( 3 )
ولنا الآن أن نؤشر على المسألة الحيوية الأخرى: الطعام، والمسكن، والملبس بالإيجاز، الذي تتطلبه صفحات كهذه.
إن ضمانات التوجيه الأساسية، تنبثق هـا هـنا أيضا من المنظور الرؤيوي للإسلام، وتتجذر في العقيدة.. في أوامر قادمة من عند الله.. في الحلال والحرام، والمباح، والمندوب، والمكروه..
لقد أريد للحياة البشرية هـا هـنا أيضا، أن تتجاوز شفافية الملائكة الأطهار، وانكباب السوائم على الطعام، والتصاقها بعفن الأرض ولزوجته.. إنه الحد الوسط، الذي يليق بكرامة الإنسان، ويستجيب في الوقت نفسه، لمطلبه الأساس هـذا، في الإشباع والسكن، وأن التوجيه الإسلامي، بصيغته المتوازنة هـذه ليتأكد في حشود، يصعب حصرها من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وإننا بمجرد أن نتابع مفردات، تتعلق بالمسألة، كالحلال، والحرام، والزينة، والإسراف، والمتاع، والطعام، والشراب، والطيبات، والنعم.. إلى آخره، فإننا سنجد، كيف أن كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، ما انفكا يذكران المسلم، لحظة بعد أخرى، بهذا التوجيه الأساس، وهو يتعامل مع المسكن، والملبس، والطعام. [ ص: 85 ]
لا إفراط ولا تفريط، هـا هـنا أيضا.. لا تزهد، يجافي الضرورات الحيوية، ولا إسراف، يبلغ حد البذر، والهدر، والكبر، والخيلاء.. لا كبت، أو قسر، ولا تسيب، أو انفلات..
إن هـذا التوجيه، يحمي الحياة الإسلامية، من أي ميل باتجاه اثنتين، طالما تناوشتا الجماعات الأخرى: الانسحاب من الحياة، أو الإقبال النهم، على متاعها، كما تفعل البهائم والأنعام. وبقدر ما يمنع توجيه كهذا، من الانحدار، باتجاه المتعة الصرفة، أو الإشباع المسرف، الخالي من أي ضابط، أو منظم، والمجافي لكل مطالب الاعتدال، فإنه يمنح المسلم في الوقت نفسه، ضمانات مؤكدة، باتجاه الإشباع الذي لا يصير في المنظور الإسلامي إثما، أو خطيئة أو حراما، وإنما حقا مباحا مشروعا، بل هـو - فوق هـذا - ممارسة إيمانية تمنح صاحبها - إذا أحسن التعامل معها - أجرا مضافا.
أكثر من هـذا، أننا نجد، كيف أن الحلال، هـو القاعدة في هـذا الدين، وكيف أن الحرام هـو الاستثناء، ونجد كذلك كيف شن القرآن الكريم، حملة في غاية الشدة، والسخرية، من الكهنة،والوضاعين، ومحرفي الأديان، اليهود والنصارى وغيرهم، بسبب من تحريمهم ما أحل الله، وكيف، أن هـذا الدين، جاء لكي يحرر الإنسان من الكوابت، ويمنحه الإشباع المطلوب، ويضع عنه إصره، والأغلال التي كانت عليه: ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف:157) ، ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هـي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) (الأعراف:32) ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) (آل عمران: 93) . [ ص: 86 ] ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) (الأنعام:145) .
بل إن التوجيه الإسلامي، يمضي إلى أبعد من هـذا، فيعتبر الإشباع، مطلبا يكاد يبلغ حد القدسية، ويحض المسلم على أن يرفع سيفه - إذا اقتضى الأمر - فيقاتل من أجله.
وكلنا يذكر مقولات الإمام علي رضي الله عنه بهذا المعنى، ويذكر مقولتي عمر رضي الله عنه ، اللتين يحذر فيهما من الإفقار والتجويع: (لا تجيعوهم فتكفروهم) .. و (كاد الفقر أن يكون كفرا) .
ومع التوجيه، وبموازاته، يجيء خط الضمان الثاني: التشريع، لكي يرسم ويخطط، ويقنن، ويوزع المفردات، على هـذه المساحة، أو تلك، ويمنح السلطة أو الدولة، ومؤسساتهما، صلاحية تنفيذ هـذا كله، في نسيج الحياة الاجتماعية، من أجل التحقق، بأكبر قدر من الإشباع.
إن تعاليم مفردات تشريعية، كالزكاة، والأعطيات، والصدقات.. ورعاية مال اليتامى، والأرامل، والقاصرين.. وحماية المال العام، من كل يد تمتد إليه بسوء.. والحجر على أموال السفهاء.. وتنظيم حقوق سائر الأطراف، المشاركة في بنيان الأسرة.. وإن مبادئ فقهية، كالمصالح المرسلة، وسد الذرائع.. فضلا عن سوابق الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، وغيرهم ممن اتبعهم بإحسان، وبخاصة (عمر بن عبد العزيز) [1] ، و (نور الدين محمود) [2] .. وقبل هـذا وذاك: ذلك الحشد من التعاليم القيمة، التي انطوت عليها سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سياق المسألة الاجتماعية، لتعبر - مجتمعة - عن غنى هـذا الخط التشريعي، [ ص: 87 ] في الإسلام، وخصبه، وقدرته على العطاء، من أجل تحقيق الضمان المطلوب، لكل العراة، والجوعى، والذين لا يجدون، ما يأوون إليه.
ولقد تميز هـذا الخط التشريعي، بقدر كبير من المرونة، من أجل تحقيق أكبر نسبة من مفردات العدل الاجتماعي، ومن أجل أن يتلاءم في روحه وجوهره، مع مطالب هـذا العدل.
والوقائع كثيرة، والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، ويكفي، أن نحيل القارئ إلى بعض التجارب التي شهدها التاريخ الإسلامي، بدءا من عصر الرسالة، ومرورا بالقرون التالية، متمثلة في تجارب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعمر بن عبد العزيز، ونور الدين محمود، بن عماد الدين زنكي، لكي يلمس مرونة التشريع الإسلامي، في مسألة المطالب الأساسية، وجوهره الأصيل، الذي يستهدف إشباع الحاجات الأساسية للإنسان.
ويكفي أن نتذكر هـنا - كذلك، ومن بين حشود الشواهد - تلك الرواية التي تحكي، كيف أن غلمانا لابن حاطب بن أبي بلتعة، سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر رضي الله عنه فأقروا، فأمر كثير بن الصلت، بقطع أيديهم، فلما ولى رده. ثم قال: أما والله، لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم، وتجيعونهم، حتى أن أحدهم، لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. ثم وجه القول، لابن حاطب بن أبي بلتعة، قائلا: وأيمن الله، إذ لم أفعل ذلك، لأغرمنك غرامة توجعك! ثم قال: يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة!
وثمة -أخيرا- خط الضمان الثالث، متمثلا بالمناخ العام، الذي يشكله الإسلام، فيمنح الحياة الإسلامية، وسطيتها، واعتدالها، وإشباعها في الوقت نفسه. فها هـنا أيضا، نجد أنفسنا، قبالة حياة اجتماعية، يسودها إحساس شامل باحتقار التبذير والإسراف. بالاستعلاء على البطر، والكبر، والخيلاء، وباحترام التعفف والاعتدال، في المأكل، والمسكن، والملبس.. هـا هـنا أيضا، نجد عزلا اجتماعيا لكل قادر، على أن يعطي، فيمتنع، أنانية وشحا.. وقبولا اجتماعيا، لكل من يلاحق العري، والجوع، والتسكع، لكي يعين على الستر، والإشباع، [ ص: 88 ] والإيواء هـا هـنا أيضا نجد حالة من التكافل الاجتماعي، يلتقي عليها المؤمنون كافة، لكي لا يبيت أحدهم شبعانا، وجاره جائع، آمنا وجاره خائف، متدثرا، وجاره يتآكله العري والبرد.
لقد ضربت المجتمعات الإسلامية، على ما تضمنته من أخطاء وتجاوزات على مطالب الإسلام، أكثر الأمثلة في التاريخ البشري، خصوبة وغنى، وعطاء.. على ما يمكن لمبدأ التكافل الاجتماعي هـذا، أن يفعله في مواجهة حالات العري والتشرد، والجوع. ولقد ساعدت العبادات، كالزكاة، والصلاة، والصيام، على تعزيز وتعميق، ملامح (المناخ العام) للمجتمع الإسلامي.
ويكفي أن يرجع المرء إلى مصادرنا التاريخية، وبالذات إلى نمطين معروفين منها، وهما: كتب التراجم، وكتب الجغرافيا والرحلات، لكي يرى بأم عينيه حشود الوقائع، والممارسات، التي شهدتها الأرض الإسلامية، وتعامل معها المجتمع المسلم، عبر الزمن والمكان، فما يمسك نفسه عن الدهشة والإعجاب، بهذا المناخ العام، الذي تشكله الممارسات الاجتماعية، وبتلك النماذج البشرية المتألقة، التي كانت تطارد سرا وعلانية، أشباح العري، والتشرد، والجوع، وتكافح من أجل إلباس العراة، وإشباع الجوعى، وإيواء المشردين. ومع هـذا وذاك، فإن بمقدور المرء، أن يتابع أنشطة (الوقف) ، تلك المؤسسة الطوعية، التي انبثقت عن مطالب هـذا الدين، وتشكلت وسط مبادئ وتقاليد، هـذا المناخ العام، والتي مارست دورا لم تشهده أية بيئة أخرى، خارج عالم الإسلام، في قدرتها على الامتداد، والتغطية، والعطاء.
ومرة أخرى، فلقد ساعدت العبادات الإسلامية، كالزكاة، والصلاة، والصيام، على تعزيز، وتعميق، ملامح المناخ العام هـذا، للمجتمع الإسلامي، فإن الزكاة تضمن، بانبثاقها عن قاعدتها التعبدية، حق الفقراء والمعدمين، وهي تمارس هـذا الضمان الاجتماعي، حتى في حالات غياب السلطة، وتوقف التشريع عن العمل، فتنفذ تغطية فعالة لحالات الفقر، والمسغبة، والتشرد، والجوع.. وكلنا يعرف ما كان يفعله أبناء هـذا الدين، وهم يجوسون الأزقة والأحياء، ويجتازون الدروب في الليالي المظلمة الباردة، لكي يوصلوا إلى بيوت المعدمين، ما تحتاجه [ ص: 89 ] من مال، وملبس، وطعام.. وكلنا يعرف - كذلك - أن نسبة الاثنين والنصف بالمائة، هـذه، لو أحسن جمعها، ونفذ كما يريده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن بمقدوره أن يفعل الأعاجيب، في الإعانة على التحقق بالكفاية، وفي ملاحقة البؤر المنخفضة في سطح المجتمع الإسلامي، من أجل رفعها إلى المستوى المطلوب، وتزداد قدرة هـذه (الفريضة) المالية أكثر فأكثر بمرور الزمن، وبتزايد مصادر المال العام، وارتفاع الدخول، حيث إن بمقدور مدينة واحدة، وفق إحصائية قام بها أحد الدارسين، أن تجمع استنادا إلى النسبة المفروضة، عشرين مليونا من الدنانير، كواحد من المعدلات الوسطية، للعديد من مدن عالم الإسلام. ولنا أن نتصور ما يمكن أن يفعله مبلغ كبير كهذا، في تحقيق الكفاية والعدل.
والصلاة تعمل فيما تعمل على تمتين الأواصر الاجتماعية، وتعميق التعارف بين أبناء الحي الواحد، حيث يصير بمقدور الواجدين، أن يلبوا - بشكل أو بآخر - حاجات المعدمين.
والصيام، يكوي بجمر الجوع الطوعي، أحاسيس الذين شبعوا طويلا، وآن لهم، عبر هـذه التجربة الملزمة، أن يذوقوا مس الحرمان، فإذا أرادوا - وهم يلبون أمر الله، فيصومون نزولا عنده - أن يكسبوا رضاه حقا، فإن لهم أن يتعلموا من التجربة، ويمضوا بها إلى نهاية الطريق، هـنالك حيث يعرفون، أن الجزاء لن يستكمل أسبابه، وأن الجهد التعبدي، لن يتحقق بأهدافه كاملة، ما لم يتعلم منه الإنسان المسلم، وما لم يسع - في الوقت نفسه - إلى تحويل التعاليم، إلى وقائع وممارسات. [ ص: 90 ]