أولا : السـبب العقـيدي
إن التشريع في الدين الإسلامي، مبني -كما لا يخفى- على الاعتقادات، وهذا سبب كون سمة القرآن المكي الغالبة، هـي بناء العقيدة، وجدانيا، وعقليا، تمهيدا للتشريع، الذي كان هـو سمة القرآن المدني الأبرز.. فموضوع القرآن المكي الأساس هـو: (حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما، وتعريف الناس بربهم الحق، الذي ينبغي لهم أن يدينوا له، ويعبدوه، ويتبعوا أمره، وشرعه، وتنحية ما أدخل على العقيدة الفطرية الصحيحة، من غبش، ودخن، وانحراف، والتواء، ورد الناس إلى إلههم الحق، الذي يستحق الدينونة، لربوبيته ) [1] وإنما كان التركيز، في القرآن المكي، على العقيدة، لأنها القضية الكبرى الأساسية، في دين الإسلام، (فالأخلاق لا تقوم، إلا على أساس [ ص: 88 ] من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة، التي تستند إليها هـذه الموازين، والقيم، والجزاء الذي تملكه هـذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين، وإنه قبل تقرير هـذه العقيدة، وتحديد هـذه السلطة، تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق، التي تقوم عليها متأرجحة، كذلك، بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء... هـذا جانب من سر هـذا الدين، وطبيعته... يحدد منهجه في بناء نفسه، وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة، وتمكينها، وشمول هـذه العقيدة، واستغراقها، لشعاب النفس كلها، ضرورة من ضروات النشأة الصحيحة، وضمانا من ضمانات الاكتمال والتناسق ) [2] بين الظاهر في عالم المعاملات، والكامن في عالم الاعتقادات، والقناعات، والتصورات، ولكنها حقيقة، قد غفل عنها المسلمون..
وقد أدت هـذه الغفلة، إلى اضطرابات جسيمة في واقعهم، بسبب روم طوائف من أبناء الأمة، الذين اختطفهم عالم الأشياء، وأذهلهم عن كينونة أمتهم، تطبيق مناهج نهضوية، لا تبدأ من هـذا المبتدأ.. وخمول جماهير الشعب، يمكن التغلب عليه، إذا كان راجعا، إلى مجرد التجنب الفطري للكد، وبذل الجهد، والتعرض للخطر، وليس بالإمكان التغلب عليه، إذا كان يعبر عن الرفض، لنفس المثل الأعلى للكفاح، لكونه مضادا، لصميم إرادة عامة الشعب، وإحساساتهم... إن الشعوب الإسلامية، لن تقبل أبدا، بأي شيء، يخالف الإسلام مخالفة صريحة، ذلك لأن الإسلام، ليس مجرد فكرة وقانون، فقد أصبح الإسلام في نفوس هـذه الشعوب، محبة وشعورا، وإن كل من خرج على الإسلام، كائنا من كان، فلن يحصد غير الكراهية والمقاومة[3] [ ص: 89 ]
ولهذا السبب، بقيت كل المشاريع النهضوية المطروحة، عالقة، وأصيبت الأمة بالخمول، من جراء لا مبالاة، وعدم اكتراث الشعوب، مما ضيع جهودا، وهدر مقدرات، الأمة اليوم في أمس الحاجة إليها... إنه الذهول عن شاكلة بنية الأمة، ومبتدأ نشأتها، وطبيعة عجنتها... إنه الذهول عن الأساس العقيدي، (وتفصيل ذلك: أنه عقب اختفاء النموذج الإسلامي للوجود السياسي -على تدهوره في أخريات أيامه، والذي كانت تعبر عنه، بشكل أو بآخر في المشرق، الدولة العثمانية - برزت الدولة المحدثة، التي شكلت قطيعة حادة، مع الوظيفة العقيدية، في جوهرها النقي، نتيجة لتبنيها العملي، لمبدأ العلمانية اللادينية، وتطبيقه في كافة أمورها السياسية، داخليا، وخارجيا، ومع ذلك، فإن مضمون الوظيفة، وجوانبها، وأبعادها المضيعة، ترسبت في الوعي، والذاكرة الجمعية، لفئات، أو طوائف الأمة، ليشكل رصيدا وعنصرا ثابتا، على مستوى العقيدة، والقيم، وكسلوك فردي، وجماعي، وإن كان لا يجد تعبيره السياسي، وأبعاده النظامية، في الوقت الراهن) [4] ومن هـنا فإنني أرى، مع د. حامد عبد المجيد القويسي ، صدق رأي من ذهبوا إلى أن (الدولة المحدثة) في البلاد الإسلامية، نتاج عملية التحديث، على النمط الأوروبي، الأمر الذي جعل منها إطارا فوقيا، [ ص: 90 ] مركبا على قمة المجتمع، يحكمه، وهو منفصل عنه.. وهي أيضا محدثة؛ لأنها تشكل انحرافا، أو ابتداعا في عقيدة المجتمع الأساسية والسائدة، والتي كان ينبغي للدولة، أن تكون أداة، ووسيلة لتحقيقها، في الواقع [5] فالأمة انبثقت، من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأطر العامة، التي يهتدى بها، في عملية تأسيس البناء، فهذه العقيدة، هـي التي وضعت مبادئ النظم، وقواعدها، وحددت مجالات الممارسة، والحركة، لتكون الدولة نتاجا، ومحصلة طبيعية، لهذا المجتمع العقيدي، ومن ثم كان من البديهي، أن تلتزم الدولة، بأساس وجودها العقيدي، الذي قام عليه المجتمع، واستقام على طريقته، ويعني هـذا، أن تجعل الدولة غايات حركتها وممارستها السياسية، نابعة من الغايات، التي تحددها وتوجبها العقيدة، وبالتالي تصبح الدولة (أداة) أو (وسيلة) لتحقيق الغايات، التي حددتها العقيدة، لوجود الفرد والمجتمع، من خلال ترجمتها، في عمليات، وأدوار متميزة، ووظائف محددة [6] وقد أدى غياب هـذه الأمور، إلى شلل المجتمعات الإسلامية، فكان من آثار ذلك، انحسار خلق تبني هـموم الناس، من واقعنا.
أمر آخر مرتبط بالعقيدة، وهو أن هـذا الدين، قبل أن يكسب الإنسان حقوقه، بنى عقيدته، وحرره وجدانيا.. فقد حرر هـذا الدين الإنسان المؤمن به، من (عبادة غير الله، ومن الخضوع لأحد غيره، فما لأحد عليه غير الله سلطان، وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضرا ولا نفعا إلا الله، وما من [ ص: 91 ] أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء إلا الله، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده، هـو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم، ولا لغيرهم شيئا...
فإذا تحرر الوجدان من شعور العبادة والخضوع لعبد من عباد الله، وامتلأ بالشعور، بأنه على اتصال كامل بالله، لم يتأثر بشعور الخوف على الحياة، أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة... وهو شعور خبيث، يغض من إحساس الفرد بنفسه، وقد يدعوه إلى قبول الذل، وإلى التنازل عن كثير من كرامته، وكثير من حقوقه، ولكن الإسلام،لشدة حرصه، على أن يحقق للناس العزة والكرامة، وأن يبث في نفوسهم، الاعتزاز بالحق، والمحافظة على العدل، وأن يضمن لذلك كله -علاوة على التشريع- عدالة اجتماعية مطلقة، لا يفرط فيها إنسان... لهذا كله، يعنى عناية خاصة، بأن يقاوم الشعور بالخوف، على الحياة، وعلى الرزق، وعلى المكانة، فالحياة بيد الله، وليس لمخلوق قدرة، على أن ينقص هـذه الحياة، ساعة، أو بعض ساعة، كذلك ليس له أن يخدشها، خدشا خفيفا، بضرر خفيف: ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) (آل عمران:145) ،
( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هـو مولانا ) (التوبة:51) ،
( لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) (يونس:49) ..
وإذن، فلا كان الجبن والجبناء.. فالحياة والأجل، والنفع والضر، بيد الله،دون سواه:
( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ) (يونس:31) ، [ ص: 92 ] ( يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هـل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هـو فأنى تؤفكون ) (فاطر:3) ...
ويقرر القرآن أن خوف الفقر، إنما هـو من إيحاء الشيطان، ليضعف النفس، ويصدها عن الثقة في الله، وعن الثقة في الخير: ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) (البقرة:268) [7] ويتتبع كتاب الله، في نفس الإنسان،، كل ذرة من خوف، أو قلق، أو هـوان، من شأنها أن تحجم به عن طلب المعالي، والسعي في رضا الله، أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وإقرارا للحق، ودفاعا عن حقوق الناس، وتبنـيا لهـمومهم، ذرة قـد تبقى مخـبوءة في بعـض حـنايا النفـس، أو مسـاربها، ليزيلها، من خـوف على مـكانة، فالملـك بيـد الله :
( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشـاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتـذل من تشـاء بيدك الخير إنك عـلى كل شيء قـدير ) (آل عمران:26) ، أو من إحساس بقلة قدر، أمام من هـم أشرف نسبا، وأعظم جاها،
فيقرر سبحانه: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) . [ ص: 93 ]
ويعالج سبحانه النفوس المريضة بالإحساس بالصغار، أمام أرباب الأموال، بحكايته تعالى لقصة قارون، التي ختمها بقوله عز وجل : ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافـرون ) (القصص:79 - 82) ،
وقال تعالى: ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) (طه:131) .
وقد يتحرر الإنسان، من كل ما سبق، حين تستتب العقيدة الحق في قلبه، ولكن يبقى مستذلا لذاته، وشهواته، وعلائقه، فيستأصل الله هـذا الإصر، ويكسر هـذا الغل، بقوله تعالى: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصـوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة: 24) . [ ص: 94 ]
وقد أعجبني تعليق سيد قطب رحمه الله على هـذه الآية، حيث قال: وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ، والمطامح، والرغائب، ونقط الضعف في نفس الإنسان، ليضعها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى، حب الله ورسوله، وحب الجهاد في سبيله، لتكون التضحية كاملة، والتخلص من أوهاق -أحبال - الشهوات كاملا، فالنفس التي تتحرر من هـذا كله، هـي النفس، التي يتطلبها الإسلام، ويدعو إلى تكوينها، لتستعلي على الضراوة المذلة، وتملك قياد أمرها، وتنزع إلى ما هـو أكبر، وأبعد مدى، من الرغبـات الوقتية الصـغيرة... وما كـان هـذا تحـذيرا، ولا دعوة إلى الزهد، وترك طيبات الحياة، كما يحلو لبعضهم أن يفسر القرآن، أو كما يحلو لبعضهم، أن يتهم الإسلام، إنما كان دعوة للتحرر والانطلاق، من ضعف الشهوات والغرائز، ثم لا ضرر بعد ذلك، من الاستمتاع بالحياة، حين يملكها الإنسان، ولا تملكه:
( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعـباده والطيبـات من الرزق ) (الأعراف:32)
( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77 " [8]
إن العقيدة الإسلامية، حال ملامستها لشغاف القلوب، وتجذرها في تلافيف العقول، حيث ينقدح الفهم لها، والإيمان بها، فينتشران جناحين، يطيران بالإنسان، نحو آفاق العزة، والكرامة، فالعمل والجهاد، لنيل مرضاة الله، والحصول على موعوده، ومن أصدق من الله وعدا... إن العقيدة حال حياتها، ونبضها، وليس حال كونها مسجونة، في العقول، والكراريس في المجامع العلمية، إن هـذه العقيدة هـي التي، حين تتأصل [ ص: 95 ] في نفوس المسلمين، تدفعها لأن تتجند، وتصبح أوامر الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، المطالبة بتبني هـموم الناس، والتكافل معهم، ودفع الحقوق المعلومة في الأموال، للسائلين والمحرومين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أوامر متلقاة تلقي تنفيذ، لا تلقي تعلم، وملء للجعبة، مما يحمي الأمة، ويجعل نسغ -ماء- الحضارة يسري في كيانها، فوارا نافعا -بإذن الله- نفعا غير لازم، بل متعديا للآخرين.
مسألة أخرى أيضا، لها ارتباط بالجانب العقيدي، وهي تعطيل قانون السببية، انطلاقا من تأصيلات طائفة من متكلمي الأمة، حتى قال محمد بن عمر الرازي : كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة، أو لدفع مفسدة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك، ومن كان كذلك كان ناقصا بذاته مستكملا بغيره، وهو في حق الله محال، وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء، فمع ذلك لا يحصل الرجحان -بضم الراء وفتحها- فامتنع تحصيلها... [9] قال ابن القيم - وكـان ممن تفـطن إلى خطـورة هـذه القضـية -: (ولا تستهن بأمر هـذه المسألة، فإن شأنها أعظم، وخطرها أجل، وفروعها كثيرة... ومن فروعها، أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر، والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار، والكسوف والاستسرار، وحوادث الجو وحوادث الأرض... لم يسببوا لذلك سببا، إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن المرجح يرجح مثلا على مثل، بلا مرجح، ولا سبب، ولا حكمة، ولا غاية، يفعل لأجلها، ونفوا [ ص: 96 ] الأسباب والقوى، والطبائع، والقرائن، والحكم والغايات، حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفلك والرحا، ونحوهما مما يدور، متفكك دائما عن الدوران، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وأن الألوان، والمقادير، والأشكال، والصفات، تعدم على تعاقب الآنات، والمختار القادر يعيدها كل وقت، وأن ملوحة ماء البحر، كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب، ولا حكمة، ولا علة غائية.. ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص، من قول الفلاسفة، إلا بذلك، ورأى الفلاسفة، أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة، إلا بالتزام أصول هـؤلاء، ولم تهتد الطائفات للحق، الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه، يفعل بمشيئته، وقدرته، وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب، وحكم، وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب والمسببات، ما به قام الخلق والأمر، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلى من الفقه ناحية، وتكلم بأصول النفاة، فعادى فقهه أصل دينه [10]
وقال رحمه الله، ردا على هـذه المسألة: إنه سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها، شرعا وقدرا، وجعل الأسباب محل حكمته، في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني والقدري، فإنكار الأسباب، جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل سبحانه، مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم، والثواب، والعقاب، والحدود، والكفارات، والأوامر، والنواهي، والحل، والحرمة، كل ذلك [ ص: 97 ] مرتبطا بالأسباب، قائما بها... فالأسباب محل الشرع والقدر، والقرآن مملوء بها، كقوله: ( بما كنتم تعملون ) ، ( بما كنتم تكسبون ) ، ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * جزاء وفاقا )
[11]
وقال في كتابه: الجواب الكافي، لمن سأل عن الدواء الشافي: (وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات، في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور، في الدنيا والآخرة، في كتابه، على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والسبب على المسبب، وهذا في القرآن يزيد على الألف موضع) [12] وبعد أن يعطي أمثلة متعددة على ذلك، يقول: (وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره، صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية والأمرية، على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة، ومصالحهما ومفاسدهما، على الأسباب والأعمال، ومن تفقه في هـذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر، جهلا منه، وعجزا، وتفريطا، وإضاعة، فيكون توكله عجزا، وعجزه توكلا، بل الفقيه كل الفقيه، الذي يرد القدر بالقدر، بل لا يمكن للإنسان أن يعيش، إلا بذلك، فإن الجوع، والعطش، والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير، هـي من القدر، والخلق كلهم ساعون، في دفع هـذا القدر بالقدر، وهكذا من وفقهه الله، وألهمه رشده، يدفع قدر العقوبة الأخروية، بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة.. فهذا وزن المخوف في الدنيا، وما يضاده، [ ص: 98 ] فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا يناقض بعضها بعضا، ولا يبطل بعضها بعضا، فهذه مسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان) [13]
إن انتشار عقيدة إبطال الأسباب في الأمة، قد أفضى بها إلى العجز، وإلى التواكل، مما جعل عطاءها يغيض، وعقول أبنائها تنكمش، وتقصر عن الإبداع، فشاع التعامل مع الكون، استهلاكا وتأثرا، وليس إبداعا وتأثيرا... الأمر الذي جر عواقب غير مرضية، وأسهم بفعالية في إدخال الأمة، إلى فترة جمود، قد طالت.
يقول د. عمر عبيد حسنة -وهو ممن تفطن إلى خطورة هـذه المسألة، وصنفها من ضمن إصابات العقل المسلم-: (تم التجانف والعدول في التعامل، عن السنن الجارية، واكتشاف قوانين التسخير - إذ أسقطت الأسباب- إلى السنن الخارقة، وانتظار المنقذ القادم من الغيب، ليعالج التخلف، والتأخر، والتمزق... وفي هـذا، ما فيه من مجافاة للعقل المسلم، وللإنجاز الحضاري في عصر النبوة، فترة القدوة، لكنها إفرازات مناخ التخلف، واجتهادات عصر التخلف) [14] ويا ليت الأمر اقتصر على الجانب العملي، بل تعدت الإصابة إلى الجانب التنظيري العلمي، فألغيت المقاصد، إذ استبعد -من المنطلق الذي بسطنا الكلام عنه- أن تكون الشريعة وضعت لعلة، وسبب جلب المصالح العاجلة والآجلة للعباد، في الدنيا والآخرة، مما جعل عطاء فقهاء الأمة، ينحسر دون مجال الكشف عن مقاصد الشارع من شرعه، وهو [ ص: 99 ] مجال كان من شأنه، أن يوسع آفاق الأمة، ومداركها، ويجنبها الوقوع في نكبات كثيرة، سياسية، واجتماعية، واقتصادية، كمثل ما كان يمكن أن يقع، لو وزع عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أراضي سواد العراق ، ولم يتفطن إلى مقاصد الشرع، في وجوب عمارة الأرض، وعدم تركها في يد ثلة قليلة، لن تستطيع تثميرها، وفي الحفاظ على كرامة الناس، بعدم تجريدهم من مقدراتهم الأساسية، ووضعها في أيدي قلة من الناس، يتميزون عن باقي الخلق بثرواتهم، فيتسلطون عليهم، وهذا مما يصطلح على تسميته بـ: (أصل اعتبار المال) .
وقد جرت الغفلة عن هـذه المقاصد، وقوع المحاذير التي ذكرنا، وأخرى معها في العصور اللاحقات... ويرحم الله أبا إسحاق الشاطبي ، إذ رفع عقيرته للدفاع عن كون الشريعة، مبنية على علل، مفندا رأي من ذهب إلى عكس ذلك، فقال: (وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك... والمعتمد إنما هـو أننا استقرينا من الشريعة، أنها وضعـت لمصـالح العباد، استـقراء لا ينـازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل،
وهو الأصل: ( رسـلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (النساء:165) ،
( وما أرسـلناك إلا رحمـة للعالمين ) (الأنبياء:107) .
وقـال في أصل الخلقـة: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (هود:7) ،
( وما خلقـت الجـن والإنـس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ، [ ص: 100 ]
( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) .
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: ( ما يريـد الله ليجعل عليكم من حرج ولـكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم )
(المائدة:6) .
وفي الصلاة : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت:45) .
وقال في القبلة: ( ... فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للنـاس عليـكم حجـة ) (البقرة : 150) .
وفي الجهـاد: ( أذن للذين يقـاتلون بأنهم ظلمـوا ) (الحج:39) .
وفي القصاص: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) (البقرة:179) .
وفي التقرير على التوحيد: ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هـذا غافلين ) (الأعراف:172) .
والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هـذا، وكان في مثل هـذه القضية مفيدا للعلم، فنحن نقطع، بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة... ومن هـذه الجملة، ثبت القياس، والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه) [15] أعلم أنني، قد أطلت بعض الشيء، في بسط هـذه القضية، وظني، أنه بسط يقتضيه المقام، وذلك لأن هـذه الإصابة، قد تخمرت في كيان [ ص: 101 ] الأمة، طيلة قرون، وكانت لها آثار سلبية، من أجلاها، الجمود، والتسليم في تاريخنا وحياتنا للآخرين، كيما يصوغوهما، وفق ما يحلو لهم، وقصورنا عن التنقيب، من أجل الكشف عن مقاصد شرعة ربنا، والوقوف على مرامي مراده منا.
وعموما فإن تجاوز هـذا الواقع، لا شك، سوف يحتاج إلى جهد، ليس باليسير، وإلى وقت، ليس بالقصير، غير أن ذلك يبقى في حيز الممكن، ويبقى التحقق به، مرتبطا بالوعي العميق، بطبيعة المشكلة، والإرادة الصادقة لتجاوزها، والقدرة الكافية، فكريا وماديا، لاتخاذ التدابير الممكنة، من هـذا كله، تخطيطا، وتنزيلا، على واقعنا، وإن انبعاث إرادات المسلمين، لتبني هـموم بعضهم بعضا، والتكافل مع بعضهم بعضا، لرهين بتخطي هـذه العقابيل الدقيقة والمزمنة والله الموفق.