( 4 )
وماذا بشأن (البسطاء) الذين يدخلون الجنة دون أن يبدو في الظاهر أنهم قدموا عملا، لا لشيء إلا لكونهم مؤمنين، بينما تكتب اللعنة على (أديسون) و (واط) و (باستور) ، وغيرهم من العلماء والمكتشفين والمخترعين لأنهم لم يكونوا مؤمنين؟!
ولم لا؟ لم لا يكافأ هـؤلاء الناس البسطاء ذوو الصفحات البيضاء والطوية السليمة، والتوجه الخير، والقلوب التي تشع نورا؟ لم لا يكافأ هـؤلاء الأطهار [ ص: 133 ] الطيبون الذين لا يفعلون إلا طيبا، ولا يقولون إلا طيبا، والذين يتوحد في ممارساتهم الفعل، والكلمة، فلا يعرفون معنى للنفاق، والالتواء، أو الازدواج؟ لم لا يكافأ هـؤلاء الذين يلبون نداء الحق أول من يلبي، ويتجمعون، بدافع فطرتهم النقية، وتوحدهم، حول كل نبي أو رسول أو داعية، يدافعون عنه، يوم يلاحقه الكبراء، ويحمونه في لحظات الأذى والعدوان، حين يعتدي عليه الملأ، وتطارده النخبة الممتازة.. ويلثمون حواليه يوم ينفض الواجدون والمترفون ويعز النصير؟
إنهم يشكلون نواة كل دين أو دعوة حق، وقاعدتهما التي تزداد اتساعا يوما بعد يوم، فتحول الفكرة إلى واقع مشهود، والحلم إلى ممارسة تمنح خيرها للناس.
والقرآن الكريم يقف أكثر من مرة عند هـؤلاء.. ولآياته البينات تتنزل لكي تتحدث عنهم بمحبة واعتزاز، ولكي تمنحهم الوعد الجميل بالمصير.. ليس فقط لأنهم منحوا حياتهم، ومحضوا وجودهم للدعوة، في لحظات الاجتياز الصعبة، بل لأنهم كانوا يعبرون بسلوكهم، عن أقصى حالات التوحيد، والتوافق، والانسجام بين الفعل والكلمة..
هؤلاء - أيضا - أعطوا الكثير، فاستحقوا الأجر الكبير!
إننا نقرأ في كتاب الله خطابا إلى رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام: ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين * وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) (الأنعام: 52-55) ، [ ص: 134 ] ونقرأ: ( عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة ) (عبس:1-11) ، ونقرأ: ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ) - (هود:27-31) ، ونقرأ: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هـواه وكان أمره فرطا ) (الكهف:28) . [ ص: 135 ]
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبر حياته جميعا صديق هـؤلاء البسطاء الكادحين.. كان أخاهم الكبير.. يحبهم ويحبونه، ويربت على أكتافهم بحنان، وهم يقفون بين يديه مسلمين، مخلصين، تغمر وجوههم البسمة الحانية، وقلوبهم الود والفداء [1] . من أجل هـذا تحدث عنهم قائلا: ( رب لأشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره ) . [2] .
وإذا كان منطق العدل يقتضي مكافأة كل مؤمن يعمل صالحا في النسيج الاجتماعي، أيا كان موقعه في هـذا النسيج، بالجنة التي وعد بها المتقون العاملون، فإن هـؤلاء أيضا، وبضرورات المنطق نفسه، يستحقون الوعد ذاته، لأنهم - مع إيمانهم العميق - عملوا ما وسعهم الجهد من أجل ما آمنوا به واعتقدوه. ولنتذكر أنه فيما بعد مرحلة التأسيس النبوي للدعوة والدولة، وكان هـؤلاء البسطاء قاعدتها، وجندها، فيما بعد حيث بدأ الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم تنفيذ مرحلة عالمية الإسلام، كما أراد منهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصبح هـؤلاء البسطاء الذين تدفقوا على أطراف العالم القديم من كل مكان في جزيرة العرب، الخامة البشرية التي نفذ بها قادة الفتح مهماتهم الصعبة، والجند الذين استجاب - بهم - أولئك القادة تحديات القوى التي تفوقهم كثيرا، بالمقاييس المادية، لكنها هـزمت بقوة العقيدة التي التقى على مطالبها القادة والجند معا بكل ما تتطلبه من شجاعة، وتضحية، وإيثار، وفدائية، واندفاع غير وجل، ولا متردد، إزاء الأهداف التي تنتظرهم في كل مكان.
لقد لبى هـؤلاء البسطاء نداء الفتح منذ اللحظات الأولى، وما كان بمقدور القيادات الإسلامية، على تألقها وتفوقها وفدائيتها، أن تصنع شيئا لولا هـؤلاء الجند الذين شكلوا عصب الحركة وحولوا مطالبها إلى واقع منظور. [ ص: 136 ]
وفيما بعد، وعبر المسار الطويل للتاريخ الإسلامي.. عبر جل التحديات التي شهدها عالم الإسلام، والضغوط التي مورست ضده.. وقبالة كل الهجمات التي شنها الخصوم.. كان هـؤلاء (البسطاء) يشكلون الخامة الأساسية في خط الثغور، وبأذرعهم قدر هـذا العالم على الدفاع عن أراضيه، والتوسع والامتداد في ديار الخصوم والأعداء.
وبالمقابل فإن الذين يكتفون بالوقوف عند حافة الإيمان دون أن يمارسوا فعلا أو عملا أو تغييرا مما يتطلبه الإيمان.. أو الذين يعملون على غير هـدى، أو هـدف، أو بينة مما يتطلبه الإيمان الذي يستهدي بهدي الله ويستهدف حياة نظيفة، طهورة، عادلة، تليق بالإنسان.. هـؤلاء وهؤلاء لا يستحقون الوعد، لأنهم لم يتحققوا بطرفي المعادلة التي لا تستقيم بدونها حياة.. وما دام هـؤلاء (البسطاء) قد آمنوا، واقترن الإيمان عندهم بالعمل الصالح، فما لنا نحكم عليهم بالطرد ونلاحقهم باللعنة لكونهم لم يبلغوا في عطائهم ما بلغه (وات) و (أديسون) ؟ وإذا كانت شبكة الظروف والتأثيرات البيئية قد رفعت بعض الناس إلى القمة، ووضعتهم في خط المتفوقين، ومكنتهم من الريادة والاكتشاف، فإن غيابها عن القواعد البشرية العريضة لا يقتضي نفيها من دائرة التقويم، ما دام أنها تؤمن وتكدح وتنتج كل حسب قدرته التي أتيحت له.
لقد أدرك فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع الدور الخطير الذي تمارسه هـذه الجماعات البسيطة التي تتحرك في أسفل السلم الاجتماعي؛ وحدثنا (أرنولد توينبي) في تفسيره الحضاري للتاريخ عن الأكثريات المتبعة، والأقليات المبدعة، وعن أن حضارة ما، لا تأخذ سبيلها إلى التحقق ما لم يتم التواصل بين القطبين، فتتلقى الأكثريات المتبعة معطيات الإبداع، وتؤمن بها، وتتبناها، وتنفذها في أرض الواقع، وتنشرها في الآفاق.. أما (كارل ماركس) فقد مضى، بإلحاحه المعروف، وتعميماته المبالغ فيها، إلى إلغاء دور النخبة وعلق الفعل التاريخي على أكتاف الجماهير الكادحة وحدها.
وفي كل الأحوال، تظل كلمات الله سبحانه، وتعاليم رسوله صلى الله عليه وسلم ، الشاهد [ ص: 137 ] العدل على ما يفعله هـؤلاء، وهؤلاء: أولئك الذين يتربعون القمة، أو يتحركون عند السفوح، وتظل الحكم العدل الذي يمنح المصير المناسب لكل الأقطاب، شرط أن تتحقق - الأقطاب - بطرفي المعادلة: الإيمان والعمل الصالح، وإلا فإنه باطل إيمانهم وعملهم إن لم يلتقيا ويتعاشقا من أجل تنفيذ كلمة الله في هـذا العالم: ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) - (المائدة:5) ، ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) (الأنعام:88) ، ( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ) (الأعراف:147) ، ( أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ) (الأحزاب:19) ، ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم ) (البقرة:62) ، ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هـم يحزنون ) (المائدة:69) ، ( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) - (الكهف:88) ، ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) (طه:82) .
( 5 )
ودائما تظل الرؤية أحادية الجانب، سواء في تصميم الشرائع، أو التعامل معها، مرفوضة، علما، ومنهجا، ودينا.. مرفوضة - أيضا - على سائر المستويات النفسية، والاجتماعية، الذاتية، والموضوعية، وأقل ما يقال فيها: إنها تسطح الظواهر وتتعامل معها من جانب واحد، فتفقد صاحبها - بالتالي - القدرة على متابعة الطبقات الأعمق، والأوجه المتعددة للظاهرة.. إنها تحجم للرؤية، وانحراف بها يجعلها تفقد الكثير من الطبقات عمقيا، والأوجه أفقيا، ومن ثم فإن أحكامها لا تعدو أن تكون أحكاما جزئية ناقصة لأنها تقوم في الأساس على رؤية جزئية منقوصة. [ ص: 138 ]