/14 تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل معرفة الوحي سبيل الهداية ودليل العمل والتعامل مع الحياة، بكل تحولاتها، وفق سنن وقوانين وأقدار مطردة ونظام محكم،
يقول تعالى: ( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (طه:50)،
وجعل الإنسان بهـذه المعرفة عـلى بينة من أمره وفعلـه، في الشدة والرخاء والعسر واليسر، كما جعله أمام مسؤوليته عما يفعل بعد أن منحه حرية الاختيار؛ وهذه المسؤولية فرع تلك الحرية ودليلها،
قال تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115)،
وقال: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب:38)،
وقال: ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43).
فالإنسان والكون والحياة تخضع لسنن ونواميس وقوانين.
والحياة، بكل ما فيها، لا يمكن فهمها ولا التعرف على أسباب أزماتها ومواطن إصاباتها إلا بعد إدراك هذه السنن، التي أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية: مقدمات تورث نتائج، كما لا يمكن التعامل معها دون استيعاب هذه السنن وامتلاك القدرة على تسخيرها والوصول إلى إمكانية مغالبة قدر [ ص: 5 ] بقدر، فلا يمكن تفسير وقراءة الأحداث الجارية في مجالي الخير والشر والتعامل معها ومعالجتها واستدراكها والقدرة على تجاوزها إلا من خلال سنن الله في الأنفس والآفـاق، ذلك أن تجـاهلها أو تجاوزها والقفز من فوقها موقع في الخلل ومحدث للأزمات والإصابات، وبالتالي فإن القدرة على معالجة أسبابها وترميم آثارها منوط أيضا بفهم هذه السنن وحسن تنـزيلها على الواقع، وما يلحق به من أزمات، وامتلاك القدرة على معالجتها وتجاوزها والحيلولة دون معاودتها ( وإن عدتم عدنا ) (الإسراء:8)،
( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) (محمد:10).
ولعل إدراك ذلك يمثل أبعاد مهمة الاستخلاف في الأرض والاضطلاع بحمل الأمانة، أو هي مفتاح المعرفة لقصة الإنسان على الأرض منذ بدء الخلق وحتى ينشئ الله النشأة الآخرة. فمن خلال هذه السيرورة تتضح المعالم وتكتشف القوانين والسنن ويتولد فقه التعامل معها.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، المبلغ عن ربه ما نزل إليه، الذي جسد معرفة الوحي واعتمادها السنن في واقع الناس، وقدم الأنموذج العملي والتربوي لتسخيرها وحسن التعامل معها، وكان محل الاقتداء والتأسي لمسيرة الحياة، بكل تفاصيلها ومتعرجاتها وما يمكن أن يكون من العسر واليسر، والشدة والرخاء، والنصر والهزيمة، والقوة والضعف، والخطأ والصواب.
لقد كان ( دليلا هاديا للناس للتعامل مع سنن الله وأقداره في الحياة والأحياء في كل الأحوال حيث تتحقق هذه السنن الجارية من خلال عزمات [ ص: 6 ] البشر، بعيدا عن الأوهام والأساطير والخوارق (أو السنن الخارقة)، ذلك أن حسن تخسير هذه السنن ومغالبة قـدر بقدر هي قضية الإنسان في الأرض –كما أسلفنا- وأن الإخفاق في تسخيرها أو الغفلة عنها مؤذن بالوقوع في الشدة والأزمة نتيجة للارتطام بها، المؤدي لضياع الأجر والعمر.
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الواحد والثلاثون بعد المائة: «إدارة الأزمة: مقاربة، التراث.. الآخر» للأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في محاولتها لاسترداد فاعلية الأمة، واستشعارها مسؤوليتها، وإدراكها أبعاد رسالتها، ومعاودة بناء شهودها الحضاري ( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143).
فالمساهمة في معاودة إخراج الأمة لتحمـل الخير والرحمـة للإنسانية إنما يتحقق بالعمل العلمي المتخصص القاصد أو الهادف وامتلاك الأدوات الحقيقية، التي تمكننا من اكتشاف الخلل، والعمل على وضع خطة متكاملة لكيفية إصلاحه، وقبل ذلك ترويض أنفسنا وتمرين عقولنا وتربية أجيالنا على شجـاعة الاعتراف بالخـلل، الاعتراف بالفشل والإخفاق، بعيدا عن المكابرة بغير الحق، والاعتراف بالمسؤولية عنه ( قل هو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) وعدم الإلقاء بالتبعة على أية جهة، حتى إذا ما أعيتنا الحيلة ألقينا بالتبعة على القدر وكأنه يستقصدنا دون غيرنا. [ ص: 7 ]
إن استشعار التحدي، الذي تمثله الأزمة، والتحرك في ضوء ذلك، هو نقطة الانطلاق للبدء في تحليل الأزمة وتفكيكها وإرجاعها إلى أسبابها وعواملها ومكوناتها الأولى، ومن ثم وضع الخطط، التي تأخذ بالاعتبار الأسباب والعوامل والآثار، التي شكلت الأزمة، الخلل، وتصميم طرق وبرامج كيفية التعامل معها، في ضوء السنن الحاكمة للإنسان والكون والحياة.
ولا بد أن ندرك جيدا، أولا وقبل كل شيء، أن هذه الحياة تحكمها سنن ونظام وأقدار، وأن أي خلل في التعامل مع هذه السنن سيفضي إلى الفشل ووقوع الأزمات والكوارث؛ وأن هذه السنن مطردة ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43)، وأن مصدر العلم بهذه السنن هو معرفة الوحي، والاستدلال على اطرادها يتأتى من تلك المعرفة؛ والتحقق بفاعليتها إنما يتم من خلال السير في الأرض والتوغل في تاريخ الشعوب والأمم وتاريخ النبوة وملاحظة قوانين سقوط ونهوض الحضارات ( قل سيروا في الأرض فانظروا... ) (الروم:42).
كما لا بد من التأكيد أن هذه السنن لا تحابي أحدا، ولا حتى نحن المسلمين المؤمنين بالله خالق هذه السنن، وأنه لا سبيل لنا للنهوض والبناء الحضاري والوقاية من الأزمات إلا إذا تميزنا باستيعاب هداية معرفة الوحي إلى هذه السنن وسبل تسخيرها وكيفية التعامل معها وفهم قوانين الأشياء (قوانين المادة) وقوانين الخلق وحسن تسخيرها والتعامل معها ومغالبة قدر بقدر؛ والوعي أن هذه السنن على صرامتها واطرادها لا تلغي فعل الإنسان [ ص: 8 ] وإرادته وإنما تمنحه القدرة على الرؤية الصائبة وممارسة المغالبة بين الأقدار والفرار من قدر الله إلى قدر الله.
إن فقه هذه السنن لا يشكل لنا وقاية من الأزمات والإصابات، التي يمكن أن تلحق بنا، بسبب جهلها أو تجاهـلها ومحاولة تجاوزها وحسب، وإنما فقه السنن يشكل لنا دليلا للتعامل مع الأزمات وكيفية إدارتها بعد وقوعها، وتجنبها قبل وقوعها؛ كما أن السـير في الأرض واكتشاف السنن لا يدل على أسباب السقوط والنهوض فقط وإنما يمنح الفقه بكيفية التعامل مع الأزمات وكيفية تجاوزها.
ونعتقد أن استرداد فاعلية الأمة المسلمة ومعاودة إخراجها مرهون إلى حد بعيد باستدعاء معرفة الوحي واستصحابها كدليل عمل وبوصلة هداية لكيفية التعامل مع مسيرة الحياة، وإبصار سننها، وإيقاظ الوعي، واستنفار العقل، وتوفير التخصصات المطلوبة لبناء العقل الناضج، ليقوم بدوره ووظيفته في الاجتهاد وتنـزيل معرفة الوحي على واقع الناس ونوازلهم من خلال المنهج السنني، في ضوء الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، والخلوص من ذهنية التخلف والعجز ومحـاولة الإلقاء بالتبعة على (الآخر) أو على القدر عندما تعيينا الحيل وتعوزنا الأدلة.
هذه الحالة المرضية (الإلقاء بالتبعة على الآخر) التي نعاني منها تحولت إلى توارث اجتماعي بين الأجيال، إلى ثقافة مجتمع، إلى وباء معد على الرغم من قوله تعالى: ( قل هو من عند أنفسكم ) ذلك أنها لم تعد تقتصر على الجماعات والأحزاب والطوائف والمؤسسات وإنما تجاوزت ذلك إلى الأفراد، [ ص: 9 ] الذين يجهدون أنفسهم في إلقاء تبعة فشلهم فيما يضطلعون به من مهام ويناط بهم من أعمال على الآخرين(!) ولو أنهم بذلوا هذا الجهد في دراسة أدائهم ومعرفة نقائصهم وتقصيرهم لاستطاعوا الارتقاء ولو بشكل بسيط، أو على الأقل لاستووا على الجادة الصحيحة، لكنه الاستكبار والتمترس وراء ألقاب وعناوين، دون مؤهل حقيقي؛ تلك الألقاب الخادعة، التي تتحول مهمتها إلى توبيخ حملتها وصبغ حياتهم بنوع من البهتان وارتكاب المحظور والمساهمة في خلق الأزمة والمشكلة بدل حلها؛ لأنهم أصبحوا هم المشكلة.
وليس أقل من ذلك شأنا، بل لعلنا نقول: الأمر هنا قد يكون أشد خطورة، وهو أن لا نكتفي بالعجز عن إدارة الأزمة والقدرة على تحليلها واكتشـاف مواطن الخلل واستشرافها قبل وقـوعها، للحيلولـة دونـها أو التخفيف من آثارها، وإنما يستهوينا مناخ الفتن والأزمات فلا نستطيع العيش بدونه، فنصرف جهدنا إلى استدعاء أزمات تاريخية ماضية وإيقاظ فتن نائمة، لم يبق فيها استزادة لمستزيد، «لعن الله من أيقظها»، لا للخلوص إلى العبرة واكتشاف السنن الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية التي حكمتها، حتى لا نلدغ من جحر مرتين، وإنما لجعلها فخاخا تستنـزف جهد الأمة وعقلها ومالها في المعارك الخطأ؛ لأن الكثير من الناس باتوا لا يستطيعون الحياة إلا في مناخ الأزمات مثلهم مثل الاحتكاريين في أزمان الحروب والمجاعات، الذين يتلاعبون بأقوات الناس لمصلحتهم؛ فهم بذلك يصنعون الأزمة ويصعدون عليها ولا يعالجونها. [ ص: 10 ]
والذي نود تأكيده أننا في الحالة الأولى، التي نلقي فيها بتبعة الأزمات على (الآخر) نحكم على أنفسنا بأننا دون سوية التعامل مع الظروف والنوازل وأهلية قيادة الأزمة وحسن إدارتها ومعالجة أسبابها، وفي الحالة الثانية (الإلقاء بالتبعة على القدر) أننا دون سوية فهم معرفة الوحي، التي تمنح فقه السنن وتقدم نماذج للتدريب والاقتداء، وليس ذلك فقط وإنما إغلاق منافذ التفكير كلها، التي يمكن أن تقود إلى إدارة الأزمة، واكتشاف مواطن الخلل، واستبانة أسباب القصور ومواطن التقصير، والمساهمة بخبال الأمة، وإلغاء رد فعلها العفوي في الاستجابة للتحدي والتفكير في سبيل الخروج.
إن غياب المنهج السنني عن العقل المسلم اليوم - والمؤسف أن العقل المسلم أضاع البوصلة «معرفة الوحي» ووقع في التيه- نمى صور التدين المغشوش، وأدى إما إلى المروق من الدين أو الانسحاب من الدنيا.
وهنا شيء أشبه بالطرفة يمكن أن نذكره بالمناسبة، وهو أنموذج من الفهم المحزن لقيم معرفة الوحي، في الكتاب والسنة، فمثلا قوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) (فصلت:53) يعني عند أصحاب هذا الفهم السقيم أن أمر كشف السنن والآيات والدلائل موجه للكافرين، وأن الله سيريهم آياته وسننه في الأنفس والآفاق ليقودهم ذلك إلى الإيمان به، وكأن الرؤية رهينة بهم، أما نحن فلسنا بحاجة إلى هذه الرؤية في الأنفس والآفاق لأننا مؤمنون (!) فـلا نحن نسـعى لهذه الرؤية لنتملكها ولا نحـن ندرك أن السـعي إليها من مقتضـيات الإيمـان ولوازمه.. [ ص: 11 ] فالفهوم المغشـوشة تحت عناوين الإيمان والتدين، التي تنمو بسرعة في عالم التخلف، لا تزيد الأمة إلا خبالا وتراجعا وعطالة.
وليس أقل خطورة أيضا من ذلك الاعتقاد أن الله خلق المسلمين للعبادة، بمفهومها الضيق والحسير جدا، ومنح الآخرين إمكانية النظر والتفكير وبلوغ العلوم والصناعات وإتقان تدابير الحياة ليكونوا في خدمة عباد الله المؤمنين به (!؟) يعالجون قضاياهم ويديرون أزماتهم ويقومون نيابة عنهم على عمارة الأرض، ليتفرغوا لعبادة الله(!)
وقد تكون الإشكالية أو الأزمة الأم كامنة في الذهنية، أو في الثقافة، في كيفية التعاطي مع الأزمة؛ ذلك أن لكل أزمة أسبابها، أو سننها التي أوجدتها، وأن تحليل الأزمة والتعرف إلى أسبابها، وامتلاك الأدوات التي تعالج هذه الأسباب وتكون قادرة على ترميم الآثار أو التخفيف ما أمكن من الآثار السلبية، واكتشاف عوامل الحل الكامنة في الأزمة نفسها تتطلب دراسات وتخصصات معرفية متنوعة، وخبرات متراكمة عن سيرورة الحياة، والقدرة على تدبر معرفة الوحي ومسيرة التاريخ، التي تمنح ملكة التدبير وإدارة الأزمة واكتشاف ما تكنه من فرص ونوافذ تبصر بالحل، ذلك أن كل أزمة تحمل في داخلها بذور الحل، وأن اليسر قرين العسر: ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) (النساء:19). (أي في المكروه)
ولا شك أن مواطن الخير ( ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) التي تلازم الأزمة والتي تشكل نقاط الانطلاق والخروج من نفق الأزمة، تتطلب فقه [ ص: 12 ] النازلة أو فقه الأزمة، الفقه بمعناه الشامل العام، الذي يعني الاستيعاب والإحاطة بالأسباب والنتائج ووضع أوعية لحركة الأمة، أثناء الأزمة، لا تقتصر على التخفيف من آثار الأزمة وإنما تحول الأزمة إلى حل، والنقمة إلى نعمة، تبصر مواطن الخير، وتكتشف بواطن الأزمة وما تتضمن من ملامح التصويب، ورؤية الحل؛ فالأزمة دائما تحمل في داخلها سبل الخروج ( فإن مع العسر يسرا ) (الشرح:5)، فاليسر من لوازم العسر، ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ، فهذا الجعل من الله، الملازم للمكاره والشدائد والأزمات، هو الذي يشكل أمل الخروج وعدة الصمود وآلية الإقدام على النظر والتفكير واكتشاف الخلل، على الهداية إلى الحل الذي يشكل المخرج.
ولعلنا نقول هنا: إن هذا الإيمان بأن ( مع العسر يسرا ) ، الذي يغذيه الدعاء، بحيث يصل بالإنسان إلى الأمل والرجاء وتحقيق الصمود والقدرة على المواجهة المستندة إلى بارئ الكون، صاحب القدرة المطلقة على الهداية إلى الحل، هو الذي يؤهل للنظر الهادئ ويحول دون السقوط والانكسار، ويؤدي إلى التجاوز بل الارتقاء والمناعة المستقبلية.
وإذا كانت أبسط قواعد المنطق تقضي بأن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فكيف يمكن لنا أن نتعامل مع الأزمة بالتطاول والادعاء بعيدا عن فهمها وإدراكها وبيان توجهاتها وتصور الآثار المترتبة عليها والأسباب التي أوجدتها والجرأة أو الجراءة على القول فيها بغير علم، والله تعالى يقول: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36)؟ [ ص: 13 ]
إن التطاول إلى القول والنظر في قضايا قد تكون من دقائق الأمور، التي لم نمتلك الأدوات التي تمكننا من فهمها، حتى ولو كان ذلك بنية صادقة وإخلاص في الوجهة، لا تزيد الأمور إلا تأزيما، والأزمة إلا شدة؛ وإن كنت أعتقد أن من متطلبات النية الصادقة ولوازمها، قبل العزم على العمل، الإحاطة بما يقدم عليه الإنسان ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (أخرجه البخاري )؛ وذلك يعني رؤية الأبعاد قبل حركة الأقدام؛ وليس أمر الإخلاص، الذي هو الصدق كله، والصفاء كله، بأقل من ذلك شأنا؛ فالصدق والإخلاص يقتضي فحص العمل؛ وفحص العمل واختباره يتطلب مهارات وأدوات واختصاصات.
لذلك فالتطاول والإقدام وإعطاء أنفسنا الحق في القول في أكثر القضايا تعقيدا - حتى لا نتهم بالجهل- خاصة ممن يضعون أنفسهم في محل القدوة، دون امتلاك التخصص والأدوات والخبرة والمهارة ينمي التخلف ويزيد الخبال، ويؤدي إلى جعل الإشكالية أو الأزمة أكثر تعقيدا وأعقد تركيبا.
ولو تأدبنا بأدب معرفة الوحي بقوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وأن لكل أمر كوني أو نفسي أو اجتماعي سنة تحكمه وقانونا ينتظمه ( قد خلت من قبلكم سنن ) (آل عمران:137)، ولو تأدبنا بأدب العقل والمنطق بأن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» لتوقفنا طويلا قبل الخوض مع الخائضين، وأدركنا نقصنا وتقصيرنا، وانصرفنا لنستدرك ما فاتنا. [ ص: 14 ]
وقد يكون من بعض وجوه الإشكالية أننا نقفز من فوقها لنتعامل مع النتائج دون إبصار المقدمات والأسباب، مع أن مجال وميدان فعلنا وفاعليتنا هي المقدمات؛ فالنتائج تحكمنا والمقدمات نحكمها.
ولعل من الأمور اللافتة حقا أننا بدأنا من زمن ليس بالقريب بالحديث عن أهمية السنن الإلهية في الأنفس والآفاق كقوانين اجتماعية وكونية مطردة وصارمة لا تحابي أحدا، ولا أدل على عدم المحاباة من قوله تعالى: ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) (محمد:4)، وعن دورها في الإصلاح والتعامل مع الأزمات واكتشاف مواطن الخلل وامتلاك القدرة على تحليله وتحديد أسبابه وسبل معالجته، ودورها في النهوض والبناء الحضاري، وأن التعرف إليها والقدرة على تسخيرها من أخص خصائص تكليف الإنسان للقيام بأعباء الاستخلاف وبناء العمران، ذلك أن فقهها هو السبيل للوصول إلى مرحلة متقدمة للتعامل مع الحياة والفرار من قدر الله إلى قدر الله، أو مغالبة قدر بقدر.
لكن كم كنا نتمنى على أنفسنا وعلى الآخرين القيام بمحاولات لتقديم نماذج وأمثلة والتقدم صوب قضايا الحياة ومشكلاتها ونوازلها وتحليلها وتفكيك مكوناتها، وقراءتها من خلال المنهج السنني، وإبداع الحلول السننية للتعامل معها، أو باستشراف المستقبل وقراءة المقدمات وأخذ الحيطة والحذر ومعالجة الأسباب بشكل استباقي، للحيلولة دون الأزمة، أو التخفيف من آثارها حال حدوثها، واكتشاف فجوات الأمل والنجاة والتقاط فرص التجاوز التي تصاحبها؛ واجتهادنا في ذلك قد يخطئ مرة ومرات لكنه المنهج [ ص: 15 ] الذي لا مندوحة عنه للتعامل مع الحياة والأحياء بمنهج سليم، إضافة إلى أهمية كيف يصبح ذلك ثقافة وتمرينا للأجيال القادمة.
لكننا مع الأسف الشديد استغنينا بالحديث عن السنن وأهميتها ودورها وفاعليتها عن محاولة تنـزيلها على حياة الناس؛ عجزنا حتى عن تقديم أمثلة وقراءات قاصدة ونماذج تحتذى وتدريب الأجيال على النظر والتحليل والاستنتاج والاعتبار والاستقراء للظواهر واكتشاف سننها.
وكم ستكون النتائج محزنة عندما نقوم بمقارنة أو مقاربة مع العالم المتقدم، ذلك أن العالم المتقدم استطاع، من خلال الاندهاش والملاحظة والتجربة والخطأ والمحاولة الدائبة، أن يكتشف الكثير من السنن والقوانين الاجتماعية وقوانين المادة حتى أصبح ذلك ثقافة عامة له، يتعامل معها الناس كلهم تقريبا في مواقعهم المتعددة وعلى المستويات المتعددة، كل بحسب مستوى ثقافته وطبيعة عمله، حتى باتت أدوات القياس والتقويم ووسائل اكتشاف الخطأ جزءا لا يتجزأ من حياتهم وحضارتـهم؛ فأي خطأ أو خلل خاضع للدراسة والمراجعة وتحديد مواطن التقصير وأسباب القصور، ومن ثم استصحاب ذلك للحيلولة دون تكرار الإصابة ووقوع الأزمة، مهما كانت مساحتها؛ وكل خطأ يؤدي إلى كشف جديد لا يقل عن الكشوف الكونية الحديثة التي لا تتوقف.
إن اكتشاف المنهج السنني، الذي يحكم الأنفس والآفاق، والتزامه في التنمية والتطوير والارتقاء والتقدم العلمي والتقني كان وراء الكثير من الإنجازات الكبيرة في مسيرة الحضارة، كما كان له الأثر البالغ على حياة الإنسانية ومعالجة أزماتها وقضاياها.. فالكشف عن سنن الأنفس أنتج علوم [ ص: 16 ] النفس والاجتماع والإنسان؛ والكشف عن سنن الكون أنتج علوم الفيزياء والفلك... إلخ؛ والكشف عن سنن وقوانين المعادن والعناصر العضوية أنتج علم الكيمياء، وساهم باختراع الأدوية؛ والكشف عن سنن مكونات جسم الإنسان ووظائفه (البيولوجيا والفسيولوجيا) أنتج علم الطب وعالج أزمات وأمراض الإنسان، وهكذا تستمر سائر الإنجازات العلمية ومعالجة الأزمات الإنسانية، وتأتي ثمرة لاكتشاف واتباع المنهج السنني واكتشاف قوانين الخلق: ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) في شتى المجالات؛ وكل يوم يأتينا بجديد إلى أن ينشئ الله النشأة الآخرة.
بينما نحن أصحاب معرفة الوحي التي اختصرت لنا الطريق ووفرت علينا الجهد والوقت، حيث بينت لنا أن الكون تحـكمه سنـن لا تتخلف ولا تحابي، وقدمت لنا نماذج تحتذى على مستوى الفكر والفعل من خلال قيم الكتاب والسنة والسيرة التطبيقية، وطلبت إلينا التوجه صوب منجم القيم، تاريخ النبوة والتاريخ البشري، للوصول إلى الاكتشاف لهذه السنن، واليقين من اطرادها وفاعليتها، والتعلم منها كيف نغالب قدرا بقدر ونفر من قدر إلى قدر، بدل أن تشل قوانا وتدعنا عجزة عن النظر والفكر والفعل والتعامل، بتنا نعاني من العجز والتخلف بل والخزي الذي يورثه الإيمان ببعض الكتاب ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) (البقرة:85). [ ص: 17 ]
وبالإمكان القول: إن حالة التخلف والعجز والتراجع الحضاري التي نعيشها صرفتنا إلى الحديث عن أهمية المناهج والمصطلحات والنظريات والقيام بالمقاربات والمقارنات والاستنجاد بالتراث للإجابة عن بعض الأسئلة وتشكيل الغطاء الثقافي دون القدرة على الممارسة والإبداع والتوليد، ذلك أن الممارسة والإبداع تتطلب تخصصات وخبرات متراكمة ومهارات وامتلاك الأهلية للتعرف على التجارب العالمية في ذات الموضوع، وتأتي بعد ذلك مرحلة استيعابها وامتلاك معايير الإفادة منها، ومن ثم التكيف معها وصولا إلى مرحلة الشراكة والإبداع في مجالها، ذلك أن المتخلف بطبيعة تخلفه عاجز عن الإفادة من (الآخر) بشكل عام، فكيف يفيد منه في أمور خاصة ودقيقة؟ لذلك فقد يكتفي ببعض المقاربات والمقارنات التي قد لا تسمن ولا تغني من جوع، هذا إن لم تؤد إلى مزيد من التراجع والبقاء عند حدود الشواطئ وترديد العناوين والشعارات بفيض من الحماس والتي تساهم في تكريس التراجع الحضاري.
ولعلنا نقول: إنه في مراحل التوهج الحضاري من تاريخنا الثقافي والسياسي والإداري كان مصب الاهتمام هو المضامين والإنجازات والإبداع وليس العناوين والشعارات والمصطلحات؛ فكم من الأزمات السياسية والإدارية والاقتصادية التي مررنا بها في مسيرتنا الحضارية والتاريخية وكيفيات إدارتها والتعامل معها، لكن الإشكالية تجعل من حالات التخلف عجزا عن الإفادة من التراث ومن معطيات العصر، فتحول الجهود من إنضاج المضامين إلى الولع بالعناوين والشعارات الكبيرة، فإذا ما حاولنا تجاوز هذه العناوين الكبيرة إلى المضامين شعرنا بالكارثة الثقافية، وأصبنا بخيبات تورثنا تخلفا على تخلف، وتجعلنا نعيش وهم العافية ومرارة العجز عن الإنتاج والتوليد الذاتي. [ ص: 18 ]
وتستمر رحلة الغش والنفاق والدجـل الثقافي، التي لـما نكتشف حقائقها وندرك مآلاتها وعواقبها بعد: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) (يونس:39).
نعاود القول: إن مسيرة الحياة وما يعترضها خاضعة لسنن وقوانين اجتماعية وكونية ( في الآفاق وفي أنفسهم ) ، وإن هذه السنن ثابتة ومطردة لا تحابي أحـدا، وهي سنن جارية في الحياة حتى على النبوات المسددة بالوحي، المؤيدة به، إلا ما اختصت به النبوة من السنن الخارقة، المعجزات، التي يجريها الله على أيدي الأنبياء لتكون دليل نبوتهم ومعقد صدقها، أما فيما وراء ذلك فالنبوة نفسها خاضعة للسنن الجارية التي تحكم الحياة والأحياء، بل لعلنا نقول: إن النبوة، أو معرفة الوحي، هي التي أبانت عنها ودللت عليها واستشهدت لها من التاريخ، وطلبت من المؤمنين متابعة السير في الأرض والرحلة في الماضي، وجعلت إدراكها وحسن تسخيرها هو جدلية الحياة وامتلاك القدرة على بناء الاستخلاف والعمران وفق منهج الله، الذي يعني شرع السنن والأقدار والانضباط بها.
فسنة التدافع، التي تعتبر من السنن الأساس لحركة الحياة، التي شرعها الله والتي كشفت عنها معرفة الوحي، التي تحكم مسيرة الحياة وتميز بين القدرات بحيث يمكن حسن تسخيرها والتعامل معها ومغالبة قدر بقدر، كانت ولا تزال وراء النجاح والفشل في الحياة والحيلولة دون الأزمات ورؤية التعامل معها حال وقوعها واكتشـاف مواطن الخلل والأسباب حتى [ ص: 19 ] لا نعاود السقوط، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، هي خير من كل وجه، وفي مقدمة الخيرية هي معاودة بناء الإنسان ومعالجـة الغفلة، التي يمكن أن يمر بها، وإيقاظ وعيه، والتفكير بكيفية التعامل، واختبار مواطن الإصابة، واستدراكها وتجاوزها.
ولعلنا نقول: إن سنة التدافع، إضافة إلى ذلك، تؤدي إلى حصحصة الحق وحماية أهله والحيلولة دون امتداد جولة الباطل وسطوته،
يقول تعالى: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد:17)،
فالأزمة والضرب والمدافعة تذهب بالزبد وتبرز الجوهر، تبرز قيادات جديدة وعبقريات جديدة قادرة على الإفادة من التجربة ومبصرة لسبل التجاوز؛
ويقول تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (الحج:40)،
ويقول: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) (البقرة:251).
وهكذا رحلة الحياة، وقد يكون ذلك وراء فلسفة من رأى أن جدلية الصراع هي التي تحكم الحياة، وأقام لذلك مذهبا وتنظيرات، متناسيا أن سنة التدافع هي واحدة من السنن الكثيرة التي تنتظم مسيرة الحياة وتحكم علاقاتها، بما في ذلك خضوع مسيرة النبوة لها؛ بل لعل مسيرة النبوة وكيفية تعاملها تعتبر دليل السنن التي تحكم الحياة .. وكل ما قدمت النبوة في هذا المجال: أهمية فهم السنن، وكيفية تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر؛ وأن تلك السنن لا تلغي إرادة الإنسان بل تنميها وتطلقها من عقالها. [ ص: 20 ]
والنبوة في مجال السنن والتدليل عليها استشرفت تاريخ الإنسان، منذ النشأة الأولى، واستقرأت أحداثه، وليس ذلك فقط وإنما استشرفت المستقبل واحتمالاته وتقدير نتائجه وعواقبه، من خلال قراءة المقدمات، لبناء الاستعداد والإعداد والتفكير بكيفية الحيلولة دون وقوع الأزمات، وما أحاديث الفتن، التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي سوف تتعرض لها مسيرة الحياة والأحياء في حقيقتها إلا رؤى مستقبلية تطرح علينا السؤال الكبير دائما: ماذا أعددنا لها؟ وكيف نتعامل معها؟ وكيف نبصر سبيل الخروج؟ فهي كقطع الليل المظلم، الذي يغشى الأبصار ويعمي الرؤية لكن لا يلغي البصيرة والوعي بها؛ وأن أول خطوة على طريق التجاوز هي تنمية جوانب الخير الإيجابية ومحاصرة الجوانب السلبية للحيلولة دون امتدادها، وأن نخف ونبادر لإصلاح الواقع ومعالجة الخلل للحيلولة دونها، أو دون آثارها، أو السقوط فيها.
فقول الرسول: ( بادروا بالأعمال ) (السرعة في المواجهة ابتداء من تنمية الجوانب الإيجابية وإصلاح الخلل) ( فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) (أخرجه مسلم ) خير سبيل للخروج والعلاج.
لكن ذهنية حالة التخلف والتراجع الحضاري لم ترنا من أحاديث الفتن إلا نماذج الإعجاز في مجال الإخبار بالغيب؛ والإخبار بالغيب أحد دلائل النبوة وصدقها بدون ريب والتدريب على رؤية النتائج من خلال حصول المقدمات، لكن ما قيمة الإخبار بها إذا لازمتنا حالة العطالة وافتقاد القدرة [ ص: 21 ] على الإعداد لمواجهة الأزمة والمبادرة للحيلولة دون آثارها وإبصار كيفية إدارتها والتعامل معها؟
ولعل المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، والأزمات يأخذ بعضها برقاب بعض، التوجه صوب القراءة القاصدة والإيجابية للأزمة، والعمل على امتلاك القدرة لتوظيفها في استرداد فاعلية الأمة، وتجديد شبابها، واستنبات قيادات ونخب جديدة، والقضاء على الجوانب الرخوة في حياتها، وبيان أثر الترف والفساد والفسوق والمعاصي في هشاشة بناء الأمة ونظامها الأخلاقي ونسيجها الاجتماعي وتحضيرها للكارثة؛ وبكلمة مختصرة: كيف يمكن أن تكون الأزمة فرصة أو لحظة تاريخية تلتقط للمراجعة على مختلف الأصعدة؟
فلو حاولنا التعرف على ما ترتب على أزمة الإفك، التي تعتبر من أخطر الأزمات في العهد النبوي وأبعدها أثرا في تاريخ النبوة والحياة الإسلامية، وتأملنا ما ترتب عليها من نتائج وأحكام شرعية، وآداب اجتماعية، وقيم أخلاقية، وفرز لمكونات المجتمع، وفضـح للمنافقين وبيان دواخلهم وخطورة دورهم، لأدركنا البعد الإيجابي للأزمة، ولوعينا حقا آفاق قوله تعالى: ( لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير ) (النور:11)؛ لذلك لا بد لنا أن نقرأ الأزمات جميعا ودورها في إعادة البناء، بعيدا عن الخوف والاضطراب، تحت عنوان: ( بل هو خير ) ، مستحضرين قولة بعض الصالحين: «لا تخافوا الفتن فإنها حصاد المنافقين». [ ص: 22 ]
وبعد،
فهذا الكتاب، الذي نقدمه يعتبر محاولة لاستدعاء فقه الأزمة وفتح هذا الملف المهم في حياتنا المعاصرة إلى ساحة التفكير والنظر، ذلك أن مثل هذه الموضوعات المعاصرة والتي تبلورت عند (الآخر) وكان له في تأسيسها وتأصيلها وتحديد مفاهيمها ومصطلحاتها فضل السبق، لم تأخذ بعدها المطلوب في الأدبيات والاهتمامات الإسلامية المعاصرة، وإدراك أهمية الامتداد في الاجتهاد الفكري في المجالات والآفاق المتعددة، ومحاولة استنطاق القيم واستقراء التاريخ الحضاري للأمة المسلمة، والتبصر والاعتبار بكيفية التعامل مع الأزمات، والمقاربة مع التراث، والمقارنة مع ما وصل إليه (الآخر).
ذلك أن هذا الملف، وغيره كثير، ما يزال من الثغور الفكرية المفتوحة في العقل المسلم المعاصر بالأقدار المطلوبة والتي تحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير والتأسيس والتأصيل والاستيعاب، الأمر الذي سوف يؤهل من ثم لهضم الكسب العالمي، ضمن معيار معرفة الوحي، وصهره في بوتقة القيم الإسلامية، ذلك أن مجرى الحياة لا يتوقف، وأن مسيرتها كانت وما تزال تحمل الكثير من الأزمات والفتن والشدائد والنوازل والاحتمالات، وتحتاج إلى اجتهاد دائب وفقه نوازل مبصر للآفاق والعواقب والتداعيات والمآلات، وعقل مستجيب لمعرفة الوحي، مؤطر بها، يفكر ويبصر ويعتبر ويبتكر أوعية، ويستشرف آفاق المستقبل، ويعد له عدته، ويقدم حلولا للتعامل مع الأزمات، وكيفية الحد من آثارها، وتجاوزها بأقل قدر من الخسائر، ومحاولة تحويل النقمة إلى نعمة؛ لأن الأزمة من بعض الوجوه تشكل جرس الإنذار أو صوت النذير والصدمة [ ص: 23 ] الضرورية لسبات الأمة لتحقق المراجعة والتوبة الفكرية والعملية، واكتشاف أسباب الخلل ومواطنه، والعودة إلى مراجعة المعاصي، التي أهلت لحصول الأزمة، والمبادرة لإصلاح الحال، واللجوء إلى الدعاء، الذي يشحذ الفاعلية ويبني الهمة ويجلي الحقيقة ويوصل بمصدر القوة.
فالدعاء فعل وفاعلية، وليس سلاح العاجز وتكريسا للعجز، ذلك أن الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، معقد الرجاء وسبيل الصمود والثبات على القيم، وعدم الانكسار أمام الأزمة: « بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم»، الذي ينتج الشخصية المهزوزة، التي تبيع دينها بعرض من الدنيا قليل، هي من أهم عوامل التجاوز.
ومما يحمد للباحث حقا اقتحام هذه الساحة، ومحاولة فتح ثغرة في الجدار المسدود، كما يقال، وتحريك الذهن صوب آفاق للتفكير في مثل هذه القضايا المعاصرة؛ فالكتاب يمكن أن يعتبر من بعض الوجوه دعوة للتفكير، وتقديم أبجدية لقراءة الأزمات، وكيفية التعامل معها، من خلال القيم الإسلامية، ومحاولة القيام بمقاربات مع التراث الإسلامي ومع (الآخر)، وتقديم نماذج وأمثلة ووسائل إيضاح؛ وعلى الرغم من أننا قد لا نتفق مع الباحث في بعض ما توصل إليه اجتهاده إلا أن ذلك لا يحط من قدر العمل وأهمية الطرح لمثل هذا الموضوع ليكون محلا للبحث والنظر، ومحورا للتفكير والتفاكر وبعثا للفاعلية وتجاوزا لطرح القضايا التقليدية، التي ما نزال نبدي فيها ونعيد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]