الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث : طلب العلم في نظر ابن باديس

يبدو موضوع العلم وطلبه، من أبرز الموضوعات التي استحوذت على اهتمام الشيخ ابن باديس، وإذا أمعنا النظر في الجوانب الرئيسة التي عالج بها هـذا الموضوع، نراه يهيب بالمتعلم أن يهتم بتصحيح نيته، والاجتهاد [ ص: 113 ] في طلب العلم، مبينا مكانة أهله في المجتمع، والمسئولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم.

وسنحاول في هـذا المبحث إن شاء الله أن نكشف عن تلك الجوانب وغيرها، لنعرف مدى ما أسهم به ابن باديس في هـذا المضمار.

النيـة

إن العلم هـو نبراس المسلم في ظلمة الجهل، وسبيله لتوحيد خالقه وحسن عبادته.. وإن طلبه من أشرف أنواع العبادات وأجلها،

يقول الله تعالى: ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) (محمد:19) .

ويقول تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) (آل عمران:18) .

وكما هـو الشأن في جميع العبادات، فإنه ينبغي على طالب العلم أن تلازمه النية الحسنة والإخلاص لله تعالى في تعلمه.

ويرشد ابن باديس المتعلم، أن ينوي بطلب العلم مرضاة الله تعالى والدار الآخرة، وإزالة الجهل عن نفسه وعن غيره، وخدمة الدين، متجاوزا بذلك الأغراض الزائلة، فلا يرتبط هـذا الجهد برتب أو مغانم قريبة. ويرى أن من أسباب نجاح طلبة العلـم في تحصيلهـم وتفقههـم أن (لا يقصـدوا إلا أن يتعلموا فيعلموا، ويتفقهوا فيفقهوا، ولا يرجوا من ذلك إلا رضا الله ونفع عباده) [1] . [ ص: 114 ]

وقد تنحصـر نوايـا بعض المتعلمين في تحصيـل العلـم فقط، وهـذه بلا شك نية فاضلة، ولكن إذا جمع الطالب بين نية التحصيل ونية التقرب إلى الله عز وجل ، كان ذلك أكمل وأتم.

وأما من جعل ذلك وسيلة لإقبال الناس إليه، أو استجلاب بعضا من حطام الدنيا، فحسبه ما نوى، إذ النيـة هـي الأصـل في جميع الأحـوال لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) [2] .

يقول ابن باديس في شرحه لهذا الحديث: (أفاد التركيب، حصر اعتبار الأعمال في نياتها، والمقصود بها، لا في صورها وظواهرها) [3] .

فكم من عمل ظاهره من أعمال الآخرة، ثم يصير من أعمال الدنيا بسوء النية، ذلك أن (أعمال الناس قد تشترك في صورها ومظاهرها، حتى لا يكون في ذلك فرق بينها، ولكنها بذلك التساوي الصوري الظاهري لا تكون متساوية في الاعتبار والحقيقة، وما يتبعهما من القبول والرد في نظر الشرع) [4] .

ومن قبل قال الشاعر:


من طلب العلم للمـعاد فـاز بفضـل من الرشـاد     فبالخسـران طالبـه
لنيل فضل من العبـاد [5] .

[ ص: 115 ]

وكما أنه ينبغي على الطالب تصحيح أعماله الظاهرة، وحصرها في طاعة الله تعالى، كذلك ينبغي عليه تصحيح ما بطن منها.

ويوضح ابن باديس ذلك فيقول: (كما علينا أن نجتهد في تطهير أعمالنا من المخالفات، وقصرها على الطاعات والمباحات، كذلك علينا أن نجتهد في طاعاتنا أن تكون خالصة لوجه الله، وأن نبعد عنا كل خاطر يلفتنا إلى غيره، حتى يسلم لنا القصد كله خالصا، والعمل كاملا) [6] . الاستمرار في طلب العلم والاجتهاد في تحصيله

عانى قطاع التعليم في زمن ابن باديس من عوائق كثيرة، نذكر منها:

أولا: نفور أغلب الشعب من تدريس أبنائهم اللغة الفرنسية، باعتبار أنها لغة العدو الكافر الذي اغتصب وطنه، الشيء الذي أوجد فراغا كبيرا لدى الأهالي في كثير من التخصصات العلمية، التي لا تدرس إلا باللغة الفرنسية.

ثانيا: الطرق الصوفية المنحرفة، التي سعت جاهدة لإيقاف المد الإصلاحي.

وثمة آفة أخرى أصابت التعليم في الجزائر، هـي أن العلوم كان منها ما يؤخذ باللسـان العربي، وهـي العلوم الشرعيـة والآليـة، ومنها ما يؤخذ باللسان الأجنبي، وهي علوم الأكوان والعمران. (وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام، كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على تيه وضلال، [ ص: 116 ] فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجارا... وأولئك يعتبرون هـؤلاء كفارا) [7] .. الأمر الذي جعل ابن باديس يتحسس مواضع الداء، ويبحث بجد عن أسبابه حتى نفذ إلى أعماق القضية، فعاب على كل من ينتقص علما من العلوم لم ينل منه حظا، أو يزهد فيه لاعتبار من الاعتبارات، موجها نداءه إلى الجميع قائلا: (احذر كل متعيلم يزهدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية، ودعا إليها القرآن الكريم بالآيات الصريحة) [8] ، وأن العلم تراث الإنسانية، يستحقه على السواء جميع أفرادها المجتهدين [9] .

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:


تعلم فليـس المـرء يولـد عالمـا     وليس أخو علم كمن هـو جاهل
وإن كبيـر القـوم لا علم عنـده     صغير إذا التفت عليـه الجحافـل
وإن صغير القوم إذا كان عالما     كبيـر إذا ردت إليـه المحـافـل [10]



ويرى ابن باديس ضرورة الاستمرار في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وأنه مهما بلغ الإنسان من درجات في العلم، يبقى بحاجة إلى [ ص: 117 ] طلب المزيد، وفي هـذا يقول: (يتعلم الإنسان حتى يصير عالما ويصير معلما، ولكنه مهما حاز وتوسع فيه وتكمل به، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه وعلمه أشياء مجهولة يحتاج إليها، فعليه أبدا أن يتعلم وأن يطلب المزيد، ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم

-وهو المعلم الأعظم- أن يطلب من الله عز وجل، وهو الذي علمه ما لم يكن يعلم، أن يزيده علما، فقال: ( وقل رب زدني علما ) (طه:114) [11] ومن المعروف أن لتحصيل العلم طريقين: أحدهما أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والثاني أن يتلقى ذلك من معلم موثوق به علما وديانة، إلا أن الطريق الثاني أسلم وأسرع وأثبت للعلم.

فإذا جمع الطالب بين الطريقين، كان ذلك أكمل وأتم، لذلك يرشد ابن باديس طلبة العلم إلى السير على الطريقين فيقول: (فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي، ليقتصدوا في الوقت، ويتوسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير) [12] هـكذا عمل ابن باديس جاهدا لتجاوز تلك العقبات، وتشجيع الجميع على طلب العلم ومحاربة الجهل، وذلك أقصر السبل لإنقاذ الأمة من وهدة الاستعمار والتخلف. [ ص: 118 ]

أنواع العلوم عند ابن باديس

يرى ابن باديس أن العلم منه فرض عين ومنه فرض كفاية، ولابد للمسلم من معرفة ما هـو فرض عين عليه، إذ (الإسلام دين له عقائد وأخلاق وأحكام، وأن على المسلم أن يعرف من ذلك ما لا يكون المسلم مسلما إلا به، وأن عليه أن يقوم بذلك في أهله وبنيه وبناته، ومن في رعايته وكفالته) [13] والسؤال الذي يدور حوله المطلب هـو:

ما هـي العلوم التي إذا عرفها البعض سقطت معرفتها عن الآخرين، والأخرى التي تجب على المسلم في خاصة نفسه؟

يوضح ابن باديس ذلك فيقول: (إن طلب العلم على وجهين:

أحدهما: الاشتغال بتحصيل مسائله، والانقطاع إلى تعلم قواعده، وهذا هـو الواجب كفاية) ، مثال ذلك ( مـا روي عـن زيـد بن ثابت رضي الله عنه ، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود، قال: إني والله ما آمن يهود على كتاب. قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته.. قال: فلما تعلمته، كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ) [14] [ ص: 119 ]

ويتضح لنا من ذلك أن تعلم لغة اليهود، لم يكن فرضا على كل المسلمين، بل هـو من فروض الكفاية، التي إذا عرفها البعض سقطت عن الآخرين.

وثانيهما: (السؤال عن حكم ما نزل به من أمر دينه، واستفتاء أهل العلم فيه: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) الآية، وهذا واجب عينا.. فإذا احتاج الإنسان إلى شيء من العلم، كان تعلمه فرض عين عليه، فمثلا: إذا أراد أن يتوضأ، يجب عليه عينا أن يتعلم كيف يتوضأ، وإذا أراد أن يصلي وجب عليه عينا أن يتعلم كيف يصلي، وهكذا.

ويخلص ابن باديس إلى القول: (فاحفظ هـذا الضابط واعتبر به مسائل دينك، يسهل عليك الفرق بين ما هـو واجب على عموم المسلمين، يسقط بوجود عالم بينهم، وما هـو واجب عليك في خاصة نفسك، لا تبرأ ذمتك إلا بمعرفته) [15]

واجب العلمـاء

لقد مدح الله العلماء العاملين في أكثر من آيـة فقـال عز وجل : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) (فاطر:28) . (أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء [ ص: 120 ] الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والمعرفة به أكمل، كانت الخشية له أعم وأكثر) [16] " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية " [17] وقال مالك رحمه الله: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب [18] .

فالعلماء من الأمة كالقلب من الجسد، إذا صلح صلح سائر الجسد.. وقد أثبت التاريخ، أنه لا مجد لهذه الأمة ولا صلاح لها إلا إذا صلح علماؤها، ولا صلاح لعلمائها إلا إذا كانوا ربانيين في هـدفهم وسلوكهم وتفكيرهم، صادقين فيما يدعون إليه، فإذا كانت تلك صفاتهم كانوا بحق مصدر هـداية لأمتهم.

وفي هـذا يقول ابن باديس: (إن أهل العلم في كل قطر، هـم مصدر الهداية والإرشاد، ومبعث التثقيف والتهذيب، وكل واحد في ناحيته هـو نبراسها في ظلمة الجهل، ومرجعها في مشكلات الأمور) [19] ويبين ابن باديس فضل العلماء وعلو مكانتهم، وعظيم المسئولية الملقاة على عاتقهم، فيقول: ( العلماء ورثة الأنبياء، ) [20] وما ورث الأنبياء [ ص: 121 ] دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، والعلم مستمد من الرسالة، فعلى أهله واجب التبليغ والنذارة، والصبر على ما في طريق ذلك من الأذى والبلاء، والعطف على الخلق والرحمة) [21] .

ويرى ابن باديس أن العلم مصدر لمزيد من المسئولية عن المجتمع يتحملها العالم، وليس العلم مصدر امتياز في التمتع والمنافع والاستئثار، يدل به العالم على سواه، فكلما ازداد الإنسان علما ازداد تحملا للمسئولية، لازدياد إدراكه لمدى واجباته. (وأن العلم أمانة عند العلماء، وهم مكلفون بأدائه لمستحقيه، وليس العلم ملكا لهم يستغلونه، فيكتمونه إذا رأوا الكتمان أوفق بمصالحهم الشخصيـة، وينشـرون منـه ما لا يصادم أهواء العامة، بل يزيدهم جاها لديهم، ولا أبخس صفقة ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة) [22] .

يقول تعالى: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) (البقرة:159) .

فكما أنه يجب على المتعلم التعلم، كذلك يجب على العالم التعليم، فيا فوز من زاده علمه خشية، ومن الله قربا. [ ص: 122 ]

والحقيقة أن تاريخ الأمة الطويل يشهد على الارتباط الوثيق بين صلاح العلماء وازدهار الأمة، فكلما قام العلماء بواجبهم تجاه الأمة، صلحت أمورها وازدهرت، فكلما قعدوا عن ذلك تدهورت وانحطت. وفي هـذا يقول ابن باديس: (وإنا إذا راجعنا تاريخ المسلمين، في سعادتهم وشقائهم وارتفاعهم وانحطاطهم، وجدنا ذلك يرتبط ارتباطا متينا بقيام العلماء بواجبهم، أو قعودهم عما فرض الله وأخذ به الميثاق عليهم) [23] .

يقـول تعـالى: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل:44) .

ويقول تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) (آل عمران:187) .

فابن باديس يذكر العلماء بالميثاق الذي أخذه الله عليهم، من وجوب تبيين الحق للناس، فيقول: (ولهذا فنحن ندعو العلماء كلهم إلى أن يذكروا هـذا الميثاق، وأن لا ينبذوه وراء ظهورهم، وأن يبادر كل ساكت وقاعد إلى التوبة والإصلاح والبيان) [24] . [ ص: 123 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية