الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
القسم الثاني

منهجية حرية الرأي في التصور الإسلامي

( المجالات والاثار والضوابط )

1- مجالات حرية الرأي في التصور الإسلامي

تقدم أن ( حرية الرأي ) مبدأ أصيل في التصور الإسلامي ، يجعلها المرتكزالأساس للكثير من القواعد الشرعية، والمدخل المعتبر إلى الإيمان الحق، بل إن الإسلام ربط بين انهيار الأمم وعجز الأفراد فيها عن التعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية تامة، حتى غدت ( حرية الرأي ) مدخلا منهجيا مهما، يمثل أحد المسالك الأساسية في تكوين الشخصية المسلمة المنفتحة الواعية، التي كان يجسدها الرسول في سيرته، قولية وعملية، ومنطلقا من منطلقات التربية الإسلامية في كثير من المجالات، وهو ما يمكن أن نسميه بـ ( قنوات ) حرية الرأي، التي قررها الإسلام، التي يمكن تمثل أهمها على مستويين: [ ص: 101 ]

أولا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مظهر من مظاهر حرية الرأي في الإسلام

[1]

؛ إذ يستلزم إبداء الرأي بحرية في المنكر المراد تغييره، أو المعروف المأمور به، بل يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المجال الأساس لحرية الرأي، الذي تتفرع عنه سائر المجالات الأخرى، فالقيام به وممارسته -بدلالاته الأصولية الواسعة- من خلال رقابة شرعية في كل الاتجاهات، يحافظ على حيوية المجتمع المسلم، واستقامته، وتحصينه على منهج الله وشرعته، كما يحفظ الأمة من الفساد والتحلل بكافة صوره وأشكاله، فلا يقف عند حد ضبط ممارسات المجتمع في إطار الإسلام بالنهي عن المناكير والكبائر الجزئية ( غياب تحكيم الإسلام في الواقع ) بل يصل إلى مناكير السياسة العامة، وسيطرة القوى الاستكبارية على مقدراتنا وتبعيتنا لهذا ( الاستكبار العالمي ) [2]

" فالمعروف هـو كل قول أو فعل، ينبغي قوله أو فعله طبقا لنصوص الشريعة الإسلامية، أو مبادئها العامة، أو روحها. والمنكر هـو كل معصية حرمتها الشريعة -سواء وقعت من مكلف أو غير مكلف- ولذا عرفه الفقهاء ( بأنه كل محذور في الشرع ) ويفضلونه على التعبير بالمعصية؛ لأن المنكر عندهم أعم من المعصية "

[3] [ ص: 102 ]

ومن ثم كان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) من أعظم الولايات، التي مقصودها أن تكون حركة الحياة كلها لله، وعلى عين الشريعة، هـو مظهر من مظاهر حيوية الأمة، والمجتمع الإسلامي، وفاعلية الفرد المسلم في القيام بوظيفته التي يتأكد بها دوره، فهو " القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وانتشرت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعر بالهلاك إلا يوم التناد "

[4]

ولهذا كان الأمر به في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة،

قال تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) ( آل عمران: 104)

وارتبطت خيرية الأمة المسلمة وديمومتها، ونصرها والتمكين لها بممارسته،

قال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) ،

( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) ( الحج:40-41) ،

وروى الترمذي وغيره عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 103 ] قال: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )

[5] .

وفي القرآن الكريم نهي متتابع على أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم؛ لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن ابن مسعود ، صلى الله عليه وسلم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هـذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض..

ثم قال ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) ( المائدة: 78 -81)

إلى قوله ( فاسقون ) ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا.. ( أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم )


[6]

فالإسلام لا يقر السلبية أو العزلة ، بل إن من الفقهاء من يطلق اسم ( الأموات الاحياء ) على من يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن [ ص: 104 ] أبي الطفيل قال: قال لحذيفة ما ميت الأحياء ؟ قال: " من لم يعرف المنكر بقلبه وينكر المنكر بقلبه "

[7]

وهذا الأصل ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، ينطوي على أمور كثيرة، فهو يدعو كل فرد، بل يوجب عليه -في ظل توفر الضوابط الشرعية- أن يكون قواما على تنفيذ مبادئ الإسلام، شاعرا بالمسئولية عن الأعمال العامة، داعيا إلى الفضيلة، ناهيا عن الرذيلة، وذلك من خلال منهج يبدأ بـالتعريف - " المعروف " أو " المنكر " وهو مقدمة لخلق القناعة، ثم التعامل النفسي " ترغيبا " في حالة المعروف، أو " ترهيبا " في حالة المنكر -نلاحظ أن ذلك يدخل في مرحلة التغيير بالكلمة- ثم ندخل بعد ذلك في مستوى التعامل العضوي بقدر معين حتى بلوغ أقصى درجاته "

[8]

وذلك وفقا للضوابط الشرعية، التي تحدد المراحل والمستويات والضوابط والأدوات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [9]

ومن ثم فهو ليس حقا للأفراد أو المجتمع، مدار ممارسته منوطة بإرادتهم، كما أنه ليس مندوبا إليه، يحسن إتيانه وعدم تركه، بل هـو واجب وفرض، ليس لهم أن يتخلوا عنه، [ ص: 105 ] يقول عبد القادر عودة : " المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقا للأفراد يأتونه إن شاءوا ويتركونه إذا شاءوا، وليس مندوبا إليه يحسن بالأفراد إتيانه وعدم تركه، وإنما هـو واجب على الأفراد , ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه، وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه، وقد أوجبت الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتقوم الجماعة على الخير، وينشأ الأفراد على الفضائل، وتقل المعاصي والجرائم، فالحكومة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والجماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والأفراد يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وبذلك يستقر أمر الخير والمعروف بين الجماعة المسلمة، ويقضى على الفساد، بتعاون الصغير والكبير والحاكم والمحكوم [10] ، وهذا ما يؤكده حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) [11] . [ ص: 106 ]

يقول د. محمود توفيق سعد في شرح هـذا الحديث: " إن حال أهل السفينة كما صوره الرسول صلى الله عليه وسلم ، من الجلاء والبديهة العقلية والمسلمة الفطرية ما يجعله بعيدا عن الجدال، أو التوقف فيه، وهذا ما يجعل إقامته مقام المشبه به حال الدنيا ومن فيها: علائق ومسئولية، حقا وواجبا، أمرا يستوجب التسليم المطلق، بأن حكم العقل في حال الدنيا، ومن فيها، حكم السفينة وأهلها: علائق ومسئولية، حقا واجبا، وأن التوقف في ذلك خطيئة عقلية تقذف بصاحبها خارج أفق الإنسانية، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم من بعد أن أبان علاقة القائمين على حدود الله في الدنيا، بالواقعين فيها، وبالمداهنين، قد أقام الحجة على كل ذي عقل، إن صلاح المرء في نفسه غير كاف، بل فريضة عليه أن يكون صالحا، وأن يكون مصلحا ما حوله، قائما بالاحتساب والرقابة الراشدة على ما حوله، فلا يدع أيدي العابثين ممتدة بالشر. فأقام الإنسانية أمام فريضة تغيير المنكر، ومنع أهله منه، والأخذ على أيديهم أيا كانت نيتهم ومقاصدهم، قياما لا تستطيع الفكاك منه، والتخلي عنه، أو التوقف فيه؛ لأن في هـذا التوقف والتخلي إخراجا لها من أفق الإنسانية المسلمة، وقذفا بها في حماة الجاهلية وخبالها " [12] .

ويكفل هـذا الأصل ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) المجالات الثلاثة الآتية:

أ- ما يعرف بـ ( المناصحة ) ( أو حرية: النقد ، والتقويم ، والمراجعة ، على ما شاع في عصرنا ) وهي مجال من مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحد مظاهر حرية الرأي والتعبير والتعدد في وجهات النظر [ ص: 107 ] المختلفة، التي أتاحها الإسلام بل جعلها واجبا؛ فالنصح والتقويم من لوازم الإيمان، وصدق التدين، وحق المسلم على المسلم، بإرشاده إلى ما فيه صلاح دينه ودنياه، سواء بين الأقران أو بين أصحاب المراتب المختلفة ( وهي مبدأ أخلاقي عري عن صفة الإلزام، خلافا للشورى، كما سيأتي ) .

فعملية المناصحة ( أو النقد ) هـي الطريقة المثلى لتصحيح الأوضاع، إذا كانت وفق منهجها الصحيح، وذلك عن طريق الإقناع والموعظة والحجة والبرهان ، والالتزام بمعايير، وموازين، وقيم وآداب، حددتها الشريعة، لا يجوز تجاوزها، فالمناصحة -وسائر مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- في ظل التصور الإسلامي ، لا تستبيح الكذب، ولا البهتان ولا التجسس، ولا تتبع العورات، ولا نحو ذلك من الآفات؛ إذ من يقوم بها تؤمن أن أمره بالمعروف يجب أن يكون بالمعروف، وأن نهيه عن المنكر لا يجوز أن يكون بالمنكر، ( وأن من أربى الربا أن يستطيل المرء في عرض أخيه المسلم )

[13]

" ولعل المصطلح الإسلامي، في تسمية عملية النقد ، والتقويم ، والتصويب : ( مناصحة ) وليس ( نقدا ) ، له الكثير من الإيحاءات والدلالات، ليس أقلها الغيرة على المنصوح، وحمل الخير له، والرغبة في تسديده، والشعور بحقوق أخوته، وعدم إسلامه للخطأ والتجاوز " [14] والأساس في [ ص: 108 ] ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصحية.. قلنا: لمن ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [15]

، وعن جرير بن عبد ال له، صلى الله عليه وسلم قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم " [16]

وعنه، رضي الله عنه أنه قال لمن معه: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام.. فشرط علي: ( والنصح لكل مسلم ) فبايعته على هـذا.. ورب هـذا المسجد إني لناصح لكم ) [17] .

إنه التناصح المتبادل بين الجماعة المؤمنة في أجواء الإيمان، حكاما ومحكومين، تعاونا على البر والتقوى، وهذا الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرير في بيعته، بقوله: ( فشرط علي: والنصح لكل مسلم ) يدل على أن الأمة المسلمة لا يكون المرء فيها صالحا في نفسه، منصرفا عن غيره، مشتغلا بحاله، بل هـو صالح في نفسه، ومصلح لما حوله ثانيا: إنسانا وكونا،

يقول تعالى: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) ( التوبة: 71) ،

فإبداء النصيحة بين الجماعة المؤمنة، بشروطها وضوابطها، عن طريق الحوار البناء ، والنقاش المثمر ، والنقد الموضوعي واجب شرعي لا بد من الأخذ به، [ ص: 109 ] وإلا ضاعت الموازين، وتبددت القواعد، وانتشرت الأخطاء. فالمؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى.

ب - ما يعرف بـ ( حرية الرأي السياسي ) وهي حرية تطلق، ويراد بها جوانب متعددة، منها:

1- حرية الرأي السياسي، بمعنى: حرية التعبير عن الرأي الذي يتعلق بشئون الأمة والحكم، والمطالبة بالحق، والشكوى من الظلم، وحق الأفراد في محاسبة الحكام ونقدهم والتعقيب على أخطائهم،.. إلى غير ذلك من الأمور التي تسمى في عصرنا بـ ( الحقوق السياسية ) وهذه لا يكتفي الإسلام بالسماح بممارستها، بل إنه يأمر بها ويقدسها، باعتبارها فريضة على كل مسلم، ونوعا من الجهاد والعبادة، كما جاء في الحديث الشريف: ( ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) [18]

؛ وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه.. قالوا: وكيف يذل نفسه ؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق ) [19]

وعن أبي بكر ، رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منهم ) [20]

فهي -إذن- مسئولية شرعية، أدركها الصحابة والمسلمون منذ قيام الدولة الإسلامية، فقد راجعوا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، في صلح الحديبية ، وفي [ ص: 110 ] تقسيم غنائم غزوة حنين ، ( ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على عبد الله بن أبي بن سلول ، أخذ عمر ، رضي الله عنه

، بردائه، وقال له: إن الله نهاك عن أن تستغفر للمنافقين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : خيرني ربي،

فقال: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) ( التوبة: 80) . )


وقد فهم الصحابة ذلك، فنشأوا صرحاء، حكاما ومحكومين، ولم يكن الحاكم المسلم فوق النقد والمراجعة، وهذا هـو أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس المحاسبة على أساس الإسلام فيقول: " وليت أمركم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. " وفي هـذا دعوة صريحة إلى تقويم الحاكم ومراجعته بل والخروج عليه في حالة اعوجاجه؛ " وهذا أحد المسلمين يقول لعمر بن الخطاب أمام الجمهور: " لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا " فيرد عمر عليه: الحمد لله الذي أوجد من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه " ، " وهذه امرأة من المسلمين، تصوب رأي عمر في تحديد مهور النساء، فينزل عند اجتهادها قائلا: أخطأ عمر وأصابت امرأة "

[21]

وهذا سيدنا عثمان ؛ رضي الله عنه ؛ عندما كثر النقد والتجريح فيه خرج إلى المسجد معلنا استعداده للمحاسبة والتوبة قائلا: " فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم، فوالله إن أردني الحق عبدا لأذلن ذل العبيد " . [ ص: 111 ]

وهكذا، " فالتعقيب على أخطاء الحاكم بالنقد ومراجعته، ليس أمرا مباحا فحسب -كما يظن من مفهوم كلمة الحرية السياسة- بل هـو في تعاليم الإسلام حق الله على كل قادر، والسكوت عن هـذا النقد تفريط في جنب الله؛ ومن ثم فعلى حملة الأقلام، وأرباب الألسنة أن يشتبكوا مع عوج الحاكمين في معارك حامية، لا تنتهي أو ينتهي هـذا العوج. وكل حركة في هـذا السبيل جهاد. وإذا بلغ الأمر حد التضحية، فسيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله "

[22]

حرية الرأي السياسي، بمعنى: التعددية السياسية أو ما يعرف بـ ( المعارضة الجماعية ) وهي تعني في جوهرها: التسليم بالاختلاف، والحرية الكاملة في الرأي

[23]

إذ تطلق ويراد بها في المفهوم السياسي العام: " الرأي أو الصوت الآخر "

[24]

الجماعي. والذي يبدو لي أن هـذا النوع من الحرية حق للجماعات، ما دام في أطره الشرعية، إيمانا بالتعددية الفكرية، واختلاف الرؤى، وخاصة إذا وقفنا على الحقائق الآتية [25] [ ص: 112 ]

- أن الإسلام يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يدعو إلى الشورى . والمعارضة السياسية الجماعية تقوم على هـاتين الركيزتين؛ إذ هـدفها: المشاورة والمراجعة، وتبادل الرأي، والنصيحة بين الحاكم والمحكوم من أجل المصلحة العامة، والأدلة قائمة على شرعية العمل الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما تسمى هـذا العمل الجماعي بأسماء مختلفة، كالجماعة، والحزب، والكتلة، وغير ذلك.

- أنه إذا كانت المعارضة الفردية المتمثلة في الأمر بالمعروف والمنهي عن المنكر، فرضا من فروض الإسلام، وواجبا من واجباته على المسلم، فإن المعارضة الجماعية أوجب، وخاصة في عصرنا الحالي الذي هـو عصر الكتل والتحزبات، وضعف الوازع الديني؛ ومن ثم كان وجود المعارضة الجماعية ضرورة لتقدم المجتمعات الإسلامية، ولضمان حرية الرأي فيها، وعدم استبداد الحاكمين بالمحكومين، فإن من لم يحجزه إيمانه عن الشر، يحجزه خوفه من الجماعة.

- أن الفرقة في الدين المذمومة غير التعددية السياسية، فالأولى تقوم على المخالفة في أصول الدين وقواعده وغاياته ومقاصده، أما الثاينة ( التعددية السياسية ) فتقوم -في التصور الإسلامي- على الخلاف في الفروع والوسائل والسبل، فهي تخضع لأصل الشرع وضوابطه [26] ، ولا يجوز لها [ ص: 113 ] -مطلقا- الخروج عن ذلك، ولا مراء أن هـذا اللون من الاختلاف لم يمنعه الإسلام، يقول ابن تيمية رحمه الله: " وأما " رأس الحزب " فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل: فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فان الله ورسوله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان "

[27]

- إن التعددية السياسية، وما يترتب عليها من المعارضة الجماعية، ليست في التصور الإسلامي: " مجرد أدوات للصراع على الحكم أو الضغط على الحاكم فحسب، بل ذلك أضعف أدوارها لغلبة السلبية عليه، إذ لا تظهر أهميته إلا بظهور الحاجة إليه: الانفراد بالسلطة، والنكث في العهد. أما المهام الإيجابية، فهي فعل وليست مجرد مقاومة، فعل يتمثل في إعداد الأمة للقيام برسالتها في البلاغ، وتحرير المستضعفين في العالم، وحمل أنوار الإسلام في كل مكان، وتقوية جانب المجتمع الأهلي، حتى تكون له القوامة التامة على دولته، وتكون مجرد خادم له يملكها ولا تملكه " [28] هـي معارضة [ ص: 114 ] لها أهدافها السامية، وتلتزم بآداب الشرع وقيمه الضابطة، فتتسم بما يمكن أن نطلق عليه: مصطلح " التقوى السياسية " .

ج - الدعوة إلى الحق بالحسنى ، فكل المسلمين مكلفون ببلاغ الحق الذي آمنوا به منزلا، واطمأنوا به تبصرا وتفكرا،

قال تعالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ( المائدة: 67) ،

وإذا كان الإسلام دينا عاما يخاطب الأجيال، فلا بد من دعوة متجددة، بإبلاغ مبادئه والإعلام بها؛ ليتحقق العلم بهذا الدين، الذي هـو للكافة، وذلك بإقامة الحياة على منهج الله داخليا، وحمل المسلمين على السير في طريق الإسلام من غير التواء ولا انحراف.

وكما أوجب الله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبلغ رسالة ربه، والدعوة إلى الله، فكذلك " الدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله.. وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به، إذ الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر.. فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين.. وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به، ولهذا يجب على هـذا أن يقوم بما لا يجب على ذاك.. وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية... [ ص: 115 ]

وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فان الداعي طالب مستدع مقتض لما دعا اليه، وذلك هـو الأمر به، إذ الأمر هـو طلب الفعل المأمور به، وإستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء إلى الله: الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر "

[29]

ولذلك كان القائمون على أمر الإسلام يعيشون داخل الحياة الإسلامية يتلمسون مواطن القوة فيدعمونها، ومواطن الضعف والخطأ فيغيرونها، ويدرأون عن دينهم الأباطيل والشبهات، فهم حراس العقيدة والتطبيق الإسلامي في الداخلي

[30]

قال تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) ( آل عمران: 104) ،

وقال: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( النحل: 125) ،

وقد جعل الإسلام مجال الكلمة في الدعوة إلى الله وإلى دينه مجالا لا يدانيه أي مجال،

قال تعالى: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) ( فصلت: 33) .

وتأسيا على أن الإسلام هـو دين الله الخاتم، الذي ارتضاه للناس أجمعين ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم [ ص: 116 ] الإسلام دينا ) ( المائدة:3)

فإن الخطاب الإسلامي لم يكتف بإصلاح الداخل وتهذيبه، بل جاء -أيضا- منفتحا على ( الآخر ) من أهل الملل والأديان الاخرى، ينشر الحق الذي جاء به, ويصارع عقول المنكرين له، ويخاطب قلوبهم، في خصوصية " لم تعرفها أي من الخبرات الحضارية، وفي إطار النماذج المختلفة للدولة -ربما باستثناء الكاثوليكية والماركسية - فالانطلاق في التعامل الخارجي من المنطلقات المعنوية، أي: مبدأ " الدعوة " يكاد يكون خصوصية إسلامية، حتى أن الكاثوليكية لم تعرف مفهوم الدعوة إلا عقب الاتصال بالحضارة الإسلامية، عبر التجارة، والصدام العضوي في الحروب الصليبية ، بل حتى لم تعرف مفهوم الدعوة في نقائه، وإنما عرفت مفهوما مقاربا وهو نشر الإيمان "

[31]

فقد كفل الإسلام حرية النقاش الديني، للمسلم وغير المسلم، ما دام ملتزما بالأطر والضوابط العامة، قائما على مقارعة الحجة بالحجة وصولا إلى الحقيقة، حتى تكون العقيدة نابعة عن اقتناع كامل حر، بعيدا عن الجدل العقيم، والإكراه الذميم، إذ يأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب -من غير المسلمين- يناظرهم ويحاورهم ويجادلهم بأقصى ما يمكن إتخاذه من أساليب المجادلة والمحاورة:

( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا [ ص: 117 ] من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) ( آل عمران: 64) ،

على أن يكون الخطاب في ذلك خطاب مجادلة ومحاورة بالحسنى

( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت: 46) ..

ومنطق " الجدل بالتي هـي أحسن " الذي يحكم ممارسة الحوار والجدال مع ( الآخر ) ، في التصور الإسلامي، يعني: انتفاء أية شبهة إكراه، أو ضغط بأية طريقة من الطرق في التعامل الدعوي مع (الآخر)

[32]

فالإسلام هـو الدين السماوي الوحيد الذي يؤمن بالأديان الأخرى ويقيم حوار جادا وعاقلا معها. وكان هـذا نابعا من طبيعته العالمية من جهة، وطبيعة الحضارة الإسلامية التي ضمت طوائفا وأعراقا متعددة من جهة ثانية، فعرف الإسلام التعددية في العقائد والمذاهب والأفكار والرؤى، وأقام بينها الحوارات، جدلا ومناقشة، تأليفا ومناظرة، بسبب التقاليد العلمية ، التي أشاعها المسلمون، حكاما وعلماء، ومنها حرية التعبير والاعتقاد الديني لكل الطوائف والملل، وتأتي مناظرات ومؤلفات ابن حزم ، والقاضي أبي الوليد الباجي ، وابن رشد ، والقرطبي ، وابن الطلاع .. وغيرها من الكتب، التي أدت إلى نشوء علم مقارنة الأديان وقواعده، تأتي كلها في الذروة من الجدل الديني الإسلامي تجاه الملل والنحل غير الإسلامية، وكلها تدل على مدى [ ص: 118 ] احترام الإسلام للرأي والرأي الآخر، والتبادل الحر للآراء الذي تميزت به الحضارة الإسلامية، وهو ما شجع عددا من العلماء من مختلف الطوائف للدخول في دائرة الجدل الديني، ما داموا لن يتعرضوا للمساءلة أو العقاب من قبل حكام المسلمين، لدرجة أن بعض القضاة الذين يشهدون المحاورات الدينية كانوا يصمون آذانهم عندما يتلفظ أحد المتحاورين من أهل الكتاب بما يعد قذفا في جنب الإسلام أو نبيه؛ وذلك خشية أن يوقع عليه العقوبة المشروعة!!

[33]

مما كان له كبير الأثر، لدرجة أن علماء التوراة اليهود أدخلوا تغييرات في النصوص التوراتية، نتيجة مجادلات ابن حزم مثل ما فعل موسى بن ميمون ، الذي تأول معظم النصوص التجسيمية، الواردة في التوراة، بناء على ملحوظات ابن حزم ونقداته

[34]

ثانيا: الشورى

وهي المجال الثاني الأبرز، من مجالات حرية الرأي في التصور الإسلامي، بعد ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) والمراد بها: استطلاع رأي الأمة، أو من ينوب عنها، في الأمور المتعلقة بالمصالح العامة

[35]

، فيما لا نص ( وحي ) [ ص: 119 ] فيه، أو في التعامل مع مورد النص ومحله، فهما وتنزيلا. وهذا معناه أنها تقوم على: تقليب أوجه الرأي، وتبادله بين مجموعة من الناس في أمر من الأمور، ومداولة القضية بين آراء مختلفة، من خلال اجتهاد جماعي يقوم على الاستفادة من جميع الآراء والأفكار، بحثا وتحليلا وتعليلا وإبداء رأي؛ وذلك لترجيح أحد الاحتمالات أو البدائل. فالشورى -بعبارة مختصرة-: هـي عملية استكشاف للرأي الأصوب عبر الاجتهاد المعتبر.

فعلاقة الشورى بحرية الرأي -إذن- علاقة وثيقة لا تنفصل؛ فهي لا تكون إلا بإبداء الرأي بحرية تامة، فلا يمكن أن توجد شورى حقيقة خارج نطاق الرأي والرأي الآخر، الذي هـو عنوان وعي، ودليل فهم حضاري، للتعددية الثقافية ، واختلاف الرؤى الفكرية.

وقد تفرد الإسلام بهذا المبدأ الأصيل، الذي أوجبته الأوامر المنزلة:

( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ( آل عمران:159) ،

إذا يوجب القرآن الكريم هـذا المبدأ في نظام الحكم، حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا فى أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه

[36]

..كما أوجب القرآن الشكل النظامي الذي تتم ممارستها من خلاله:

( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول [ ص: 120 ] وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) ( النساء: 83) .

فالدين -إذن- يدعو إلى تداول الرأي المختلف شورى؛ ومن ثم يكاد ينعقد الإجماع على أن الشورى ، هـي الفلسفة الإسلامية لتأسيس الحكم فى النظام الإسلامي، والتشريع له، والقوامة عليه، والانتفاع بثماره، ومشاركة " للسلطة الإسلامية في كل المشكلات المطروقة في مستويات مختلفة، أيا كان ميدان هـذه " السلطة " دولة، أو مجتمعا، أو أسرة.. فهي فريضة شرعية واجبة على الأمة كافة، حكاما ومحكومين [37] ؛ ومن ثم كان الصحيح، الذي أرتأيه من أقوال الفقهاء أن الشورى واجبة ابتداء، ولزومها أو إلزامها إنتهاء، أي: أنها ملزمة، وليست معلمة، وإلا انتفت جدواها الوظيفية [38]

يقول ابن تيمية : " لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم ... وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب الصحابة، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب، والأمور الجزئية، وغير ذلك، فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة، وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله:

( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة [ ص: 121 ] وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) (الشورى: 36-38) ،

فإن استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب إتباعه من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو إجماع المسلمين، فعليه إتباع ذلك "

[39] وكون الشورى أصلا من أصول الدين هـو ما يؤكده القرآن الكريم؛ إذ تكثر معاني القرآن حول حياة المسلمين يتجادلون بحرية في شئون الأسرة:

( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ( المجادلة:1)

( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) ( البقرة:233) ،

أو في الشئون العامة يتشاورن ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) ( الأنفال:1) ؛

كما يتشاورون في الأسرى والمعارك وعبرة الخسران ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ( آل عمران:159) ؛ [ ص: 122 ] قال القرطبي في تفسير هـذه الآية: " ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده... قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشرعية وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هـذا ما لا خلاف فيه... وقال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل... وقال عليه السلام : ( ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ) [40]

وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( ما شقي عبد قط بمشورة، ولا سعد باستغناء برأي ) [41] وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا.... ولا شورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة، إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هـذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هـذه الآية " [42] .

كما تظهر معالم تلك الشورى واضحة جلية في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قولية وعملية، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته [ ص: 123 ] بتنفيذه، في أخطر الشئون وأكبرها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كما نرى في استشارته الخروج يوم بدر ، ومشاورة الحباب ابن المنذر في منزل بدر ، وكذلك مشاورته الصحابة في أمر الأسرى، فقد رأينا كيف أخذ النبي عليه الصلاة والسلام برأي الأكثرية في مسألة أسرى بدر بالعفو عنهم، مع أن الصواب في رأي عمر ، ويدل عليه ما رواه ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول قوله تعالى: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (الأنفال: 68) ؛ قال: لو أنزل الله من السماء عذابا لما نجا منه غير عمر بن الخطاب ؛ فاستثناء عمر، رضوان الله عليه، يدل على الأخذ بالأغلبية. وكذلك يوم أحد ، وأخذه برأي الأغلبية على كره منه، وكذلك مشاورة سلمان الفارسي للرسول صلى الله عليه وسلم يوم حفر الخندق .. وغير ذلك من الصور الرائعة، إذ كان صلى الله عليه وسلم يكثر في حديثه لأمته في الأمور العامة، من قوله: ( أشيروا أيها الناس علي )

[43] وكان يحث على ذلك، فعن علي ، رضي الله عنه ، ( قال: قلت: يا رسول، إن نزل بنا أمر، ليس فيه بيان أمر، ولا نهي، فما تأمر؟ قال: شاوروا فيه الفقهاء، والعابدين، ولا تمضوا فيه برأي خاص ) [44] ، ومن ثم [ ص: 124 ] ( يقول أبو هـريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ) صلى الله عليه وسلم [45] ، وما ذلك إلا ليربي المسلمين على المنهجية الشورية، بتطارح الآراء المختلفة، ومناقشتها، ونقدها، وإلا فإن الحق بائن لديه، إذ هـو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.

ولقد وعى ذلك الخلفاء الراشدون، فكانوا أشد الناس تحريا للشورى، وقياما بها، وقال الإمام البخاري : " كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء أهل العلم، في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها " .. وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران ، قال: " كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة، قضى بها، فإن أعياه، خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به، وكان عمر، رضي الله عنه ، يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة، نظر هـل كان لأبي بكر فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به. وإلا دعا رءوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به " ... " وكان سيدنا عمر ، رضي الله تعالى عنه، يقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه؛ فإن الرأي ليس على حداثة السن، ولا على قدمه، ولكن على أمر يضعه الله حيث يشاء "

[46] . [ ص: 125 ]

والمعتمد في الشورى ما أجمع عليه من قول، أو ما كان رأيا أغلبيا، فقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يعملون برأي الأكثرية الشورية، فعند البخاري عن ابن عباس أنه " لما خرج عمر ، رضوان الله عليه، إلى الشام، وبلغه خبر الطاعون فيها، قال: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هـا هـنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس " . قال ابن حجر : " فيه الترجيح بالأكثر عددا، والأكثر تجربة؛ لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع من انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار؛ فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من المهاجرين والأنصار من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب.. فلما تعادلوا من هـذه الحيثية رجح بالكثرة "

[47]

بل إننا نستطيع القول: إن ( المدونات ) الفقهية، و ( الحركات ) التشريعية، التي هـي مدار الفتوى، ودليل العمل، ومرد القضاء، في الحضارة الإسلامية، ما كان لها -وإن ارتبطت غالبا باسم فقيه كبير- أن تظهر إلا من خلال جهود جماعية، وإن التفوا حول فقيه كبير، فإن علمهم كان شوريا جماعيا، فـ " مالك بن أنس ، صلى الله عليه وسلم مثلا، لم يكن يعبر عن رأيه، بل عن [ ص: 126 ] إجماع الحركة الفقهية في المدينة وتقاليدها، ففقهه كان شوريا. وأبو حنيفة ، رضي الله عنه ، كذلك لم يكن يفتي من ذات رأسه، وإنما كان يجلس، ومعه أركان من مدرسته، منهم أبو يوسف وزفر ومحمد ، وكان يجري بينهم الحوار، ويبرز الرأي من خلاله، فما كان الفقيه يعتزل بتفكيره ورأيه، بل يجمعه إلى آراء الناس، وما كان الإمام الفقهي يستبد بالفتوى ويبتدرها، وما ينبغي أن يكون الرأي السياسي، ولا الإمامة السياسية إلا كذلك، ولم يكن أمر الاجتهاد إلا كذلك لدى بقية المدارس الفقهية "

[48]

وهكذا، نستطيع القول: إن " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " و " الشورى " وهما مصطلحان شرعيان، تأتي ( حرية الرأي ) فيهما بأوسع مداهما، وفي أنبل صورها، حيث تتسع فيهما لتشمل الحفاظ على أمور الدين كافة، وحق المناصحة ، وحرية النقد ، والحرية السياسية ، وتبادل الرأي في تنظيم شئون الحياة على مستوى الفرد والجماعة والدولة، فكل هـذا يدخل تحت هـذين الأصلين، ويندرج فيهما. كما نستطيع القول: إن ( حرية الرأي ) من خلال هـذين الأصلين، تعد أصلا من أصول الدين، ومعلما من معالم القراءة الإسلامية للديمقراطية - بمفهومها الصحيح في التصور الإسلامي - وآلية من آليات إصلاح الحكم، ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف، ومظهرا من مظاهر حيوية الأمة، والمجتمع الإسلامي، وفاعلية الفرد المسلم في القيام بوظيفته المنوطة به، وتحمل المسئولية في ذلك، وفق أوامر الله ونواهيه، ووفقا لمجموعة من الضوابط، والأطر الشرعية، كما سيأتي. [ ص: 127 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية