخفق في نسيج المجتمع، بدءا من التعامل بين الجار والجار، وانتهاء بالعلاقات الدولية، بين المسلمين والعالم.
لكن هـؤلاء أيضا، ما كان لهم، أن يقفوا عند جانب واحد من الصورة، فيقعوا في خطيئة الرؤية، ذات الجانب أو التوجه الأحادي، وكان عليهم من أجل أن يكونوا أكثر موضوعية، أن يعاينوا الصورة بوجهيها معا، رغم أن هـذه الرؤية [ ص: 57 ] التكاملية، لا تقلل البتة من أصالة الإسلام، وهو يتعامل مع الفرد، أو من أصالته وهو يتعامل مع الجماعة. فإن هـذا الدين، قد أولى من الاهتمام، لكلا القطبين، وغذاهما بسيل من التعاليم، والضمانات، والدوافع، والمحفزات، ما جعل كل قطب يتحقق بأكبر قدر من الفاعلية، التي لا تجيء على حساب القطر الآخر. إنما هـو التوازن والتكامل المحسوب حسابه، في دين قادم، من عند الله سبحانه، الخبير العليم، الذي يعلم سبحانه، من خلق، والذي هـو أدرى، بما أبدعت قدرته.
إن المنظور التوازني، في التعامل المنهجي مع الإسلام، هـو المفتاح الوحيد، للدخول من الأبواب المشروعة لساحة هـذا الدين، وإلا فإن الداخلين سيذهبون يمينا أو شمالا.. سيجد بعضهم نفسه قبالة (المجتمع) المتفوق، كما أراد له هـذا الدين، أن يكون، دون أن يرى، أي من الطرفين الجانب الآخر من الصورة، التي لن تكتمل، إلا بالتحقق بمنظور توازني، يرى المسألة من أطرافها كافة.
( 3 )
والحق أن المذاهب الوضعية القاصرة، والأديان المحرفة، هـي التي بسبب من قصورها، وعجزها، ورؤيتها المحدودة، وهوى أصحابها، وضعت قطبي الفردية والجماعية، في حالة تنازع واقتتال وخصام، وحكمتهما بقانون: (إما هـذا أو ذاك) وكأن ليس ثمة حالة أخرى، أكثر موضوعية وعدلا، تلم القطبين معا، وتتعامل معهما بنفس الدرجة من العناية والاهتمام.
وهكذا صارت ساحات الوضعيين، ومحرفي الأديان، وبخاصة في أوروبا، تشهد سلسلة لا آخر لها من الأفعال، وردود الأفعال، التي بعثرت الكثير من الطاقات، وضيعت أجيالا بكاملها، وهي تتخبط بين القطبين، متوهمة أن نجاتها لن تكون، إلا بالاندفاع مع أحدهما، حتى إذا تبين خطأ اندفاعها الأحادي هـذا، وتجرعت مرارته وإحباطاته، عادت، لكي تندفع في الاتجاه الآخر، بنفس العنف، وبالرؤية العوراء ذاتها، ولكي تتجرع حفنات أخرى من المرارة والإحباط. [ ص: 58 ]
إن فردانية النصرانية المحرفة، والرأسمالية الجائرة، والوجودية البائدة، من جهة، وجماعية الاشتراكيات الطوباوية الحالمة، والشوفينيات العدوانية الطاغية، والشيوعية المستبدة، لتعطينا مجرد شواهد على ما شهدته الساحة الأوروبية من تضاد، بين الأفعال وردودها، ومن ذهاب وإياب، بين طرفي المعادلة: الفردية والجماعية.. والمصير الذي انتهت إليه هـذه المحاولات جميعا.. ثم القيام المتخبط كرة أخرى، للبحث عن البديل. ولن يكون البديل - والحالة هـذه - متوازنا شاملا، يلم كلا القطبين، وينقذ الإنسان الحائر من ورطته وضياعه، طالما أنه يصدر عن الإنسان، ذي القدرات المحدودة، والرؤية النسبية، والاستشراف المنقوص.. فليس ثمة إلا الدين القادم من عند الله، ما يقدر على تجاوز هـذا التأرجح المحزن، ويقود الإنسان، فردا وجماعة، إلى شاطئ الأمان، ويأوي به إلى العالم المتوازن، الذي تلتقي فيه، وتتصالح، وتتآلف، سائر الأطراف.