الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
وأما من زاوية التشريع العملي، فسنوضح ذلك عبر نقاط ثلاث: [ ص: 127 ] النقطة الأولى: جاء في كتاب الله، وسنة مصطفاه صلى الله عليه وسلم ، البيان، بأن شرع الله، هـو الأعلى، وأنه لا طاعة لمخلوق، في معصية الخالق، كما جاء فيهما البيان، بوجوب الحكم، بما أنزل الله، فقال عز من قائل: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة:44) ،

-وقال سبحانه: ( ومن لم يحـكم بما أنزل الله فـأولئك هـم الظـالمون ) (المائدة:45) ،

- وقال تعالى: ( {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الفاسقون ) (المائدة:47) ،

مما يجعل الأمة، حكاما ومحكومين، ملزمة بأن تراقب سريان هـذه الأحكام فيها.. وجبت الإشارة هـنا، إلى كون الأمة وحدة، وأنها توكل بعض أبنائها، ليشرفوا على تسيير شؤونها، محتفظة بحق عزلهم، متى تجانفوا عن شرع الله، أو لم تبق كفاءاتهم مواكبة، لحاجيات الأمة، ومقتضيات المرحلة التي تعبرها.

أما الفصل الذي درج عليه الناس، بين الحكام والمحكومين، وكأنهما جسمان منفصلان، فليس بأصيل، وإنما هـو دخيل من الحضارات الأخرى، كالفرعونية والساسانية، والهندية، وغيرها، والتي كان الحكام فيها، يعتبرون آلهة، فهم جسم منفصل، متميز عن أممهم، التي يحكمونها، أو الحضارتين اليونانية والرومانية، التي كان الحكام فيها سادة، والرعية عبيدا، مما يفضي، إلى نفس نتيجة الانفصال والتمايز، بين الحكام والمحكومين.. أما في التصور الإسلامي، فالأمة وحدة، وهي تنتقي من أبنائها أكفأهم، وأنسبهم، لسياسة أمورها، ولكنه يبقى من أبناء الأمة، الأصل فيه، أن لا ينفصل، أو يتميز، بمسكن، أو بلباس، أو غيره.. [ ص: 128 ]

كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدون من بعده، والشواهد على ذلك، أشهر من أن نطيل بسوقها هـنا، وإنما رخص أمير المؤمنين عمر لمعاوية ، رضي الله عنهما ، في تحسين لباسه، لأنه كان متاخما للروم، وهم أهل مظاهر، فإعزاز الإسلام -حسب اجتهاد معاوية- يقتضي اهتمامه بالملبس، ولكن حكام الأمة، غلوا بعد ذلك في هـذا الأمر، غلوا كبيرا، وقلبوها ساسانية، فتميزوا عن الناس، بكل أنواع التميز، مما أحدث هـذه الهوة المقيتة، بين الشعوب والحكام، وهي هـوة طارئة، لا أصل لها في التصور الإسلامي [1] ، وهو ما تفطن له عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، فشرع بردم هـذه الهوة، إلا أن أجله، وافاه قبل أن يبلغ الغاية.

إن الحكم في الإسلام، ليس مغنما، وإنما هـو تكليف إضافي، وقد يكون ندامة ومغرما في حالة التفريط.

والواجب اليوم، تخليص تراثنا الفقهي التأصيلي، من عقدة الانفصام النكد هـذه، بين الأمة، ومن وكلتهم، ليسوسوا أمرها، فهم أبناء الأمة، وهي التي تنصبهم، ولها الحق في عزلهم، متى رجح ذلك شرعا.. فالكلام عن الحكام والمحكومين، ينبغي أن يكون كلاما عن أجزاء جسم واحد، ذي هـموم واحدة، لكل فيه وظائفه، وليس كلاما عن أجسام، متنابذة، منفصلة، لكل منها هـمومه وأهدافه. [ ص: 129 ]

النقطة الثانية: اتفق المسلمون، على أن الإمامة عقد، وأن الشورى، أساس المشروعية.. قال القرطبي : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآراء كثير، ولم يكن يشاورهم في الأحكام، لأنها منزلة من عند الله، على جميع الأقسام، من الفرض، والندب، والمكروه، والحرام.. فأما الصحابة فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، وتشاوروا في أهل الردة، وتشاورا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده، وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب... وروى الترمذي ( عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ) قال: حديث غريب [2] قال ابن عطية : (ومدح تعالى القوم، الذين أمرهم شورى بينهم، لأن في ذلك، اجتماع الكلمة، والتحاب، واتصال الأيدي، والتعاضد على الخير، وفي الحديث: ما تشاور قوم إلا هـدوا لأحسن ما بحضرتهم [3] ، وقال أيضا في تفسير قـوله تعـالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشورى:38) .. والشورى من قواعد الشـريعة، وعزائم الأحـكام، ومن لا يسـتشير أهل العـلم والدين، فعـزله واجب، هـذا ما لا خلاف فيه) [4] [ ص: 130 ] فذهب رحمه الله إلى إيجاب الشورى، وإيجاب عزل من يتركها من الحكام، ونقل عدم الخلاف في ذلك.

وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: ( وأمرهم شورى بينهم ) : (المعنى: أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه) [5] فالشورى تعصم الأمة، من أن يظهر فيها مستبدون، وتعصمها من الزيغ، والانحراف عن الجادة، ( فعن أبي ذر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هـدى ) [6] ، ومقتضى ما سبق، أن الحاكم إذا أخل بموجب العقد، الذي بينه وبين أمته، وأصر على غيه، وجب عزله.

النقطة الثالثة: واجب المراقبة والتقويم، وهو واجب، ملقى على عاتق الأمة، فقد أوجب عليها الباري، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومراقبة الحكام، وتقويمهم.. ولن أسهب بذكر الآيات والأحاديث، التي تحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فبحسبنا أن نستدل لواجب الأمة في مراقبة الحكام بما يلي: [ ص: 131 ]

1- أخرج مسلم في كتاب الإيمان، ( من حديث عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من نبـي بعثه الله في أمـة قبلي، إلا كان له حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلـف بعدها خـلوف، يقولون ما لا يفعـلون، ويفعـلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) [7] 2- أخرج أبو داود ، والترمذي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الجهاد، كلمة حق عند سلطان جائر ) [8] 3- لقد وعى خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هـذه المسألة وعيا عميقا.. وأكتفي هـهنا بالاستشهاد بمواقف وكلمات لكل من الراشدين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، مما قد مر معنا بعضه:

( أ ) يصدع أبو بكر، رضي الله عنه ، في أول خطبة، بعد أن ولاه المسلمون الخلافة، بالكلمات المشرقات الآتيات: " يا أيها الناس! إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنت، فأعينوني، وإن أسأت، فقوموني.. الصدق أمانة، والكذب خيانة.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم " [9] ، [ ص: 132 ] فيرسخ رضي الله عنه بهذه الكلمات، حقيقة خطيرة في العقل الجمعي للأمة، وفي وجدانها، وهي، أن المسئول عن الأمة، ليس بخيرها، وإنما هـو واحد من أبنائها -كما مر بيانه آنفا- وأن طاعته، إنما تندرج تحت طاعته هـو، لله ورسوله، وانضباطه، لتعاليم هـذا الدين، إذ أبناء الأمة جميعا، أمناء على مشروع أن يصبح الناس لربهم عابدين، وهم متعاونون عليه، ومن هـنا كان الحكم مسئولية مشتركة، بين أبناء الأمة جميعا.

إن أبا بكر ، رضي الله عنه ، يربط بهذه الكلمات، الأمور بأصولها، فيربط الدولة في الإسلام، بوظيفتها العقيدية، وهي (وظيفة أصلية، سواء من حيث إطارها القيمي، أو مبادئها، وأشكالها النظامية، أو ممارساتها الواقعية العملية.. تؤكد ذلك الأوامر المنزلة من جانب، والخبرة التاريخية، من جانب آخر، وأن هـذه الوظيفة، هـي الوظيفة المحورية، والحاكمة، لباقي وظائف الدولة الإسلامية، وبالتالي، يترتب على إنجازها بفاعلية، فاعلية قيامها بباقي وظائفها ) [10] .

ومن هـنا، فإن أبا بكر رضي الله عنه ، قد وضع الأمة، على جادة الطريق، فيما يخص هـذه القضية، حين حملها مسئوليتها في مراقبته، ونص على أن طاعتها له، مرتبطة بطاعته هـو، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 133 ] " إن أحسنت، فأعينوني، وإن أسأت، فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، أطيعوني، ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم " .. (إنه رضي الله عنه ، يريد أن يكون الحكم معادلة متكافئة، بين الحاكم والمحكوم، الطرفان يتحملان مسئوليتهما، ويشاركان فيها بالفعل، والاجتهاد، والنقد، والرقابة الدائمة، وهو بالتالي، يريد أن ينمي الحس النقدي، ومسئولية الرقابة، في نفوس أبناء أمته، فليس إلا في فترات الاستيلاب السياسي، أمة لا تنقد حكامها، أو تراقبهم، ولا تقول: "لا"، حيث يجب أن تقال... ) [11] ب- " وهذا عمر ، رضي الله عنه ، يخطب يوما، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المسجد النبوي الشريف، فيقول: (يا معشر المسلمين! ماذا تقولون، لو ملت برأسي إلى الدنيا هـكذا؟ ( وأمال رأسه) ، فقام إليه رجل، فقال: أجل، كنا نقول بالسيف هـكذا (وأشار إلى القطع) ، فقال عمر: إياي تعني بقولك؟! قال الرجل: نعم، إياك أعني بقولي، فقال عمر: الحمد لله، الذي جعل في رعيتي، من يقومني، إذا اعوججت " [12] " وقال حذيفة رضي الله عنه : (دخلت على عمر يوما، فرأيته مهموما حزينا، فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين ؟ قال: إني أخاف، أن أقع في منكر، فلا ينهاني أحد منكم تعظيما.. قال حذيفة: والله لو رأيناك، خرجت عن الحق، لنهيناك.. فسر عمر وقال: الحمد لله، الذي جعل لي أصحابا، يقومونني، إذا اعوججت " [13] [ ص: 134 ] " وعن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال: (كان بين عمر ، وبين رجل كلام في شيء، فقال الرجل: اتق الله، فقال أحد الجالسين: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله ؟! فرد عمر: دعه، فليقلها لي، فلا خير فيكم، إذا لم تقولوها، ولا خير فينا، إذا لم نقبلها " [14] لقد سهر عمر، رضي الله عنه ، على توفير المناخ الملائم، لرقابة الأمة، على حكامها، (فبينما قطعت فيها، أشد الجماعات ديمقراطية، خطوة واحدة، قطع هـو فيها، خطوتين، إذ إنه لم يكتف، بإتاحة المجال الواسع، لأبناء أمته، أن يعترضوا، وإنما حثهم حثا، ودفعهم دفعا، إلى الاعتراض، وكان يهمه، ويشغل باله، أن تفقد أمته، إحساسها العميق بالحرية، وأن لا تتشرب دماؤها، أحاسيس النقد والرفض، حيث يتحتم، أن ينقد عمل ما، ويرفض، إذا اقتضى الأمر ) [15] يتبين لنا مما سلف، كيف أن الأمة، قد حصنها باريها، ومخرجها للناس، من داء الاستبداد، بحصون متعددة، ولكنها، قد ذهلت عنها، فشأنها في ذلك، كشأن من يلحس الثرى عطشا، والأنهار تجري من حوله، وإنه ليسير، أن نرمي الأمة بالغفلة، والجهل، والخمول، والجمود، [ ص: 135 ] وسائر أوصاف القدح، غير أن القدح، والسباب، لم يكونا في يوم من الأيام، ليكفيا مؤنة العمل والكد، لتغيير ما بالأمة، من مذلة، ومهانة، إلى واقع العزة، والسؤدد، والشهادة على العالمين.

وإن الطريق ليبدأ، بتجديد عقيدة الأمة، وتجديد إيمانها، وضبط تصوراتها ومفاهيمها، وتصحيح أنواع العلاقات السائدة، بين أفرادها، لينصلح العمل، تبعا لذلك، فالتصورات أصل، والسلوكات فرع.. وإنه لورش حضاري لاحب، يحتاج إلى كفاءات متعددة ومكونة، وإلى تخطيط محكم، وعمل تنفيذي متواصل، ومتابعة متعقبة، وتقويم مستمر.. والله المستعان.

التالي السابق


الخدمات العلمية