الفصل الثالث
السيرة النبوية في أدب الأطفال
تمهيد
تمثل كتب السيرة النبوية في أدب الأطفال خيرا كبيرا، وتكاد أن تستأثر باهتمام الناشرين والكتاب على حد سواء، وما تزال. ويعجب المرء لهذا العدد الكبير من السـلاسل التي تتناول موضوع السيرة، سواء ما كان منها يتناول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة عامة، أم ما كان يعرض لجوانب منها على وجه الخصوص مثل غزواته وخلقه وحياته اليومية مع زوجاته، والصحابة، رضي الله عنهم .
لقد اجتهد الكتاب في كتبهم، إلا أن الجانب الذي يثير القلق في عدد من هـذه الكتب افتقارها إلى المنهج القويم المناط به تقديم هـذه السيرة في إطار تمثل معاني الحركة الحضارية في بناء الأمة [1] ، فالسيرة النبوية تحمل في طياتها المعاني التي تحتاج إليها الأمة للعمل الحضاري باعتبار أن لها صفة المعيارية الخالدة في الإطار العملي التطبيقي [2] ، فيكون المطلوب والحال [ ص: 73 ] هذه محاولات جـادة وتحليل جوانب من عطـائها على عدة صعـد، مثل الصعـيد السياسـي والدعوي والمواجهة والمجادلـة بالتي هـي أحسن والجهادي والتربوي والاجتماعي لتكون هـذه الجوانب عملا للاقتداء والتأسي لبناء النخبة واصطفاء الكفاءات لمشاريع النهوض [3] , ولسنا نغالي ولا نحلم عندما ننظر إلى أولاد الأمة فننظر إلى المسـتقبل، ونحن لا نعيش ليومنا، كما أريد لنا ذلك، بل يتوجب علينا أن نعيش لغدنا ونعد أولادنا إعدادا خيرا قويا عزيزا رغم كل ما يحيط بنا من عوائق ومثبطات، فلا نقف مكتوفي الأيدي مستلبي الإرادة ونكتفي بالتغني بأخبار السيرة، ولا نبقى مسكوني واقعنا، أسارى المعوقات التي تحيط بنا من كل جانب.
علينا أن نتعامل مع السيرة النبوية على أساس أنها تمثل الفقه والتجسيد العملي لقيم الكتاب والسنة على أرض الواقع، وكل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن تقديم الحلول وفق هـده الرؤية تكون عاجزة عن تمثل القيم الإسلامية. فالسيرة هـي البيان النبوي العملي والضابط لكيفيات تعامل البشر مع الوحي المعصوم الصالح لكل زمان ومكان [4] ، وما أشد حاجتنا إلى هـذا [ ص: 74 ] في زماننا هـذا حتى تكون للأمة حركة فاعلة صحيحة طيبة تكون أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هـي القدوة الصحيحة في إطار حاجات عصرنا ومتطلباته وفي ضوء واقعنا الذي نعيش. يقول تعالى: في محكم التنـزيل:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) .
فهذه الأسوة تتطلب عزمات المؤمنين القادرين، إن شاء الله، على إضاءة جوانبها المتعددة للأولاد، حتى يسيروا بهداها وهم يواصلون مسيرة الأمة، فلا تكون السيرة موالد وموائد وأناشيد وطبول ومزامير تشيع فيها البدعة وتغيب فيها السنة [5] ، وليست هـي بطبيعة الحال قصصا طريفة وظريفة يستمتع الأولاد بقراءتها ويقفون عند هـدا الحد بحثا عن موضوعات طريفة أخرى، فلا يرون فيها سوى سيرة عظيم من العظماء، مثلما يقرأون عن عظماء الفرنج في ميادين العلوم والاختراعات والمعارك الحربية، ولا يمثلون قيم الكتاب والسنة.
إن قراءة متأنية لكثير من كتب السيرة الموجهة للأطفال تبعث الدهشة والتساؤل والحيرة في النفوس. وتسأل كاتبا عن مصادره التي اعتمد عليها في كتابة السيرة، فيجيب بأنها سيرة ابن هـشام، هـذا إن كان يتمتع بقدر من المرجعية التاريخية المتعلقة بمصادر السيرة، وقد لا يعرف أن [ ص: 75 ] سيرة ابن هـشام هـذه مأخوذة عن سيرة ابن إسحق المسماة «كتاب المبتدأ والمبعث والمغازي»، فيأخـذ من سـيرة ابن هـشـام ما شاء له ذلك دون أن يميز بين الأخبار الصحيحـة والضعيفة فيها. وقد يلجأ إلى طبقات ابن سعد أو تاريخ الطبري دون معرفة بصحيح الأخبار وضعيفها، ودون اهتمام بالإسناد والمتن ونقدهما نقدا علميا، ولا يدري ضعف مرويات الواقدي على سبيل المثال إن انفرد بها دون سائر مؤرخي السيرة ورواتها، وقد يقف عند سيرة ابن هـشام معتبرا أنها قد أوفت أخبار السيرة حقها، وربما غابت عن الكاتب مصادر مهمة مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم، وغيرهما من كتب السنة التي تشمل كثيرا من مرويات السيرة الصحيحة.
وإن لم تسعف الكاتب هـمته في النقل عن سيرة ابن هـشام وغيرها من الكتب المتقدمة أو المتأخرة لجأ إلى مؤلفات حديثة ومعاصـرة يكتب منها ما شاء له ذلك، ظنا منه أن فيها ما يجب أن يقدم للأولاد، لا سيما أنه ينظر إلى مؤلفيها نظرة إجلال وتقدير تصل إلى رتبة التعظيم، فهم متألقون في عالم الأدب، وهم نجوم لامعة فيه. ولا يكاد الكاتب يدرك أن كثيرا من تلك الكتب الحـديثة والمعاصـرة قد اتكأت في كـثير من الأحيان على ما كتبه مستشرقون عن السيرة، فينقل منها وهو مطمئن، دون أن يتنبه إلى خطورة ما فيها من مجازفات ومفتريات وأخطاء. ولا بد أنه [ ص: 76 ] يكون تحت وطأة عجلة ناشر قد حدده بفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز أشهرا قليلة، فيكون مضطرا والحال هـذه إلى الأخذ من هـنا والنقل من هـناك، مثله مثل حاطب ليل، ليؤمن السلسلة المطلوبة في الوقت المحدد. وقد يلجأ إلى تبسيط مادة موجهة في الأصل إلى الكبار، دون تمييز لقيمتها العلمية، ظنا منه أن تلك المادة قد لقي صاحبها انتشارا واسعا ورواجا وربحا، وقد أعـيدت طباعتها مـرات ومرات، فاختيار المادة لا يكون إلا بمقدار شهرتها وانتشارها وما يمكن أن تحقق من رواج وربح، وليس لقيمتها العلمية (!)
هكـذا ينتقل الكاتب من كتاب لآخر ومـن مصـدر إلى مرجع، في حركة عشوائية في غالب الأحيان تفتقد إلى أصول المنهج القويم وأبسـط قواعد النقـد العلمي في التحقق من المرويات الصحيحـة، وقد يعمـد إلى تدوين أخـبار غريبة وأفـكار دخـيلة على السيرة عن عمـد أو غير عمـد، عن علم أو جهل. فيـتلقى الأولاد هـذا كله، وهو يعتـبر زادهم القليل أمام ما يتلقون من ثقافة عبر وسائل الاتصال المتعـددة المثيرة التي تسـيطر على عقولهم ونفوسهم وقلوبهم، إلا من رحم الله، وتقتلعهم من جذورهم الأصيلة، ولا يدرون ما كان يفعل السلف الصالح بأولادهم. [ ص: 77 ] فها هـو ذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي يقول: «كنا نعلم مغازي رسـول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن» [6] ، ومغـزى هـذا لا يخـفى على كل فطن حريص على تربيـة أولاد الأمـة وفق النهج القويـم، فالقرآن منهج حياة المسلم، والسيرة النبوية تطبيق عملي لهذا النهج في كافة مناحي الحـياة، صغيرها وكبـيرها. فإن أحسن فهمه وتطبيقه بتبصر ودراية مع اعتبار واقع الأمة الآن أصبح طريق الأمة واضح المعالم حتى تنهض من كبوتها وتفيق من سباتـها وتعمل على تقوية البنيان المرصوص لما فيه الخير بإذن الله، ليس لها وحدها ولكن لغيرها، فيدرك (الآخر) معنى الخيرية ومعنى الإصلاح، ويعي أن هـذه الأمة لا تفسـد في الأرض مثلما تفعل الأمم الأخرى حفاظا على مصالحها دون اعتبار للآخرين.
ولكن للكتاب، إلا من رحم ربي، شأن مغاير لهذا السـبيل، وهم ما زالوا يزحفون أشبه بطفل صغير غير قادر على المشي بعد، فإنهم في مجال السيرة النبوية لا يميزون بين خبر صحيح وآخر ضعيف، ولا يقدرون عواقب ما يفعلون وهم يكتبون أخبارا مدسوسة على السيرة بفعل نفر من المستشرقين والمسـتغربين على حد سـواء، وهم في زحفهم لا يقرأون [ ص: 78 ] ما كتب في مجال السيرة من إسهامات المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة وجهودهم الطيبة لدراسة السيرة دراسة علمية قائمة على الالتزام بالحق، من حيث اختيار النصوص الصحيحة والأحاديث الثابتة من المصادر الموثوقة.
لقد أعرض عدد من الكتاب عن هـذا، وآثروا السهل بالأخذ من هـناك وهناك، دون تبصر، وهم يركضون وراء انتهاز الفرص بحثا عن موضوعات أخرى تجلب لهم المكاسب.
هكذا خلت كثير من كتب السـيرة للأطفال من الغاية التي يتوجب أن تسـير نحوها، لتصبح كتبا تعـج بقصص وحـكايات طريفة وغريبة ربمـا تقرأ على سـبيل المعرفة بالأمر بدل الجهل به، وليس على سبيل التأسي والتبصر وإعداد الأمة للبناء. ولعل هـذه المسألة الخطـيرة في ثقـافة أولاد الأمة تثير مسألة غياب النقد العلمي في مجال ما يكتب للأولاد، في مجال السيرة على نحو خاص، وفي مجال التاريخ الإسلامي على نحو عام، ونتأمل ونتألم ولكننا لا نقف ونبكي ونتحسر، بل نتحرك ونعمـل حتى تواصل الأمة مسيرة قوية فاعلة تحمل الزخم المرجو للبناء الحضاري. [ ص: 79 ]