إسلام ويب - حرية الرأي في الاسلام (مقاربة في التصور والمنهجية) - القسم الثاني منهجية حرية الرأي في التصور الإسلامي ( المجالات والاثار والضوابط )

2- آثار حرية الرأي

أولا: حرية الرأي والبعد التربوي للإنسان

المتأمل في المنهج التربوي الإسلامي، يدرك أنه يسعى إلى إعداد الإنسان الصالح، الإنسان على إطلاقه... وسمات الإنسان الصالح في التصور الإسلامي يمكن إجمالها في السمات الآتية ^[1] :

- أن يكون عبدا ربانيا، دائم الصلة بالله تعالى، في كل أمر أو عمل أو شعور.

- أن يكون نشاطه كله حركة موحدة الاتجاه إلى الله.

- أن يكون شموليا متكاملا.

- أن يكون متوازنا.

- أن يكون حرا مسئولا.

- أن يكون إيجابيا.

- أن يكون ذا استقلالية.

ولو لاحظنا هـذه السمات، سنجد أن ( حرية الرأي ) تعد منطلقا مهما، إن لم تكن المنطلق الأهم، في الميزان التربوي للإنسان الصالح؛ فالتوازن ، والمسئولية ، والإيجابية ، والاستقلالية ، كلها أمور لا تكون إلا مع الحرية في [ ص: 128 ] شتى صورها، وخاصة حرية الرأي ، التي تجعل تفكير الإنسان، وحركته، وفعله، واتخاذه القرارات، صادرا عن رضا ذاتي، واقتناع تام.

ومن ثم كان من منهجية التربية في الإسلام، تعليم الإنسان كيف يكون ذا استقلال تام في قناعاته وآرائه الفكرية، صاحب رأي حر، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، جريئا لا يخشى في قولته أحدا، ولا في إبدائه مخلوقا، ما دام في إطار منظور الإسلام وقيمه. وقد انطلق الإسلام في هـذا الاتجاه إلى أبعد حد، فأكد -في أكثر من اتجاه ومجال، كما تقدم -على أهمية حرية الرأي في تربية الإنسان وبناء شخصيته، مبينا أنه إذا كان الإكراه في الدين يخلق المنافق، فإن الإكراه في الفكر والرأي يخلق ( الإمعة ) ، وكلاهما نقض لأصول الإسلام، التي تربي المسلم على الاستقلال الفكري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا )

^[2]

و ( الإمعة ) -بكسر الهمزة وتشديد الميم- الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي، لضعف رأيه، والهاء فيه للمبالغة ويقال فيه -أيضا-: ( إمع ) وهو الذي يقول لكل أحد أنا معك، ومنه حديث ابن مسعود : ( لا يكونن أحدكم إمعة. قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: تقول: إنما أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت. ألا ليوطنن أحدكم نفسه على إن كفر الناس ألا يكفر )

^[3] [ ص: 129 ]

فهذه الاستقلالية في التفكير والرأي -التي يربي الإسلام عليها أتباعه- تؤدي دائما إلى رقي الإنسان ونهضته وإبداعه؛ ومن هـنا فإن أي حجر على حريته في الرأي والتفكير، يؤدي لا محالة إلى تبعية تمسخ فكره وعقله، وتحيله إلى إنسان هـزيل، لا قيمة له في مجتمعه، فيكون شأن الفرد في كل الأمور: إما تسليما وتقليدا أعمى، وإما إباء ونكرانا، حتى إن ما نلحظه اليوم لدى كثير من المسلمين من ميل إلى العزلة والخوف من إبداء آرائهم في هـموم الأمة وآلامها، وعدم الاقتناع بجدوى النقد والمراجعة والتصويب ، وانتفاء النظر النقدي المقارن ، والغفلة في قبول الآراء والمنقولات على علاتها، ليس إلا من آثار هـذه التربية الهزلية التي تقوم على كبت الحريات، وتغلغل الاستبداد ورفض الرأي الآخر، واستئصاله من جذوره، ومنع تكوينه في المجتمع، حتى تكرست في الأمة عقلية العوام، وطبيعة القطيع، وهو ما يؤكده ابن خلدون بقوله:

" فإن الملك إذا كان قاهرا، باطشا بالعقوبات، منقبا عن عورات الناس، وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك، فتفسد الدولة ويخرب السياج. وإن دام أمره عليهم وقهره، فسدت العصبية لما قلناه أولا، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية "

^[4] [ ص: 130 ]

ثانيا: حرية الرأي والشهود الحضاري للأمة

من الحقائق المقررة في تاريخ الحضارات: أن حركة الإنسان داخل حضارة ما تكون رهينة بحريته التي تشكل عقيدته وفكره، وينتهي التاريخ بالإنسان حينما يفقد تلك الحرية، وبالتالي يفقد شهوده الحضاري، ولا يصبح لوجوده أساس؛ ومن ثم لا يمكن أن يقوم الشهود الحضاري لأية أمة، دون شيوع حرية الرأي فيها، فالشورى ، والحوار ، والنقد، والمناصحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتبادل وجهات النظر، هـي الأقنية الطبيعية للوصول إلى الشهود الحضاري للأمة، فلا قوامة للأمة الإسلامية إلا إذا ظلت قنوات التعبير عن الرأي مفتوحة فيها؛ ذلك:

- إنه حينما يكون العقل حرا على مستوى النظر، تكون كل المعطيات متوفرة أمامه، فيقارن بينها، ويقابل بعضها ببعض، ويحاكم بعضها إلى بعض؛ للخلوص إلى الحق من بينها، وتمييزه الباطل فيها، وكل هـذا يؤدي إلى نمو القدرات العقلية وازدهارها، كما يؤدي إلى ( شمول النظر ) إذ " حرية الرأي في بعديها الفردي والاجتماعي، من شأنها أن ينشأ عنها صفة من شمول التوجه في النظر المعرفي إلى جميع مادة المعرفة، ومن شمول الاستجماع للمعطيات في النوازل والقضايا المعينة، التي يقصد العقل إلى الكشف عنها... فيجمع من المعطيات المختلفة كل ما من شأنه أن ينير سبيل الحق، ويتخذ من الطرق والأساليب كل ما من شأنه أن يوصل إلى العلم، وينضج عقله عند مباشرة التدبر على اتجاهات شتى، يقتنص منها المادة الصالحة للبحث، والشواهد المبلغة [ ص: 131 ] للحكم الصحيح "

^[5]

، وفي غياب حرية الرأي غياب للعقل الشمولي، الذي هـو أساس أي شهود حضاري، مما يحول بين الفرد وبين الإنتاج الصالح؛ ومن ثم " يفقد العلم كل معناه، فأينما توقف إشعاع الروح، يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان "

^[6]

؛ ومن ثم كان كبت الحرية في مجاليها السياسي والفكري في العالم الإسلامي سببا لهجرة الأدمغة والكفاءات العلمية

^[7]

- كما إن أي بناء حضاري يتطلب تجاذبا صادقا بين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها. والتاريخ يدل على أن هـذا التفاعل هـو مبعث الحيوية والتجدد في الكيان الاجتماعي ، الذي يعد مقدمة للكيان الحضاري وتوطيد أركانه، وهذا ما تكفله حرية الرأي، والتعدد في وجهات النظر الذي يتباعد ويتقارب ويتبلور ويتفاعل حتى يصح الصحيح، ويستقر النافع، فعن طريق مبدأ ( الشورى ) التي هـي استخراج الرأي من أهل الرأي، ومراجعة بعض لبعض، واجتماع العقول في عقل، يتم التداول الحر للآراء بين أفراد الأمة، فيتحقق العدل والصلاح. وهذا ما لا يمكن التوصل إليه من خلال الرأي الواحد المستبد، كما تشهد بذلك أخطاء المستبدين قديما وحديثا. [ ص: 132 ] يقول محمد أسد : " إن معظم الحكام معرضون لارتكاب أفظع الأخطاء إذا ما تركوا يتصرفون في شئون الأمة كما يشاؤون؛ ولهذا فإنه ليس من الحكمة مطلقا أن يتركوا وشأنهم، بل يجب أن يحكموا بالاشتراك مع الممثلين الشرعيين للأمة. إن هـذه العظة من أهم عظات التاريخ، وما تجاهلتها أمة إلا تعرضت لأفسد الكوارث، وأبشع النكبات " ^[8]

وبهذا التفاعل في الآراء تكون العلاقة بين أفراد المجتمع -حكاما ومحكومين- علاقة تضامن وترابط، يحفها التوادد والتكافل ( خلو الصدور من الغل، وطهارة القلوب من الحقد ) من جهة. كما أن تبادل الرأي الحر، من جهة ثانية، يشعر الإنسان بأنه مسئول في بناء الحضارة، مشارك في صنعها، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، وبهذا تترقى الأمة " صعدا في خلافتها لله، تقترب منه بما تصيب من الحق في الفكر، ومن الإحسان في تنزيله على واقع الحياة، وعلى هـذا الأساس عددنا التعارف الشوري قاعدة من قواعد الفقه الخلافي في التحضر "

^[9]

والأمم التي تحرم من الشورى وتلاقح الآراء وتنوعها، تحرم من الخير الكثير إن لم نقل من الخير كله

^[10]

- ثم إن هـذا الشهود الحضاري للأمة، يحتاج إلى وحدة الأمة واتفاقها في منهجية التوجه والتفكير، " وبقدر ما يكون أفراد مجموعة ما أكثر اشتراكا [ ص: 133 ] في خصالهم المنهجية في التفكير، بقدر ما يترابطون فى وحدة فكرية. فإذا ما اتخذ كل منهم منهجا في النظر بمواصفات خاصة به انفطرت وحدتهم الفكرية، وأصبحوا أشتاتا فكريا. ويمكن القول: إن الوحدة الفكرية لأية أمة بهذا المعنى هـي الركن الأساس لوحدتها الشاملة؛ ذلك أن الآراء النظرية والعملية المنظمة للحياة، هـي ثمرة للمنهج الذي ينتجهه العقل للوصول إليها، فكيفما يكون المنهج، تكون النتيجة من تلك الآراء. رشدا وضلالا "

^[11]

، وهذا ما تحققه حرية الرأي على النحو الذي بيناه آنفا، وخاصة أن الآراء الحرة حينما تطفو على السطح يقوم بعضها بعضا، فيمكن لأهل العلم مناقشتها، وتسليط أضواء النقد عليها، مما يؤدي إلى تسديدها، فتثبت وتبقى، أو تختفي وتذهب، أو تعدل وتهذب، وبذلك تتوحد، أو تتقارب الرؤى حولها، فيكون بذلك استفادة أوسع بما هـو صالح نافع، ومعرفة واطلاع على ما هـو فاسد ضار، فيقع التنبه إليه والتحرز منه أن يجد مدخلا غير مشعور به لو بقي خارج بساط النظر. فحرية الرأي كلما توافرت أثمرت الوحدة، وكلما غابت أو ضعفت أثمرت التشتت والفرقة ^[12] .

- وأخيرا، فإن المحافظة على هـذا الشهود الحضاري، تحتاج إلى مراقبة أمينة لعوامل إصلاح المجتمع وتطويره، وتفادي أي فساد قد يرد عليه، وهذا لا يكون إلا عن طريق المناصحة والمناقشة والنقد ، وهو الدور الذي [ ص: 134 ] يقوم به مبدأ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بمفهومه الواسع " وتعني هـذه القاعدة أن يقوم الأفراد والمجموعات في نطاق الأمة مقام الحارس الاجتماعي الذي يرصد السيرورة الحضارية للمجتمع، فإذا ما رأى مبدأ مما تعارف عليه الناس قد أهمل بغفلة أو فتور نبه إليه، وحشد من أجل عودته إلى الأفهام والأعمال، وكذلك إذا ما رأى مظهرا من المنكرات الخارجة عن المألوف الذي أقره المجتمع بعد التشاور، نبه إليه، وحشد من أجل إزالته. وهكذا يتكون بهذه القاعدة منزع اجتماعي عام، يحرس مسار الترقي الجماعي ، من أن يفتر أو يزيغ أو ينحرف، وكأنه جهاز مناعي، يعالج ما يصيب الحياة الاجتماعية من حياد عن الخط الخلافي، بل إنه يوفر لها أسباب السداد، قبل أن تقع في الحياد " ^[13]

، ثم لا نعجب حينما يربط الإسلام -ما تقدم- بين انهيار الأمم وعجزها عن القيام بهذا المبدأ، كما جاء في الحديث الشريف: ( إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: ( إنك أنت ظالم ) فقد تودع منهم ) ^[14]

وفي ذلك إشارة إلى أن ( حرية الرأي ) هـي الأرض الصلبة لبناء التنمية الشاملة، وأنها حجر الزاوية في الشهود الحضاري للأمة، وأن الأمم التي تموت فيها تلك الحرية " فقد تودع منهم " أي: أنها تضيع حضاريا، بل تحفر قبرها بيدها!! [ ص: 135 ]