المبدأ الرابع: تحديد الهدف والموازنة بين الكلفة والمردود وحساب الجدوى
- الجويني وإدارة الأزمة المالية
أ- ادخار المال لمواجهة الأزمة قبل وقوعها، وتفعيل مبدأ الاحتياط التعبوي: بدأ الجويني بالحديث عن بعض الأحـكام المالية المتعـلقة بالدولة مما يصنف تحت باب المالية العامة، فقال: «فالذي أذكره في الأموال ثلاثة أشياء تفتقر إليها الإيالة لا محالة»، ومصطلح «الإيالة» يعني التدابير السياسية.
أحدها ذكر ألفاظ وجيزة ضابطة لجمل المصاريف وكلياتها، والثاني في تحقيق القول في: إن الأمام هل ينـزف مال بيت المال كل سنة أو يستظهر بذخيرة ليكون من أمره على بصيرة، والثالث تفصيل القول فيه إذا نفذت الأموال وانحسمت مجالبها ومكاسبها، فكيف يكون مضطربه ومحاله، ومن أين ماله، وإلى ماذا يؤل ماله؟ ومعنى «نـزف بيت المال» أي أن يتوسع في النفقات بحيث لا يبقى في الموازنة مدخر، وهذا رأي قال به عدد من الفقهاء وله آثار اقتصادية إيجابية على المدى القصير ولكنها على المدى الطويل نتائجها سلبية، فهي ذات أثر في تحريك الاقتصاد نظرا لتوسع الدولة بالنفقات، إلا أن هذا الرأي لا يمكن الدولة من مواجهة الأزمة قبل وقوعها، بل يجعل الدولة في لحظة الأزمة في حالة من الضيق لعدم وجود مال معد للمواجهة، ولذا ينتقد الجويني هذا الموقف ويناقشه فقهيا ليقيم الدليل على [ ص: 155 ] وجه القطع بوجوب الادخار استعدادا للأزمة قبل وقوعها فيقول: «فأما القول في نـزف الأموال أو الاستظهار بالذخائر فهذا الفن أليق بأحكام السياسات مما قبله.
وقد ذهبت طوائف من علماء السلف إلى أن الأمام إذا أوصل كل ذي حق في بيت المال حقه ففضل في بيت المال مال فلا سبيل إلى تبقيته بل يتعين تفريقه واستيعاب جميع ما احتوته يد الأمام من الأموال»، ثم يبين كيف ينفق المال على المصارف التي كانت تولاها الدولة من المرتزقة أي الجند النظاميين وغيرهم فيقول بحسب رأي طوائف من السلف: «أما المرتزقة إن توفرت عليهم كفايتهم وانسدت خلاتهم وفضل من أربعة أخماس الفيء فاضل فيجب الفاضل عليهم على أقدار أعطيتهم وأقساطهم»، أي أن الدولة تعيد توزيع ما فضل لديها من موارد مخصصة للجند عليهم بحسب نسبة رواتبهم.
«وأما الزكوات فلا مجال لإعادة التوزيع لأنهم إذا أعطوا أول مرة حتى صاروا أغنياء لم يعودوا من مصارف الزكاة، فإن انتهى مستحقوها إلى مقاربة الاستقلال واكتفوا بما نالوه منها فلا سبيل إلى رد فاضل الزكوات عليهم فإن أسباب استحقاقهم ما اتصفوا به من حاجاتهم، فإذا زالت أسباب الاستحقاق زال الاستحقاق بزوالها، فالفاضل عند هذا القائل إن تصور استغناء مستحقي الزكاة في قطر وناحية منقول إلى مستحقي الزكاة في ناحية أخرى، وإن بالغ مصور في تصوير شغور الخطة عن مستحقي الزكاة في ناحية أخرى فهذا أخرق للعـوائد وتصـوره عسـر، ولكن العلماء [ ص: 156 ] ربما يفرضون صورا بعيدة، وغرضهم تمهيد حقائق المعاني، فإن احتملنا تصور ذلك فالفاضل من الزكوات عند هؤلاء مردود إلى سهم المصالح العامة».
وبعد أن يعرض الصور التي اقترحها فريق من الفقهاء للتوسع في الإنفاق حال وجود فائض في الموازنة، يقول: «ولو فرض زوال الحاجات وارتفاع الضرورات فهؤلاء يقولون: فاضل مال المصالح يبنى به الرباطات والقناطر والمساجد وغيرهـا من جهات الخـير، فحاصل هذا المذهب أنه لا يبقي في منقرض كل سنة في بيت المال مال، ويرتب في استقبال السنة المنتظرة أموالها، وهؤلاء يستدلون بسيرة الخلفاء الراشدين، فإنهم، رضي الله عنهم أجمعين، ما كانوا يستظهرون بأموال وذخائر وهم أسوة من بعدهم في أمور الإمامة إن حاولوا السداد والاستقامة».
وتلحظ أن هذا الرأي يوجه فائض الموازنة نحو الموظفين أولا بحسب رواتبهـم ومال الزكاة نحو الفقراء ثم نحو بناء البنية التحتية كالقناطر والمساجد والرباطات.
وهذا اقتصاد يحرك السوق بشكل مؤقت ولكنه لا يأخذ في الحسبان مواجهة أزمات متوقعة ولذا ينتقد الجويني هذا الرأي فيقول: «والذي أقطع به أن الحاجة إذا انسدت، أي تحققت الكفاية، فاستمكن الأمام من الاستظهار بالادخار فحتم عليه أن يفعل ذلك».
والجويني لا يرى المسألة من القضايا الخلافية بل هي قضية قطعية في مجال الفقه الإداري، فيقول: إن ادخار الدولة للأموال هو كاستعدادها [ ص: 157 ] بوجود الجيش النظامي، فلا يقبل من الدولة أن تسرح الجيش ثم إذا واجهها عدو استنفرت الناس للنفير العام، بل لا بد من وجود جيش نظامي لكل دولة بداهة، وكذا لابد من التخطيط الاقتصادي لمواجهة الأزمة المالية بمدخرات تكون رصيدا لقادم الأيام.. وفي هذا يقول: «ولست أرى ذلك من مسائل التحري التي تتقابل فيها مسالك الظنون، والدليل القاطع على ذلك أن الاستظهار بالجنود والعسكر المعقود عند التمكن حتم وإن انفذ الكفار -أي بعدو وتقاصت الديار لان الخطة، أي الدولة، إذا خلت عن نجدة معدة لم يأمن من الحوادث والبوائق والآفات والطوارق وإذا ارتبط النظر بالأمر الكلي وآل الخوف والاستشعار إلى البيضة والحوزة فقد عظم الخطر وتفاقم الغرر وصعب موقع تقدير الزلل والخطل، وإذا كان الاستظهار بالجنود محتوما فلا معول على ملكة لا معتضد ولا مستند لها من الأموال، فإنها شوف الرجال ومرتبط الآمال، ومن ألف مبادئ النظر في تصاريف الأحوال في الإيالات لم يخف عليه مدرك الحق في هذا المقال».
ثم يبين الجويني أن بناء القوة العسكرية وتوجيه الاقتصاد لبناء قوة عسكرية للدولة أولى من التوسع في النفقات، وهو ما يقتضيه الضابط الفقهي المقتضي وجوب تحري الإمام الأصلح فالأصلح، فيقول: «وإذا كان منصب الإمام القوام على طبقات الأنام مقتضيا أن يتحرى الأصلح فالأصلح فكيف يليق بنظر ذي تحقيق أن يبدد الأموال في ابتناء القناطر والدساكر ويترك ما هو ملاذ العساكر؟ والإطناب في الواضحات يزري بذوي [ ص: 158 ] الألباب، فإذا يتعين على الإمام الاحتفاظ بفضلات الأموال، فإنها تنـزل من نجدة الإسلام منـزلة السور من الثغور».
فتشبيه الجويني للادخار بأنه بمنـزلة السور من الثغور يكشف عن إدراكه لسلوك الأزمة وأنها تخترق نقاط الضعف، ولذا تراه ينتقد من يقول: إن الدولة في حال الأزمة تلجأ للبدائل، ولكنها لا تفكر في منع الأزمة ابتداء وإنما تعالج الأزمة في حينها.
«فإن قيل: إن احتاج الإمـام إلى مال أخذه من الجهة التي يأخذ منها لو صفر بيت المال عن المال، قلنا: هذا ضعف بين في الرأي وانحلال واضح في النظر في العواقب، ولا يستتب بهذا النظر أمر جزئي، فكيف الظن بسياسة الإسلام؟ ولو ساغ ذلك لجاز أن لا يستظهر بالجنود المعقودة ويعول على استنفار المطوعة مهما عنت الحاجة وألمت ملمة، وهذا باطل لا سبيل إلى المصير إليه والتعويل عليه».. فالجويني يدرك خصائص الأزمة، وأنها قابلة للتطور، وتضع المؤسسة أمام لحظة حرجة، لذا يصف الاقتراح بالمعالجة الآنية بأنه لا يدرك عواقب الأمور، وأن هذا الفكر لا تدار به أزمة دولة ولا أزمة مؤسسة صغيرة.
ثم يبدأ بمناقشة ما تعلق به قوم من أن الصحابة لم يدخروا، فيبين أن هذا مبني على ظرفهم، إذ كان الزمان يحتاج للتوسع في الإنفاق فهي فترة حروب، وبالتالي لم يدخروا لعدم وجود ما يدخر، فلو حصل فائض فالذي نقطع به أنه لا بد من الادخار؛ لأنه لا يستقيم أمر دولة لا تخطط للأزمة قبل [ ص: 159 ] وقوعهـا، وفي هذا المعـنى يقول: «وأما ما تعلق به الأولون من سير الخلفاء فحق على المنتهي إلى هذا الموضع أن ينعم نظره ويجرد لدرك التحقيق فكره، فنقول: ما كانت الأموال تبلغ في زمنهم مبلغا يحتمل الادخار، فإن الصديق، رضي الله عنه، بلى في معظم زمانه بقتال الردة، وما اتفقت مغانم بها اكتراث واحتفال... فأما الآن فقد اتسعت خطة الإسلام وهي على الازدياد والحمد لله على ممر الأيام، ولكل زمان رسمه وحكمه، ونحن على ارتجال من عقولنا نعلم فيما يمضي، ويحكم أن صاحب الأمر لو لم يجعل الاستظهار بالادخار أكبر همه عند الإيثـار واطراد أسباب الاختيار لعظم الفتق وعسر الرتق فأفضى الأمر إلى عظائم لا يحيط بها مجاري الأفكار» وفي هذه العبارة ينبه الجويني إلى متطلبات إدارة الأزمة بوجود فائض مالي ورصيد احتياطي معد لمواجهة الأزمة.
وتلحظ من مناقشة الجويني أن المنهج الذي استند إليه في التعامل مع النصوص في موضوع إدارة الأزمة هو الجمع بين النصوص الشرعية ومعرفة السنن الاجتماعية والسنن الكونية وقواعد الاجتماع الإنساني في الموضوع «(Systematic)» انظر في ذلك: عبد الحميد أبو سليمان، الإصلاح الإسلامي المعاصر، ط1 (القاهرة: دار السلام، 2006م) ص5 وما بعدها؛ نادية مصطفى، المداخل المنهاجية للبحث في العلاقات الدولية الإسلامية، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، ط1 (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م) 3/7-9. ، وهـذا المنهج القائم على الجمع بين النصوص [ ص: 160 ] والسنـن هو الذي مكن الجويني من حمل النصوص الواردة عن الصحابة بعدم الادخار على أنها مبنية على ظرف زمانهم، أما من تعامل مع النصوص من غير إدراك للسنـن فقد فهـم فهما لا يمكن من إدارة الأزمـة، وهذا ما ألمح إليه الجويني بقوله: «ولا يستتب بهذا النظر أمر جزئي، فكيف الظن بسياسة الإسلام».