الحالة الثقافية والفكرية
العوامل الثقافية والدينية التي أثرت في فكر ابن باديس
أولا: الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال
إن انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك الفترة، دليل على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت مزدهرة بها.
وقد اشتهرت مدن قسنطينة والجزائر وتلمسان وبلاد ميزاب في الجنوب بكثرة المراكز التعليمية، وكان يقوم عليها أساتذة وعلماء مشهود لهم بعلو المكانة ورسوخ القدم في العلم والمعرفة، مثل الشيخ (الثميني) في الجنوب، والشيخ (الداوودي ) في تلسمان، والشيخ (ابن الحفاف) بالعاصمة، والشيخ (ابن الطبال) بقسنطينة، والشيخ (محمد القشطولي) [ ص: 45 ] في بلاد القبائل [1] ، وغيرهم كثير ممن تفرغوا للتدريس ونشر العلم.
وكان من نتائج هـذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، (فقد كتب الجنرال فالز سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هـناك مدرستين في كل قرية... أما الأستاذ ديميري، الذي درس طويلا الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال خمسة وثلاثون مسجدا تستعمل كمراكز للتعليم، كما أن هـناك سبع مدارس ابتدائية وثانوية يحضرها بين ستمائة وتسعمائة طالب، ويدرس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية) [2] وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية [3] وكتب الرحالة الألماني (فيلهلم شيمبرا) حين زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831م، يقول: (لقد بحثت قصدا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هـناك من يستطيع القراءة من [ ص: 46 ] بين أفراد الشعب) [4] .. وخير المثال ما شهد به الأعداء.
وقد برز في هـذه الفترة علماء في كثير من العلوم النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر، غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلبا وحرقا، في هـمجية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلا.
يقول أحد الغربيين واصفا ذلك: (إن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج) [5] يظهر مما ذكرنا أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين أقطار المغرب في خدمة علوم العربية والإسلام، كما قدمت للميدان أعلاما من رجالها، حملوا الأمانة، وكانت تشد إليهم الرحال في طلب العلم [6]
ثانيا: الحالة الثقافية والفكرية والدينية أثناء الاحتلال
يمكن تقسيم الفترة الممتدة من دخول الاستعمار إلى ظهور دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى مرحلتين:
* المرحلة الأولى (1830-1900م)
لم تقتصر اعتداءات الاحتلال الفرنسي للجزائر على الجوانب [ ص: 47 ] السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل عمد إلى تدمير معالم الثقافة والفكر فيها، وقد ظهر حقده الصليبي في إصراره على تحطيم مقومات الأمة، وفي مقدمتها الدين الإسلامي واللغة العربية، معتمدا في ذلك على ما يلي:
1 - مصادرة الأوقاف الإسلامية
كان التعليم في الجزائر يعتمد اعتمادا كبيرا على مردود الأوقاف الإسلامية في تأدية رسالته، وكانت هـذه الأملاك قد وقفها أصحابها للخدمات الخيرية، وخاصة المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا.
وكان الاستعمار يدرك بأن التعليم ليس أداة تجديد خلقي فحسب، بل هـو أداة سلطة وسلطان ووسيلة نفوذ وسيطرة، وأنه لا بقاء له إلا بالسيطرة عليه، فوضع يده على الأوقاف، قاطعا بذلك شرايين الحياة الثقافية.
جاء في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 7 / 7 /1833م ما يلي: (ضممنا إلى أملاك الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك طبقة من السكان، كنا تعهدنا برعايتها وحمايتها... لقد انتهكنا حرمات المعاهد الدينيـة ونبشنـا القبـور، واقتحمنـا المنـازل التي لها حرمتها عنـد المسلمين...) [7] [ ص: 48 ]
2 - التضييق على التعليم العربي
أدرك المستعمر منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر، خطورة الرسالة التي تؤديها المساجد والكتاتيب والزوايا، في المحافظة على شخصية الأمة.
فلم تكن هـذه المراكز قاصرة على أداء الشعائر التعبدية فحسب، بل كانت أيضا محاضر للتربية والتعليم وإعداد الرجال الصالحين المصلحين، لذلك صبت فرنسا غضبها عليها بشدة، فعمدت إلى إخماد جذوة العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب والزوايا، التي دمرت فلم تبق منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب، دفعتها العقيدة الدينية، فحافظت على لغة القرآن ومبادئ الدين الحنيف في تعليم بسيط وأساليب بدائية [8] فقد حطم الفرنسيون في 18 / 12 /1832م جامع كتشاوه، وحولوه بعد تشويه شكله وتغيير وضعيته إلى كاتدرائية، أطلق عليها اسم القديس فيليب Cathedrale Saint Philipe، والشيء نفسه وقع لمسجد حسن باي بقسنطينة غداة سقوطها بأيديهم [9] سنة 1837م.. هـكذا اختفت كثير من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم الإسلامي، التي كانت مزدهرة قبل الاحتلال الفرنسي.
كما طالت يد الحقد الصليبي المكتبات العامة والخاصة، حيث أحـرق جنـود الجنـرال دوق دومـال DauK Daumale مكتبـة الأميـر عبد القادر الجزائري [ ص: 49 ] بمدينة تاقدامت في ربيع الثاني 1259هـ، 10 مايو 1843م، وكان فيها من نوادر المخطوطات ونفائس المؤلفات ما لا يقدر بثمن [10] ، ونفس المصير واجهته معظم المكتبات الأخرى [11] إن هـذه الحرب الشعواء التي شنها الاستعمار على الدين الإسلامي واللغة العربية، جعلت التعليم في الجزائر يصل إلى أدنى مستوى له، فحتى سنة 1901 -أي بعد حوالي 70 سنة من الاحتلال- كانت نسبة المتعلمين من الأهالي لا تتعدى 3.8% [12] ، فكادت الجزائر أن تتجه نحو الفرنسة والتغريب أكثر من اتجاهها نحو العروبة والإسلام.
وقد تأثرت الحياة الفكرية والدينية في هـذه الفترة ببعض العوامل الأخرى، نذكر منها ما يلي:
أ- الطرق الصوفية
من الإنصاف أن نذكر هـنا الدور الإيجابي الذي قامت به بعض الطرق الصوفية منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، فقد ساهمت بعض زواياها في نشر الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي للاستعمار والاستبسال في محاربته. [ ص: 50 ]
فقد كان الأمير عبد القادر الجزائري راسخ القدم في التصوف [13] ، وكان الشيخ الحداد -أحد قادة ثورة القبائل الكبرى عام 1871م- قد انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته [14] ، إلا أن كثيرا من الطرق قد انحرفت في ما بعد عن الخط العام الذي رسمه مؤسسوها الأوائل، فكثرت عندها البدع والضلالات والخرافات، وتقديس القبور والطواف حولها، والنذر لها، والذبح عندها، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى. كما أنه كانت لبعض رجالاتها مواقف متخاذلة تجاه الاستعمار، حيث سيطرت هـذه الطرق على عقول أتباعها ومريديها، ونشرت بينهم التواكل والكسل، وثبطت هـممهم في الاستعداد للكفاح من أجل طرد المحتل الغاصب، بدعوى أن وجود الاحتلال في الجزائر هـو من باب القضاء والقدر، الذي ينبغي التسليم به، والصبر عليه، وأن طاعته هـي طاعة لولي الأمر.
بهذه الروح المتخاذلة والتفكير المنحرف، كانت بعض الطرق سببا في إطالة ليل الاستعمار المظلم في البلاد من جهة، وتفرق صفوف الأمة وضلالها في الدين والدنيا من جهة أخرى [15]
ب- انتشار الجهل والأمية
لقد أدت الثورات المتتالية التي خاضها الشعب ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم، إلى فقدان الأمة لزهرة علمائها في ميدان الجهاد. [ ص: 51 ]
كما أن كثيرا من المستنيرين من حملة الثقافة العربية الإسلامية هـاجروا إلى المشرق العربي، وإلى البلاد الإسلامية الأخرى، يتحينون الفرص للرجوع إلى الوطن وتطهيره من سيطرة الفرنسيين، كل ذلك ساهم في انتشار الجهل وتفشي الأمية بين أفراد الأمة، مما أثر سلبا على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
ج- المدارس البديلة التي أنشأها الاستعمار
لم تفتح هـذه المدارس في حقيقة الأمر من أجل تعليم أبناء الجزائر، ورفع مستواهم الثقافي، بل كان الاستعمار يقصد من وراء ذلك عدة أمور، منها:
- تجريد الشعب الجزائري من شخصيته العربية الإسلامية، ومحاولة إدماجه وصهره في البوتقة الفرنسية بإعطائه تعليما هـزيلا يجعله أسهل انقيادا لسياسته.
- قتل الروح الوطنية التي أدت إلى اشتعال الثورات المتوالية، وجعل الشعب أكثر خضوعا للاحتلال.
- إيجاد قلة متعلمة للاستفادة منها في بعض الوظائف التي تخدم الاحتلال.
فقد أنشأت فرنسا لهذا الغرض عدة مدارس ابتدائية، منها المدارس (الفرنسوية الإسلامية Franco-musulmane، في الجزائر العاصمة وبعض المدن الأخرى ابتداء من سنة 1836م. [ ص: 52 ]
ولم تكن هـناك مدارس للتعليم الثانوي والعالي إلا بحلول القرن العشرين، حيث فتحت المدرسة الثعالبية في عهد الحاكم الفرنسي (جونار) سنة 1904م [16] ، رغم أن مرسوم إنشائها صدر منذ سنة 1850م.
د- هـجر الأهالي للمدارس الفرنسية
كان الأهالي يتخوفون كثيرا من التعليم الرسمي المقصور على تعلم اللغة الفرنسية وحضارتها، إذ رأوا فيه وسيلة خطيرة لفرنسة أبنائهم [17] ، فكان الإقبال على هـذه المدارس ضئيلا جدا.. ومع عدم وجود المدارس الحرة الكفيلة باحتضان أبناء المسلمين، فإن نسبة الأمية ارتفعت إلى درجة مذهلة، كما مر بنا آنفا.
كل هـذه العوامل ساهمت بطريقة أو بأخرى في انتشار الجهل والأمية بين أفراد الشعب، مما جعل الحالة الثقافية والفكرية والدينية في تلك الفترة تبعث على الحزن والأسى.
* المرحلة الثانية (1900-1914م)
الأمة الجزائرية هـي قطعة من المجموعة الإسلامية العظمى من جهة الدين، وهي ثلة من المجموعة العربية، من حيث اللغة التي هـي لسان ذلك الدين.
فالأمة الإسلامية بهذا الدين وهذا اللسان وحدة متماسكة الأجزاء، يأبى الله لها أن تتفرق وإن كثرت فيها دواعي الفرقة، ويأبى لها دينها، وهو دين التوحيد، إلا أن تكون موحدة[18] [ ص: 53 ]
فعلى الرغم من الحصار الذي فرضته فرنسا على الجزائر لعزلها عن بقية الأقطار الإسلامية، خاصة تلك التي لم تبتل بما ابتليت به من محاولة طمس دينها ولغتها، فإنه مع إطلالة القرن العشرين بدأت الجزائر تعيش حركة فكرية شبه متواصلة مع الأقطار الإسلامية الأخرى، سواء عن طريق الطلبة الذين ابتعثوا للدراسة في جامع الزيتونة والأزهر والجامعات الإسلامية الأخرى، أو عن طريق الدعوات الإصلاحية التي قامت في البلاد الإسلامية، مثل دعوة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وهناك عوامل أخرى ساعدت على قيام هـذه الحركة الفكرية، كتلك البوادر الإصلاحية الفردية التي قام بها في الجزائر بعض العلماء المتفاعلين مع حركة الإصلاح الإسلامي.. ولعل مما ساعد على قيام هـذه النهضة أيضا، تولي المسيو (شارل جونار) الولاية العامة في الجزائر.
وهنا نلقي بعض الضوء على جانب من تلك العوامل التي ساهمت في ظهور وانتعاش النهضة الفكرية في الجزائر:
1- عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج
وأقصد بهم الطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة، وجامعة القرويين، والأزهر، وفي الحجاز والشام.
ساهم هـؤلاء المثقفون بعد عودتهم إلى الوطن بجهود عظيمة في النهوض بالحياة الفكرية والدينية، بما أثاروا من هـمم وأحيوا من حمية، وبنوا من مدارس في مختلف أنحاء الوطن، وبما أصدروا من صحف، [ ص: 54 ] معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأصلحوا العقائد، وصححوا المفاهيم، ونقوا الأفكار من رواسب البدع والخرافات التي علقت بها، وأحيوا الشعلة التي أخمدها الاستعمار في نفوس الأمة.. ويوم اسوداد المآزم وتلاحم الخطوب، أعادوا ذكرى أسلافهم في الصبر والصمود.. ومن هـؤلاء الرواد الذين ساهموا في إثراء هـذه النهضة الفكرية الإسلامية بالجزائر نذكر:
- الشيخ عبد القادر المجاوي [1848-1913م] [19] :
تخرج الشيخ المجاوي من جامعة القرويين بمدينة فاس ، ويعتبر من العلماء القلائل الذين كانـوا على رأس الحركـة الإصلاحيـة في الجزائـر، (فلا تجد واحـدا من هـؤلاء (المصلحين) في الربع الأول من هـذا القـرن إلا وهو من تلامذته) [20] .. خرج أفواجا كبيرة من المدرسين والأئمة والوعاظ والمترجمين والقضاة، كان من بينهم الشيخ (حمدان الونيسي) أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وقد ترك الشيخ المجاوي آثارا علمية كثيرة في اللغة والفلك والعقيدة والتصوف، نذكر منها: كتاب (الدرر النحوية) ، و (الفريدة السنية في الأعمال الحبيبية) ، و (اللمع في إنكار البدع) ، و (نصيحة المريدين) ، وغيرها مما يضيق المقام بسردها.
ومن بين رواد النهضة الإسلامية في تلك الفترة أيضا العلامة: [ ص: 55 ]
الشيخ عبد الحليم بن سماية [1866-1933] [21]
يعتبر الشيخ ابن سماية في مقدمة الأفاضل الذين أمدوا هـذه النهضة بآثار فضلهم، ومن أوائل المصلحين الجزائريين الداعين لفكرة الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومن رفاق الشيخ المجاوي في التدريس، كما يعد من أوسع علماء عصره علما وثقافة. (فقد تخرج على يديه جيل من المثقفين مزدوجي الثقافة، وخلف مؤلفات كثيرة منها كتاب (فلسفة الإسلام) .
ومما تجدر الإشارة إليه هـنا، أن أغلب أعضاء البعثات العلمية التي ذكرنا سابقا، قد ظهر تأثيرهم على الحياة الفكرية والحركة الإصلاحية بشكل ملحوظ، في العقدين الثالث والرابع من هـذا القرن خاصة، مثل: الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك بن محمد الميلي، وغيرهم.
2- الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي
كان للدعوة التي قادها الأستاذ جمال الدين الأفغاني أثر كبير في نشر الفكر الإصلاحي السلفي في الجزائر، فرغم الحصار الذي ضربه المستعمر لعزلها عن العالم الإسلامي، زار الشيخ محمد عبده -تلميذ الأستاذ جمال الدين- الجزائر عام 1903م، واجتمع بعدد من علمائها، [ ص: 56 ] منهم الشيخ محمد بن الخوجة [22] ، والشيخ عبد الحليم بن سماية، كما ألقى في الجزائر تفسير سورة العصر [23] وقد كان لمجلة العروة الوثقى ومجلة المنار، تأثير كبير على المثقفين من أهل الجزائر، الذين اعتبروا دروس العقيدة التي كانت تنشرها (المنار) للإمام محمد عبده، بمثابة حبل الوريد الذي يربطهم بأمتهم.
وقد استمر الاتصال الفكري بين الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية ولم ينقطع، فقد شارك الشيخ عمر بن قدور [24] بقلمه في جريدة (الحضارة) بالآستانة، و (اللواء) و (المؤيد) بمصر سنة 1914م [25] ، وقد كانت هـذه الجرائد والمجلات تدعو إلى نهضة العرب والمسلمين، وكانت رائجة في بلاد المغرب والجزائر خاصة.
ويعترف الفرنسيون بأن هـناك (مجرى سريا، ولكنه غزير ومتواصل، من الصحف والمجلات الشرقية التي أعانت المغاربة في مجهوداتهم الإصلاحية، وجعلتهم مرتبطين أبدا بالرأي العام العربي) [26] [ ص: 57 ]
3- ظهور الصحافة العربية الوطنية في الجزائر
ظهرت في الجزائر خلال تلك الفترة صحافة وطنية عربية، ساهمت مساهمة فعالة في بعث النهضة الفكرية والإصلاحية الحديثة.
فقد عالجت في صفحاتها كثيرا من الموضوعات الحساسة، منها: الدعوة إلى تعليم الأهالي، وفتح المدارس العربية لأبناء المسلمين، والتنديد بسياسة المستعمرين واليهود، ومقاومة الانحطاط الأخلاقي والبدع والخرافات. فهذا الأستاذ عـمـر راسـم [27] يجلجـل بآرائـه في غيـر مواربـة ولا خوف، فيقول: (أجل، يجب أن نتعلم لكي نشعر بأننا ضعفاء.. يجب أن نتعلم لكي نعرف كيف نرفع أصواتنا في وجه الظلم.. يجب أن نتعلم لكي ندافع عن الحق، وتأبى نفوسنا الضيم، ولكي نطلب العدل والمساواة بين الناس في الحقوق الطبيعية، وفي النهاية لكي نموت أعزاء شرفاء ولا نعيش أذلاء جبناء) [28] كما ظهر في هـذا الميدان كتاب شاركوا بمقالاتهم وتحليلاتهم في تشخيص الداء الذي ألم بالأمة، واقتراح الدواء الناجع لذلك، من هـؤلاء الشيخ المولود بن الموهوب [29] ، والشيخ عبد الحليم بن سماية ، والأستاذ عمر بن قدور وغيرهم. [ ص: 58 ]
4- تولي (شارل جونار) [30] الولاية العامة في الجزائر
على الرغم من أن المسيو (جونار) فرنسي نصراني، إلا أن وصوله إلى منصب الحاكم العام في الجزائر، كان له أثر كبير على الحياة الفكرية في تلك الفترة.
يذكر أن هـذا الأخير (شجع إحياء فن العمارة الإسلامية، وبعث التراث المكتوب، والتقرب من طبقة المثقفين التقليديين، وتشجيعهم على القيام بمهمتهم القديمة، كإقامة الدروس في المساجد ونحوها) ، كما اهتم بالتأليف ونشر الكتب العلمية وكتب التراث، مما كان له أثر هـام على الحياة الثقافية في الجزائر [31] وقد أشرف (جونار) على فتح المدرسة الثعالبية سنة 1904م، بجوار مقام (سيدي عبد الرحمن الثعالبي) في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية، وندب اثنين من الشيوخ للتدريس ونشر العلم بها، كما أمر بنشر كتابين هـامين، أحدهما كتاب: (تعريف الخلف برجال السلف) ، الذي صنفه الشيخ أبو القاسم الحفناوي وطبعه سنة 1907م، والكتاب الثاني: [ ص: 59 ] (البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان) ، لابن مريم الشريف التلمساني
[32] ، الذي تولى إعداده للنشـر الأستاذ (محمد ابن أبي شنب) [33] ، المدرس بالمدرسة الثعالبية الدولية، وطبع سنة 1908م برعاية المسيو (جونار) [34] هـذه باختصار أهم العوامل التي ساعدت على قيام تلك الحركة الفكرية الإصلاحية بالجزائر، في الفترة التي ظهر فيها الشيـخ عبد الحميد ابن باديس.
وبهذا العرض المتواضع، تتضح لنا طبيعة الوسط الثقافي والفكري الذي تربى وترعرع فيه الشيخ ابن باديس، ويبقى أن نتعرف على شخصية الشيخ وأسرته ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، ومكانته العلمية [ ص: 60 ]