المبحـث الرابـع : سيرة أهـل الدعـوة والجـهاد في العصـر الحـديـث
وتستمر سلسلة النور هـذه، لتشمل أجيالا، بعد ذلك كثيرة، فأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتبني هـموم الناس، قد حفظت، بحفظ الله لهذا الوحي، بشقيه، ومن ثم فهي، تثمر العمل بها، حيثما وجد المؤمنون، الذين يفقهون خطاب الله، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لهم.. وفيما يلي قسم من سير بعض هـؤلاء المؤمنين من أهل الدعوة والجهاد، في عصرنا هـذا، تنث -تذاع- شهادة بذلك.
1- الأمير عبد القادر الجزائري ، رحمه الله
( ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء، ويسمح لنا بقبوله، إذا عرض علينا، بشروط محترمة ) .
كان من أكبر علماء قطره، وكان رحمه الله، فقيها عبقريا [1] ، نزل من صومعة الانشغال بالعلم والتعليم، تحت مقارع الاستعمار الفرنسي، لأن واجب الوقت، يفرض عليه مواجهته، والالتحام بالناس لطرده، فاجتمع العلماء، وأصحاب الكلمة، وبايعوا الشيخ عبد القادر، على الإمارة، والجهاد في سبيل الله، لتحرير أرض الجزائر من الغاصبين، وإقامة الشرع الحنيف... وظل يقارع الاستعمار الفرنسي 17 عاما، ويرد هـجماتهم المتلاحمة، وعندما عرض عليه الصلح مع فرنسا، أجاب: (إن ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء، ويسمح لنا بقبوله، إذا عرض علينا، وإن المفاوضة، التي تطلبونها، يجب أن تكون مبنية على شروط محترمة، منا ومنكم ) . [ ص: 83 ]
وكانت أبرز معاركه، عندما حاصر ( وهران ) منطقة تكتل القوى الفرنسية، حيث استطاع بعد معركة، دامت ست ساعات، أن يحرز النصر، بجيشه القليل، وأسلحته المصنوعة في الجزائر، وقد انتهى الأمر، إلى توقيع اتفاقية: (دي ميشيل) ، التي كانت نصرا للمسلمين، بحيث أصبح الأمير عبد القادر ، حاكما لمنطقة وهران... واستمر رحمه الله، مجاهدا، حتى استحكمت حوله، حلقات الكيد الداخلي، والخارجي، وحوصر حتى نفذت ذخيرته، واعتقل سنة 1847م، حيث نفي مع أسرته إلى سوريا ، وبها توفي، سنة 1883م [2]
2 - عمر المختار ، شهيد الألف معركة، رحمه الله
( الإسلام يأبى الخضوع لأهله، والذل لمعتنقيه) .
انطلاقا من إدراكه العميق لتعاليم الإسلام، بخصوص الانخراط في قضايا المسلمين وهمومهم، وفقهه، أن ذلك من أرقى العبادات، وبعد جهاد طويل، في سبيل الله، والمستضعفين، دام عشرين سنة، جرت خلالها ألف معركة، يقف عمر المختار، رحمه الله، موقفه الخالد، على عتبات نيل وسام الشهادة، في سبيل الله، من أجل الناس، لدفع الظلم عنهم، ورفع الذل، عن رقابهم، وتجنيب وجوههم، الخضوع لغير الله، فيقول عقب تلاوة الكولونيل الإيطالي (مارينوني) ، قرار الاتهام، يوم 3 جمادى الأولى من سنة 1350هـ (1929م) ... وبعد إقراره بكل ما قال: (إنكم معتدون على أرضنا وبلادنا، وإن الإسلام أوجب علينا الجهاد، ضد الغاصبين المعتدين... إنني لم أفعل شيئا، إلا تنفيذ تعاليم الإسلام، فالإسلام يأبى الخضوع لأهله، والذل لمعتنقيه) .. فوجم القاضي الإيطالي، حين سمع قول عمر المختار، ولم يلبث، أن نطق بالحكم، الذي أعدته الحكومة الإيطالية، قبل المحاكمة، [ ص: 84 ] وهو: إعدام عمر المختار شنقا.. وفي اليوم التالي، سيق المجاهد إلى ساحة الإعدام، وظل يردد الشهادتين حتى قضى شهيدا -إن شاء الله- وكان ذلك -كما ذكرنا آنفا- سنة 1350هـ (1929م) [3]
3- الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ، رحمه الله
( افعلوا بي ما تشـاءون، من اليـوم، فأنتم ظالمـون على كل حـال، ولا تنتظروا مني شيئا، غير هـذا) .
تخرج من جامعة القرويين العريقة، وتقلد منصب القضاء بمليلية، وقد كان رحمه الله شعلة من النشاط، في سبيل إخراج المستعمر، من أرض الإسلام.. يسجن سنة 1915م، بتهمة الميل للعثمانيين، والعمل على الدفاع عن الخلافة، وإلهاب الشعور الإسلامي، ضد (الصليبيين الجدد) ، ويقدم للمحاكمة، أمام مجلـس حربي عسـكري، فيـكون الحوار الآتي:
- الجنرال (أسبورو) رئيس المجلس العسكري: هـل تعمل حقا ضد الحلفاء ؟
- الأمير محمد بن عبد الكريم: نعم.
- أسبورو: وما هـو سبب ذلك ؟
- محمد بن عبد الكريم: لأن الدولة العثمانية، دخلت الحرب، باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، وهي تقف بجانب ألمانيا وأستوريا، وأنا مسلم مراكشي، والخليفة نادى بالجهاد ضد الحلفاء، لتحرير بلادنا، التي تحتلها فرنسا وإسبانيا.
- أسبورو: وما هـي علاقتك بالخلافة ؟
- الأمير محمد بن عبد الكريم: إنها خلافة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، لذلك فأنا معهم لنحارب الحلفاء... [ ص: 85 ]
- أسبورو (ضاحكا) : أنا أعلم، أنك رجل نبيل، ومن أسرة نبيلة معروفة، ولكن ألا تعلم أن دولة إسبانيا ملتزمة الحياد، وأنت قاضي القضاة في منطقة الحماية ؟
- الأمير محمد بن عبد الكريم: هـذا لا يمنعني من القيام بواجبي، وأنا أرى كثيرا من ضباطكم، يتعاملون مع الألمان الموجودين هـنا، لتغذية الحرب، ضد فرنسا، بجانب تركيا، ثم إذا كانت الوظيفة، تمنعني من القيام بالواجب، فأنا مستقيل من هـذه الوظيفة، منذ الآن، لأتفرغ للقيام بالواجب المحتم علي) [4] وبعد خروجه من السجن عدة مرات، بدأ بمحاربة الأسبان، فكانت موقعة (أنوال) الشهيرة، التي أبادت فيها الفئة المسلمة الثابتة، المكونة من ألف مجاهد فقط، جيشا مكونا من خمسة وعشرين ألف جندي.. واستمر رحمه الله على هـذه الحال، حتى أسر سنة 1926م، إثر مؤامرة مزدوجة، بين فرنسا وإسبانيا ، ونفي إلى جزيرة (رينيون) ، وتمكن من الهرب، أثناء الطريق، بمساعدة بعض الغيورين، فأقام بمصر حتى توفي رحمه الله [5] إن أحدا يريد وجه الله، والدار الآخرة، لن يحيط، علما بتعاليم الإسلام في هـذا الباب، إلا ويجد نفسه ملزما، بالوقوف في المواقف، التي وقفها هـؤلاء المؤمنون الأعلام، بفضل تشرب قلوبهم، لهذه المعاني، وإيمانهم بموعود الله.
فلم يزل الإسلام، هـو الحارس الأعتد، لمصالح الناس، حيث ما وجدوا، ومتى ما وجدوا، حقا، وصدقا، وعملا، وبذلا، لا تبجحا وقيلا، ومزايدة وادعاء، كما هـو الحال، بالنسبة لكثير من المبادئ، التي أقامها أصحابها في هـذا المقام، فانزلقت منه، إن بسرعة، أو ببطء، كما ينزلق الجليد من القمم، وتثبت الجلاميد. [ ص: 86 ]