المطلب الخامس
متطلبات إدارة الأزمة فنيا وإداريا
أولا: المهارات الفنية المطلوبة للتعامل مع الأزمة [1]
تحتاج إدارة الأزمة إلى امتلاك مجموعة من المهارات الفنية، منها:
1- تحديد الهدف
ويقصد به دراسة كلفة تنفيذ الهدف، والتمييز بين الأعراض الثانوية للأزمة والسبب الرئيس لها، فتنفيذ الهدف يتم بعد دراسة الكلفة، والموازنة بين المصالح والخسائر المتوقعة [2] . [ ص: 102 ]
ودراسة كلفة الهدف في المعيار الإسلامي تتناول الكلفة المادية والقيمية معا، فهناك قيم مثل الوفاء بالعهد وعدم الغدر لا يجوز التفريط بها، وهذا الالتزام القيمي يعود بالنفع على المكاسب المادية، لوجود ارتباط بين المصالح جميعها، بحسب الرؤية التكاملية الإسلامية.
ومن الصور التطبيقية لتحديد كلفة الهدف في إدارة الأزمة:
أ- ما ذكره القرآن الكريم في قوله سبحانه تعقيبا على صلح الحديبية: ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما * إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما * لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) (الفتح:25-27).
في هذه الآيات يرشدنا القرآن الكريم إلى دراسة كلفة الهدف، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف إلى مهاجمة مكة مع الذين بايعوه، ردا على منع قريش لهم من العمرة، وما أشاعوه من مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ ذهب مفاوضا؛ ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم خبر إشاعة مقتله وتألبت عليه بطون [ ص: 103 ] قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش، بدأ ( بإجراءات عملية احترازية للمواجهة المسلحة وذلك بالاستعداد لمهاجمة مكة، فأخذ البيعة من المؤمنين تحت الشجرة على القتال [3] ، ثم كف الله القتال بينهم،
فقال: ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ) (الفتح:24)،
وقال منبها إلى الحكمة من وراء ذلك:
( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) (الفتح:25)،
فلم يأذن الله بالهجوم على مكة؛ لأن تنفيذ الهدف سيؤدي إلى وفاة مؤمنين يكتمون إيمانهم يعيشون داخل مكة، وهذه كلفة تستدعي إعادة النظر في الخطة، وكان التوجيه الإلهي لصلح الحديبية باعتباره الهدف الأقل كلفة والذي أدى إلى تحقيق مقصود الصحابة من أداة العمرة، ولكن بعد تأخير سنة. فهذا التأخير مبني على موازنة بين المصالح والمفاسد.
ب- موقف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من نصارى تغلب، الذين أنفوا دفع الجزية، فقبل منهم أخذ الجزية تحت اسم الزكاة على أن يضاعفها؛ ويروي أبو عبيد القاسم بن سلام خبرين في هذا الشأن، فيقول عن داوود بن كردوس، قال: صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب، بعد [ ص: 104 ] أن قطعوا الفرات وأرادوا اللحـاق بالروم، على أن لا يصبغوا صبيانـهم، ولا يكرهوا على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفا.
وفي خبر آخر عن عبادة بن النعمان أنه قال لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «إن بني تغلب من قد علمت شوكتهم وإنهم إزاء العدو، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤنتهم، فإن رأيت أن تعطيهم شيئا؟ قال: فافعل، فصالحهم على أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية، وتضاعف عليهم الجزية».
ونتساءل هنا: هل كان الخلاف بين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وبني تغلب في التسمية أم الجوهر والمسمى؟ لقد أراد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في بداية المفاوضات مع نصارى تغلب أن يطبق عليهم الآية:
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (التوبة:29)،
وفقا لما تضمنته من تحديد للكيفية، فليس المطلوب إذن أن يدفعوا مبلـغا ماليا تحت أي اسم، وإنما أن يعطى المبلغ وأن يكون «وهم صاغرون»، غير أن عمر رضي الله عنه، لاحظ أن هذا الهدف مرتفع الكلفة، فإنه قد يؤدي إلى أن يلحق القوم بالروم ليكونوا عونا للعدو!
ولذا اختار هدفا أنسب، وهذا ما أشار إليها النعمان بن زرعة في خطابه لعمر، رضي الله عنه، إذ يقول: «إن بنـي تغلب لهم نكاية بالعدو، [ ص: 105 ] فلا تعن عـدوك عليك بهم»، وهذه الكلفة استدعت تحديد هدف آخر تتبناه الإدارة لتجاوز الأزمة، وذلك بالاكتفاء بالمقدار المالي تحت اسم الصدقة مضاعفا.
ونلحظ هنا أن الحل الذي انتهى إليه عمر، رضي الله عنه، يقترب من مفهوم المواطنة، حيث يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات أمام القانون، وهذا المفهوم هو ما ينبغي أن تسير عليه الدولة، حلا استراتيجيا طويل الأمد في التعامل مع اختلاف الملل والنحل.
ج- ما قبله الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء التفاوض يوم الحديبية من تنازلات هامشية، في سبيل تحقيق مصالح ذات أثر أكبر، فيروى أن المفاوض باسم قريش سهيل بن عمرو ( قال: هـات اكتب بيننا وبينك كتابا؛ فدعا الكاتب -وهو علي بن أبي طالب، رضي الله عنه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلـمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسـول الله، فقـال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسـول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمـد ابن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن [ ص: 106 ] ذلك من العام المقبل ) [4] ، وما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول تغيـير بعض الكلمات مثل «باسمـك اللهـم»، «ومحمد رسول الله»، يضع معيارا لقياس الأهداف والموازنة بينها.. ومن المعايير: أن الجوهر مقدم على الشكل، وأن المصلحة ذات الامتداد الزماني والمكاني مقدم على المصلحة الآنية.
د- وتخريجا على الأمثلة السابقة لدراسة الهدف ينبغي على الحركات الإصلاحية الدعوية دراسة كلفة الهدف الذي تسعى إليه، واختيار الهدف القابل للتحقيق واقعا، فقد يكون الإصلاح التربوي هو الأنسب في بيئة ما، وهو القابل للتحقيق، وقد يحتاج الإصلاح التربوي إلى دعم ببرامج الإصلاح السياسي في بيئة أخرى، وعندما تتبنى الحركات الإصلاحية المشاركة السياسة لا بد أن يراعى نسبة المسلمين في الدولة، ففي بلاد ذات أغلبية إسلامية يمكن لحركات الإصلاح السياسي أن تتبنى برامج سياسية إسلامية وتتقدم بها للانتخابات «الديمقراطية»، في حين أن المسلمين في بلاد أخرى يشكلون فيها أقلية مسلمة فإن الهدف للإصلاح يمكن أن يتم من خلال أحزاب غير إسلامية غير أن برامجها مقبولة وتحقق مصلحة للمسلمين. فدراسة إمكانية تطبيق الهدف وكلفة الهدف مهارة تمكننا من إدارة الأزمة والنجاح في اجتيازها وتحويلها إلى مكاسب إيجابية. [ ص: 107 ]
وفي الفقه الإسلامي عدة معايير يمكن أن تعين في دراسة الكلفة، منها مراعاة سـلم الأولويات والموازنـات، وترجيح ما كان مطلوبا لذاته على ما كان مطلوبا لغيره، وتقديـم ما لا يتدارك على ما يتدارك؛ وذكر العز ابن عبد السلام، رحمه الله، أمثلة عديدة لهذه الموازنات، منها: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضى الصلاة، ومعلوم أن ما فاته من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.
وكذلك لو رأى الصـائم في رمضـان غريقا لا يتمـكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولا عليه لا يمكن تخليصه إلا بالتقوى بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقا لله عز و جل وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله» [5] ، فالأمثلة المذكورة تطبيق عملي لتحديد الهدف بناء على إدراك الكلفة وتقديم ما لا يتدارك على ما يتدارك.
هـ- ما ذكره الفقهاء من التدرج في بيان كيفية دفع الصائل؛ والصـائل معتـد يريد النفـس أو المال أو الحرمـات، وقد يكون إنسانا أو حيوانا، وأجاز الشارع دفعه، ولو أدى ذلك إلى قتله فلا قصاص ولا دية، إلا أن الشارع وضع قيدا لاستخدام القوة في الدفع: «فإذا اندفع بالأسهل [ ص: 108 ] حرم الأصعب [6] ، قال الغزالي: «أما كيفية الدفع فيجب فيه التدريج، فإن اندفع بالكلام لم يضرب، أو بالضرب لم يجرح، أو بالجرح لم يقتل، وإذا اندفع لم يتبع» [7] ، وتعد مسألة دفع الصائل تطبيقا عمليا لمبدأ تحديد الهدف في مواجهة الأزمة.
و- ما ذكره الفقهاء من أن الجهاد يكون في أهم جهة [8] ، فقد يكون هناك أكثر من جهة تستدعي الجهاد فيها، فهنا لا بد من تحديد الهدف ودراسة الكلفة، وفي ضوئها تحدد الجهة الأهم. «إذا كان العدو في جهات وكان ضرره في بعضها أكثر من ضرره في غيرها فإن أرسل الإمام لغير الأهم أثم» [9] .
2- المباغتة
وهي مهارة تستخدم لغرض التشويش على صانعي الأزمة ومنعهم من التفكير، وترى في الخيارات الفقهية المفتوحة أمام ولي الأمر في العديد من الأحكام كتخييره في الأسرى بين المن والقتل والفداء، وتخييره في وقت المعركة ومكانها، ما يعطيه قدرة على المناورة والمباغتة في حال التفاوض مع العدو في أمور الحرب، نعم هي مقيدة بالمصلحة ولكن هذا القيد يخدم فكرة المناورة ولا يمنع منها. [ ص: 109 ]
3- الحشد، والإعداد بما يستطاع من قوة
وهي مهارة يقصد بها توفير كل العناصر اللازمة للنجاح، من حيث الإعداد البشري والفني واختيار الزمان والمكان المناسب، والمصطلح الفقهي المقابل لمفهوم «الحشد» هو «النفير العام». ومثاله: في حال تعرض الدولة لمحاولة احتلال، حيث يجب الجهاد على الجميع.
وفي علم الإدارة يستخدم مصطلح الحشد بمعنى جمع كل القوى الممكنة في سبيل تجاوز الأزمة، فيشمل المصطلح استثمار العلاقات العامة، والقدرات المادية واستنفار طاقات أفراد المؤسسة كاملة، ولكن ينبغي تقييد هذا المبدأ بعدم التوسع في استخدام كل القوة المتاحة؛ وسيأتي شرحه لاحقا.
ومن تطبيقات الحشد والإعداد بما يستطاع من قوة ما نلحظه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حيث حشد كل العناصر اللازمة، ومنها:
أ- العنصر البشري
ممثلا بالأنصار والمهاجرين، إذ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيا، فتكلم المهاجرون، ثم ثالثا، فعلمت الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله، وكان إنما يعنيهم؛ لأنهم بايعوه على أن يمنعوه في ديارهم، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليهم ألا ينصروك إلا في ديارهم. وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فامض بنا حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ [ ص: 110 ] من أموالنا ما شئت، وأعطنـا ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك.
وقال المقداد بن الأسود، رضي الله عنه: إذن لا نقول كما قال قوم موسى لموسى ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) ، ولكن نقاتل من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك [10] .
وهنا نلحظ أثر الأزمة في الكشـف عن المواهب القيادية للأفراد، فالمقداد بن الأسـود ليس من زعمـاء مكة بل جاءها هاربا وهو متبنى للأسود بن عبد يغوث، ولكنا نكتشـف مواهبه القيادية في بدر فهو قائد يسير على فرسه ويعلن مواقف بطولية، وهذا من إيجابيات الأزمة إذا وجدت قيادة حكيمة [11] .
ب- اختيار المكان المناسب
ومن حشد القوة في بدر اختيار مكان المعركة المناسب وتغوير الآبار من جهة قريش، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزل على ماء أدنى مياه بدر، فقال الحباب بن المنذر، رضي الله عنه، إن رأيت أن نسير إلى قلب -قد عرفناها- كثيرة الماء عذبة فننـزل عليها ونغور ما سواها من المياه [12] . [ ص: 111 ]
ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة وجعل يشير بيده ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، إن شاء الله، فما تعدى أحد منهم موضع إشارته، وهذا توظيف للبعد النفسي في المعركة وحشد لكل الطاقات الممكنة.
فلما طلع المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، جاءت تحادك وتكذب رسولك؛ اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة.. وقام ورفع يديه واستنصر ربه وبالغ في التضرع ورفع يديه حتى سقط رداؤه وقال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد.. والتزمه أبو بكر الصديق من ورائه وقال: حسبك مناشدتك ربك يا رسول الله، أبشر فو الذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك» وهذا حشد للبعد الروحي في المعركة.
واستنصر المسلمون الله واستغاثوه فأوحى الله إلى الملائكة:
( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) (الأنفال:12)،
وأوحى إلى رسوله: ( أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) (الأنفال:9)، بكسر الدال وفتحها قيل: إردافا لكم، وقيل: يردف بعضهم بعضا، لم يجيئوا دفعة واحدة.
وترى في العرض السابق لمعركة بدر كيف حشد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أسباب النصر، النفسية والمادية، فوحد الجماعة، وربط القلوب بالله، وأخذ بالأسباب، فجاءه النصر بعد أن قدم ثمنه وحشد له. [ ص: 112 ]
4- التعاون
ويقصد به تعاون فريق إدارة الأزمة لتوفير الخبرات، ولمنع الفريق صانع الأزمة من تلقي الدعم.
5- الاقتصاد في استخدام القوة
وذلك من باب التوقي للأخطار، فلا يجوز أن يستهلك فريق إدارة الأزمة كل قوته ومصادره المالية في علاج مشكلة ما؛ لأنه قد تنشأ مشكلة فرعية فلا يتمكن من مواجهتها إذا كان قد استهلك كل قوته.
ومن الملاحظ أن الخلافات قد تحتاج إلى عدة مواجهات للتمكن من القضاء عليها، ومن هنا يجب أن يضع فريق إدارة الأزمة في حسبانه أن كل مواجهة لأزمة قد ينشأ عنها أزمة أخرى ربما تكون أقل حدة ولكن لا بد أن نكون محتاطين لها، فلا نستهلك كل قوتنا في أول مواجهة حتى لا نعجز عن مواجهة أزمات فرعية متوقع أن تتبع المواجهة الأولى.
6- التفوق في السيطرة على الأحداث
وهي مهارة تحتاج إلى معرفة تفصيلية بتطورات الأزمة، ومتابعة مستمرة، واختراق أمني للقوى الصانعة للأزمة والموجهة لها والمهتمة بها ويسمى: «اختراق ثلاثي الأبعاد»، ونجد تطبيقا لهذا عند الجويني في بيان تعامل الدولة مع من ينتسبون إلى أهل الإسلام «إذا سلوا أيديهم عن ربقة الطاعة وإن ضمنوا للإمام أن لا يظهروا البدع وعلم الإمام أنهم سيبثون الدعوة سرا ويجرون إلى عامة الخلق شرا وإن لم يتظاهروا بها جهرا، فيحرص الإمام أن يظهر منهم على خافية، بعد تقديم الإنذار إليهم، ثم يتناهى في تعزير من كان [ ص: 113 ] ذلك منه، فإن جانبوا الائتلاف وأبدوا صفحة الخلاف وتميزوا عن الجماعة وتجمعوا للخروج عن ربط الطاعة نصب عليهم القتال إذا امتنعوا.
وإن علم أنهم لكثرتهم وعظم شوكتهم لا يطاقون فالقول فيهم كالقول في الباغي إذا استفحل شأنه وتمادى زمانه وغـلب على ظـن الإمـام أنه لو صادمه ودافعه بمن معه لاصطلم الباغي أتباعه وأشياعه ولم يستفد بلقائه إلا فرط عنائه واستئصاله أوليائه فالوجه أن يداري ويستنفد جهده» [13] .
7- الأمن والتأمين للممتلكات والأرواح والمعلومات
ذلك أن الخوف مدخل للأزمات، وبه يخترق العدو عيوبنا، وضعفنا، فلما خاف حاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، على أبنائه في مكة دفعه خوفه إلى مراسلة كفار مكة تطوعا يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إلى مكة كما جاء في السيرة [14] : «لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخـبر من السماء بما صنع حاطب».. ( يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا [ ص: 114 ] روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها، قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب؛ فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب؛ قال: فأخرجته من عقاصـها، فأتينا به رسـول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، يقول كنت حليفا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببـت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) [15] .
فأنـزل الله تعالى في حاطب، رضي الله عنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم [ ص: 115 ] ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون * لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير * قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) (الممتحنة:1-4).
وتعالج هذه الآيات الضعف الإنساني بالتذكير بالآخرة، والولاء لله، وعدم موالاة العدو، فهو إن يثقفك يكن لك عدوا، ويمتد أذاه فيبسط يده بالسوء إلى أقصى مدى ويتبعها بلسانه، فما فعل بيده لا يشبع غريزة الإيذاء لديه، لا يريد لك الخير، ( وودوا لو تكفرون ) ، فكيف تواليه وترجو عنده صنيعة!. وهذه المعاني يغفل عنها الإنسان في لحظات الضعف، ومن هنا جاءت الآيات لتنبه إليها.
ثم إن في ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، تذكير لحاطب بأن المسلمين سبق لهم أن اجتازوا أزمة حين اجتمعت قلوبهم واستعانوا بالله فلا داعي لهذا الخوف، فكل ما نحتاجه حسن الثقة بالله واجتماع القلوب.
ومن هنا، فإن النجاح في تأمين النفس من الخوف بداية الطريق لتحقيق الانتصار، وقد يكون الخوف على العيال أو من الفقر، يقول تعالى منبها إلى مداخل الضعف الإنساني: ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء [ ص: 116 ] والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (البقرة:268-269).
ويلحظ مما سبق أن الإسلام لم يكتف بالاعتماد على القيم الإيمانية بل اتخذ إجراءات مادية للحماية من الفقر، ومنها أنه لم يسمح للشخص أن يوصي بأكثر من ثلث ماله، وذلك التفاتا لحق الورثة، كما في الحديث: ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) [16] .
وعليه، يجب على الإدارة وضع نظام لتأمين الممتلكات والمعلومات ومنع اختراق العدو، وهو نظام يعتمد القيم الأخلاقية والوسائل المادية.. وتتأكد أهمية التحصين ضد الخوف في فترة الأزمة، بشكل خاص. ولذا يحسن بالقائد أن يبث الأمل بالنصر والنجاح كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، حين عرضت لهم صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، يقول البراء بن عازب ، رضي الله عنه: ( وعرض لنا صخرة في مكان من [ ص: 117 ] الخندق لا تأخذ فيها المعاول، قال فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عوف وأحسبه قال وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ) [17] .
ومن التطبيقات الفقهية، التي ذكرها الفقهاء للتحصين من الخوف، منع من يثير الشائعات عن قوة العدو من البقاء بين الجنود؛ ولذا نصوا على أن من واجبات الإمام أن يمنع المخذل من الخروج في الجيش، وإذا خرج وقام شخص بالتخذيل والإرجاف فإنه يحرم من الغنيمة، وهذا إجراء مبني على فكرة التحصين من المخاوف: «ويلزم الإمام، وقيل يستحب، تعاهد خيل ورجال، فيمنع ما لا يصلح لحرب كمخذل يفند عن الغزو، ومرجف يحدث بقوة الكفار وضعفنا، ومكاتب بأخبارنا، ورام بيننا، ومعروف بنفاق وزندقة» [18] ، وهذا إجراء وقائي واستباقي لمواجهة الأزمة؛ وتلحظ من قولهم: «ومرجف يحدث بقوة الكفار وضعفنا» إدراكا؛ لأن الأزمة تخترق نقاط الضعف، وأن تحصين المخاوف ضروري للوقاية من الأزمة. [ ص: 118 ]
8- المواجهة السريعة والتعرض السريع للأحداث (المبادرة)
وهذا ما نجده في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المرأة التي أرسلها حاطب، رضي الله عنه، بخبر مسير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش، ( قال علي، رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها؛ فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب؛ فقالت: ما معي من كتاب؛ فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب؛ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [19] .
9- استخدام الأساليب غير المباشرة كلما كان ذلك ممكنا
وهذا يحتاج إلى مهارة بأساليب الالتفاف والتمويه والمناورة بقصد أن يفقد العدو توازنه وقدرته على مواصلة صنع الأزمات بل بما يؤدي إلى تفكيكه وانهياره بتأثير المفاجأة والصدمة.. وللنجاح في الأساليب غير المباشرة لا بد من التدرج والتتابع والتناسق والتمويه.. وتعطي الأساليب غير المباشرة للإدارة قدرة على التدرج في التصاعد، بحيث لا يشعر فريق صناعة الأزمة بالتصاعد.
ومفهوم «التدرج» يقابل في المصطلح القرآني: مفهوم «التلطف»، وهو ما نبهت إليه سورة الكهف: ( وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ) (الكهف:19)، حيث تشكل القصة الواردة أنموذجا للوصول إلى الهدف من غير إثارة مفتعلة، بحيث يدخل إلى السوق مثل الناس، ويتحرك مثلهم، يلبس [ ص: 119 ] مثلهم، وفي هذا توجيه للحركات الدعوية في إدارتها للأزمة أن تختار أساليب دعوية مستمدة من حياة الناس الطبيعية، وأن تدخل المفاهيم الدعوية إلى حياتهم من غير أن تظهر الدعاة وكأنهم غرباء عن المجتمع بألبستهم وطريقة صلاتهم وتحركهم، بل عليهم بالتلطف، والتدرج، والانتقال بالناس خطوة خطوة نحو ما فيه صلاحهم.
ثانيا: المتطلبات الإدارية للتعامل مع الأزمة [20]
من أهم المتطلبات الإدارية للتعامل مع الأزمة، ما يأتي:
1- تبسيط الإجراءات وتسهيلها
إن من خصائص الأزمة قابلتها للتطور السلبي والتصاعد المستمر، وعلى نحو سريع، ومن هنا لابد من تبسيط الإجراءات اختصارا للوقت، للتمكن من تقديم العلاج بأسرع من تطور الأزمة نفسها.
2- استخدام المنهج العلمي العقلاني في العمل الإداري
ويعتمد على وجود عدة عناصر منها:
- التخطيط: وهو وضع أهداف قابلة للقياس نريد أن نحققها، فالهدف غير القابل للقياس لا يعرف مقدار ما تحقق منه، ومن هنا نجد الشريعة الإسلامية تميل إلى التحديد والضبط وربط الأحـكام بوصف ظاهر منضبط [ ص: 120 ] لا بأوصاف خفية.
وفي المؤسسات الاستثمارية يخطط الإداري بوضع أهداف لزيادة الأرباح بما ينسجم مع رسالة المؤسسة، فهذا هدف قابل للقياس، ويعمل على تحقيق ذلك بتأهيل فريق لتسويق المنتجات، وفتح أسواق جديدة، ثم يتابع التنفيذ لحل أي مشكلة تواجه العمل.
وكـذا في العمل الدعوي، يفترض في المؤسسات الدعوية وضع أهداف قابلة للتطبـيق والقياس كفتـح ميادين جـديدة، ودخـول الدعـاة إلى ميادين لم يدخـلوها من قبل، كالانتقـال من الدعوة في المسـاجد إلى الدعوة من خـلال مراكز تعـليمية أو مراكز ترفيهية وإعلامية وفنية، ثم تأهيل الدعاة بخبرات ومهارات الاتصال والتفاوض والدعوة والحوار، ثم متابعة العمل حتى تتحقق الأهداف.
- التنظيم: وهو توزيع الأعمال المفترضة لتحقيق هذه الأهداف وفق فترات زمنية.
- التنسيق: لتحقيق التعاون بين مختلف أجزاء الإدارة ومنع التصادم بين الأعمال المفترض تنفيذها لتحقيق الهدف المشترك، ومن نماذج سوء التنسيق ما نراه من حفر الطريق العام بعد مضي أيام قليلة من إعادة تجديده، ومن هنا تحتاج المؤسسات لإدارات تنسق حفظا للوقت والمال.
- المراقبة: لملاحظة ما تحقـق من الأهـداف فعليا، وتصويب الخلل إن وجد [21] . [ ص: 121 ]
3- الحضور الدائم
وذلك لمعرفة ما يحدث أولا بأول، والقدرة على التدخل في الوقت المناسب.
4- تفويض السلطة
بحيث يمنح أعضاء فريق إدارة الأزمة سلطة في اتخاذ القرارات للقيام بعمله المطلوب منه.
5- فتح قنوات الاتصال والإبقاء عليها مع الطرف الآخر
ذلك أن إدارة الأزمة تحتاج إلى تدفق المعلومات وإلى متابعة فورية لمعرفة نتائج الأزمة.. ومن الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الإدارة سياسة الباب المفتوح، بحيث يتمكن من عنده مظلمة من عرض شكواه، فتبقى الإدارة على إطلاع بالتوجهات لدى العاملين.
وإضافة إلى ما سبق فمن متطلبات إدارة الأزمات:
6- وجود نظام متكامل من البيانات والمعلومات.
7- الاعتماد على استراتيجية التغيير المخطط.
8- تشجيع روح المبادرة والإبداع.
9- تفعيل المشاركة في اتخاذ القرار.
10- مرونة الهياكل وأساليب العمل.
11- تعزيز الخبرات الفردية في المجالات الإدارية.
12- إيجاد نظم حديثة وفعالة للمراقبة والمتابعة. [ ص: 122 ]