الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث : شيوخ ابن باديس

يرجع ابن باديس الفضل في تكوينه العلمي إلى والده، الذي رباه تربية صالحة، ووجهه وجهة سليمة، ورضي له العلم طريقا يتبعه، ومشربا يرده، ولم يشغله بغيره من أعباء الحياة، فكفله وحماه من المكاره صغيرا وكبيرا.

وكان أول معلم له هـو الشيخ محمد بن المداسي، أشهر مقرئي مدينة قسنطينة في زمانه، تلقى عليه القرآن فأتقن حفظه وتجويده.. أما أستاذه الذي علمه العلم، وخط له مناهج العمل في الحياة، ولم يبخس استعداده حقه، فهو الشيخ حمدان الونيسي [1] : العالم العارف، الذي استطاع أن ينفذ إلى نفسية تلميذه، فيطبع حياته العلمية والعملية بطابع روحي وأخلاقي لم يفارقه طول حياته.

وقد ظل ابن باديس يذكر تأثير شيخه على نفسيته [2] ، فيقول عنه: إنه تجاوز به حد التعليم المعهود من أمثاله، إلى التربية والتثقيف والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة [3] وفي جامع الزيتونة أخذ ابن باديس العلم عن المبرزين من الأساتذة [ ص: 67 ] والشيوخ، الذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، نذكر منهم على الخصوص:

1- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور [4] : الذي لازمه قرابة الثلاث سنوات، فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة لأبي تمام، يقول ابن باديس عن ذلك: (وإن أنسى فلا أنسى دروسا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه، فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثت في روحا جديدا في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام) [5] ، ولم يمنع ابن باديس هـذا التقدير لشيخه والثناء عليه، من مخالفته وانتقاده في بعض فتاواه [6] 2- الشيخ محمد النخلي القيرواني هـو العالم الجليل وصاحب الفضل الكبير والعلم الغزير، أستاذ التفسير في جامع الزيتونة المعمور، استقى ابن باديس الحكمة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هـذا العالم العامل، فكان لذلك أثر عميق في توجهه العلمي والعملي.. يقول ابن باديس عن شيخه: (كنت متبرما بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله... [ ص: 68 ] فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: (اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح) ، فوالله لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة عن ذهني آفاقا واسعة لا عهد له بها) [7] .. ويقـول عنه في موقـع آخـر: (ولا أكتمكم أني أخذت شهادتي في جامع الزيتونة في العشرين من عمري، وأنا لا أعرف للقرآن أنه كتاب حياة، وكتاب نهضة، وكتاب مدنية وعمران، وكتاب هـداية للسعادتين، لأنني ما سمعت ذلك من شيوخي عليهم الرحمة ولهم الكرامة، وإنما بدأت أسمع هـذا يوم جلست إلى العلامة الأستاذ محمد النخلي) [8] فللأستاذ النخلي يرجع الفضل في تحرير تلميذه من قيود التقليد الذي لا فكر فيه ولا نظر، ففتح الله له على يد هـذا الأستاذ الفاضل أبواب العمل والمعرفة، ففهم قواعد الإسلام ومحاسنه، وعقائده وأخلاقه، وآدابه وأحكامه، فأشرقت دعوته تهتك أستار الظلام والجهل، وتشع بالنور والعلم.

3- الشيخ البشير صفر الذي يعتبر من أبرز علماء تونس، ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي الأوروبي، مع إتقانه لعدة لغات حية.

اشتغل الأستاذ بشير صفر بالتدريس في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية، [ ص: 69 ] وكان لسعة اطلاعه وتنوع ثقافته، يعد من أشهر أساتذة التاريخ العربي والإسلامي فيها.. واعترافا منه بفضل هـذا الأستاذ الكبير عليه، يقول ابن باديس: (وأنا شخصيا أصرح بأن كراريس البشير صفـر، الصغيرة الحجم، الغزيرة العلم، هـي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هـذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جنديا من جنود الجزائر) [9] هؤلاء أهم الأساتذة الذين تلقى عليهم الشيخ ابن باديس العلوم العربية والإسلامية، وهم الذين كان لهم الأثر الكبير في تكوينه وتربيته، فحببوا إليه الاتجاه الإصلاحي منذ كان طالبا إلى أن صار ركنا ركينا للنهضة الإسلامية في الجزائر.

وإن كان هـؤلاء الأساتذة قد أخذ عليهم -ابن باديس- العلم مباشرة، فإن له شيوخا كان لمؤلفاتهم وآثارهم ومناهجهم الأثر الكبير في تكوينه الفكري ومنهجه الإصلاحي،

ومن بين الذين عاصروه نخص بالذكر ما يلي

1 - الأستـاذ محمـد رشيـد رضـا [10] : الـذي خـصـه ابن باديس بترجمة شاملة في أعداد مجلة الشهاب [11] ، أوضح فيها جوانب عظمة [ ص: 70 ] الأستاذ رشيد رضا، والجوانب التي تأثر بها، فيقول: (لقد كان الأستاذ نسيج وحده في هـذا العصر، فقها في الدين، وعلما بأسرار التشريع، وإحاطة بعلوم الكتاب والسنة، ذا منزلة كاملة في معرفة أحوال الزمان وسر العمران والاجتماع، وكفى دليلا على ذلك ما أصدره من أجزاء التفسير، وما أودعه مجلة المنار في مجلداتها) [12] ويوضح ابن باديس ما للسيد رشيد من آثار على الحركة الإصلاحية الحديثة، فيقول: (فهذه الحركة الدينية الإسلامية الكبرى اليوم في العالم -إصلاحا وهداية، بيانا ودفاعا- كلها من آثاره) [13] ومن خلال ما قدمنا، يبدو أن ابن باديس قد تأثر بالأستاذ محمد رشيد رضا في جوانب من منهجه، خاصة: استقلاليته في التفكير، وأسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعده عن الوظائف [14] ، فرحمهما الله جميعا، وأسكنهما فسيح جناته.

2- الشيخ محمد بخيت المطيعي [15] : يعد من المدرسة الإصلاحية الحديثة، وكان -على معارضته للشيخ محمد عبده في نواح- يؤيده في إنكار البدع والمحدثات في الدين.. وعن علاقته به، يقول الشيخ ابن باديس: [ ص: 71 ] (لما رجعت من المدينة المنورة، على ساكنها وآله الصلاة والسلام سنة 1332هـ، جئت من عند شيخنا العلامة الشيخ حمدان الونيسي المهاجر إلى طيبة والمدفون بها -رحمه الله- جئت من عنده بكتاب إلى الشيخ بخيت، وكان قد عرفه بالإسكندرية لما مر بها مهاجرا. فعرجت على القاهرة وزرت الشيخ بخيت بداره بحلوان، فلما قدمت له كتاب شيخنا حمدان، قال لي: (ذلك رجل عظيم) ، وكتب لي إجازة في دفتر إجازاتي بخط يده، رحمه الله وجازاه عنا وعن العلم والدين خير ما يجزي العاملين الناصحين) [16] ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر في هـذا المبحث، العلامة الكبير السيد حسين أحمد الهندي الفيض آبادي، الذي كان الشيخ ابن باديس يذكره كثيرا، ويرجع إليه الفضل في توجيهه إلى العمل في الجزائر، عندما التقى به في المدينة المنورة سنة 1913هـ، فيقول: (أذكر أني لما زرت المدينة المنورة، واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي، المهاجر الجزائري، وشيخي حسين أحمد الهندي [17] ، أشار علي الأول بالهجرة إلى المدينة المنورة، وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار علي الثاني، [ ص: 72 ] وكان عالما حكيما، بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني، ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته...) [18] ، وكان الشيخ حسين أحمد الهندي يتولى شرح صحيح الإمام مسلم في المسجد النبوي الشريف [19] وممن تأثر بهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته العلمية ودعوته الإصلاحية، أعلام المدرسة الأندلسية المغربية، الذين قرأ كتبهم قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون مختلفة، من الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب، وكانت جل هـذه الكتب تشكل الزاد العلمي والثقافي لتلاميذ المدرسة الباديسية، ومن هـؤلاء الأئمة: القاضي عياض [20] ، والقاضي أبو بكر بن العربي [21] ، والإمـام أبـو عـمـر ابن عبد البر [22] . [ ص: 73 ]

أما العلامة القاضي عياض، فقد اختـار الشيـخ عبد الحميد ابن باديس كتابه (الشفا) [23] ، لتدريسه لطلبته في المسجد الكبير بقسنطينة سنة 1913م، يقول ابن باديس عن ذلك: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفا للقاضي عياض بالجامع الكبير) [24] وأما الإمام أبو بكر بن العربي فيقول عنه ابن باديس أنه: (خزانة العلم وقطب المغرب) [25] ، وقد حقق مخطوط كتاب العواصم من القواصم، وقدم له بمقدمة طويلة وطبعه سنة 1928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة [26] ، وقد تأثر الإمام ابن باديس به وبالإمـام أبي عمر بن عبد البر القرطبي، فأخذ عنهما الكثير من فيض علمهم، وخاصة فيما انتهجاه في إصلاح طرق التدريس، التي كانت سائدة في عصرهما بالأندلس، وهو نفس المنهج الذي اتبعه ابن باديس في مقاومة روح التقليد والجمود الفكري الذي واجه دعوته الإصلاحية في الجزائر [27] أولئك هـم شيوخ ابن باديس وأساتذته، الذين في أحضانهم نشأ وترعرع، ومن ينابيعهم الصافية استقى العلم والمعرفة، وعلى منهاجهم أقام دعوته، وبمقاومة روح التقليد والجمود شق طريقه. [ ص: 74 ]

وقد ساهم الشيخ ابن باديس بقوة في جميع جوانب الحياة الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية في الجزائر، وهو ما سنتناوله في المبحث القادم إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية