( 4 )
وكلنا يعرف، كيف أن الحركة الإسلامية، في بدايات تشكلها الأولى، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اجتازت دوائر عديدة، في صيغة اندياح متواصل صوب الأوسع، والأكثر امتدادا، قبل أن تبلغ حافات العالم، حيث مضت قدما، لكي تغطي على مطالبه، وتهندس لمفرداته، وعلاقاته جميعا.
ولقد كان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتاز بأصحابه الأوائل، رحلة الثلاث عشرة سنة في العصر المكي، في مرحلتيه السرية والعلنية، وهو يبني الذات المسلمة، موغلا إلى أبعد نقطة في العمق البشري، مستعينا على مهمته الصعبة، بآيات الكتاب الكريم، وهي تتنزل على مكث، وبما وهبه الله إياه من قدرة على الصبر، والأناة والتحمل، ومن مراس شديد، ومرونة في التعامل، وخبرة عجيبة بالنفس البشرية. حتى إذا حان الوقت، للانتقال إلى الدائرة التالية، دائرة الدولة، التي تحمي وتمتد في الوقت نفسه، كان صحابته الكرام الأولون رضي الله عنهم ، قديرين على تحمل المهمة الصعبة، والوفاء بالأمانة كاملة غير منقوصة.. وراح [ ص: 59 ] القرآن الكريم يغزي، بتشريعاته المتواصلة، مطالب الدائرة الجديدة، بصيغة تماس يومي مع الوقائع، ومتابعة حركية للخطوات، التي تقطع، والخطوات التي تجيء.. وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشرح، وتبسط، وتعلو بالبناء، الذي كان يتنامى يوما بعد يوم، حتى آن الأوان، للانتقال إلى الدوائر الأخرى، حيث راحت الموجة تنداح باتجاه جزيرة العرب أولا، ثم العالم كله بعد ذلك.
وفي الأحوال كلها.. في المراحل والخطوات كلها، كانت الحركة الإسلامية، وهي تنداح، قد وضعت في حسبانها، بهدي كتاب الله، وتعاليم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، طرفي المعادلة، وقطبي الوجود البشري في العالم: الفرد والجماعة، وكانت أولويات الحركة وحدها، تقتضي التركيز على الذات حينا، من أجل بناء القاعدة العقيدية، والاهتمام بالجماعة حينا آخر، من أجل إقامة الدولة ذات النظم والمؤسسات.. ولكنها كانت في الأحوال كلها، تتوجه بالخطاب إلى الفرد، والجماعة على السواء.