- الإجراءات العلمية لتوفير المال للقيام بواجب الجهاد عند الجويني:
يناقش الجويني الإجراءات العلمية لتوفير المال والأدلة الشرعية على ذلك، فيقرر أن التدابير إذا لم يكن لها عن الشرع صدر فالهجوم عليها حظر؛ وفي هذا تنبيه إلى علاج الأزمة، لا يجوز أن يخالف القانون، ولهذا يبذل جهدا في بيان الأدلة الشرعية على صحة التدابير التي يقترحها. [ ص: 167 ]
ويبين أن التدابير قد لا نجد لها دليلا خاصا ولكننا نستند إلى الكليات، ويعبر عن الكليات بملاحظـة وضـع الشرع فيقـول: «ولكني لا أبتدع ولا أخترع شيئا بل ألاحظ وضع الشرع، واستشير معنى يناسب ما أراه وأتحراه، وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة، التي لا يوجد فيها أجوبة العلماء معدة. وأصحاب المصطفى، صلوات الله عليه ورضي الله عنهم، لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصا معدودة وأحكاما محصورة محدودة ثم حكموا».
وتأسيسا على فكرة الكليات وملاحظة وضع الشرع يستند الجويني إلى فكرة فرض الكفاية، وأن الأمـة هي المكلفة ابتداء بإقامة شعيرة الجهاد، وإنما الحاكم نائب عنها، فإن عجز الوكيل عادت المسؤولية للأصيل.
ويرى أن القادرين من الأمة مكلفون بتجهيز الجيوش إذا كانت «يد الإمام صافرة وبيوت الأموال شاغرة أن يتسبب إلى استيداء مال من موسري المؤمنين، فإنه يفعل ذلك على موجب الاستصواب ما أراه وعمم أهل الاقتدار واليسار في أقاصي البلاد ورتب على كل ناحية في تحصيل المراد ذا كفاية ودربة وسداد»، ثم يقترح عدة بدائل عملية لتحصيل المال في ظل عدم وجود مؤسسة لديها عدد من الموظفين لتحصيل الأموال من الجميع، فيقترح فكرة توزيع الالتزامات على الجهات، ففي كل مرة تطالب بلدة بعينها، «وإن عسر التبليغ إلى الاستيعاب ورأى في وجه الصواب أن يخصص أقواما ثم يجعل الناس في ذلك فئاما فيستأدي عند كل ملمة من فرقة أخرى وأمة، [ ص: 168 ] اتبع في ذلك كله أوامـره واجتنب زواجره، ثم ليكن في ذلك على أكمل نظر وأسد فكر وعبر، فإن اقتضى الرأي تعيين أقوام على التنصيص يعرض لهم على التخصيص».
وفي هذا موائمة بين تحقيق الهدف وبين كلفته، ذلك أن فرض الضرائب على الجميع يحتاج إلى عدد كبير من الموظفين، وفي فكرة التوزيع على الجهات بالتناوب تقليل للعبء على الموظفين. ثم يناقش فكرة هل ما يأخذه الإمام لتمويل العمل العسكري عند وجود خطر يكون على سبيل الاقتراض من الناس أم على سبيل التبرع؟ فيرى أن للإمام أن يأخذ على سبيل التبرع وله أن يأخذ على سبيل الاقتراض، ويرجح رأيه بأن التزامات الدولة المالية مستمرة، فإن ردت القرض عجزت ثم عادت واقترضت «فلا يزال في رد واسترداد، وما أدى إلى التسلسل فهو في وضعه لا يتحصل».
ويرى الجويني أن الأنسب اعتبار ما أخذ على سبيل التبرع، ويقيم الدليل على صحة ذلك شرعا، فإذا توفر مال في قادم الأيام فليوضع في باب الادخار لمواجهة الأزمات.
ويضع الجويني ضابطا لمشروعية أخذ أموال الموسرين فلا بد أن يكون قرار الجهاد مبنيا على دراسة علمية، ولا يجوز أن يأخذ الأموال للتوسع في النفقات أو لمشاريع غير تنموية: «ليس للإمام في شيء من مجاري الأحكام أن يتهجم ويتحكم، فعل من يتشهى ويتمنى، ولكنه يبني أموره كلها، دقها وجلها، عقدها وحلها، على وجه الرأي والصواب في كل باب، فلا يندب قوما للجهاد إلا إذا رأى تعينهم منهج الرشاد ومسلك السداد». [ ص: 169 ]
«فلست أرى للإمام أن يمد يده إلى أموال أهل الإسلام ليبتني في كل ناحية حرزا ويقتني ذخيرة وكنـزا ويتأثل مفخرا وعزا، ولكن توجه لدور المؤمن على ممر الزمن ما سبق رسمه، فإن استغنى عنه بأموال أفاءها الله على بيت مال المسلمين كف طلبته على الموسرين، فرحم الله امرءا طالع هذا الفصل وأنصف وانتصف ولم يلزمه جاده تقليده ولم يتعسف».
وهكذا يقدم لنا الجوينـي فقها يحشد فيه الآراء الفقهية، التي تمكن الدولة من تجاوز أزمتها، بأن يوفر لها الشرعية والمشروعية للقرارات والفتيا المناسبة لتوفـير الأمـوال، فيقول: «والذي يجـب التعويل عليه أن كل واقعة وقعت في الإسـلام تعين على ملتزمي الإسـلام أن يقيموا أمر الله فيها، إما بأنفسهم إذا فقـدوا من يليـهم أو بأن يتبـعوا أمر واليهـم، فإذا امتثلوا أمر الله بأنفسهـم أو بأموالهم على تفنن أحوالهم فارتقابهم رجوعا في مآلهم يشعر بأنـهم ما كانوا متأصـلين فيما كلفهم ربهم -أي ما كانوا مكلفين ابتداء- وهذا ظن كاذب ورأى غير صائب، فالمسلمون هم المخاطبون والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكنه مستتاب في تنفيذ الأحكام، فإذا نفذت فلا مطمع في مرجع، فإن در لبيت المال مال فحظ المسلمين منه تهيؤه للحاجات في مستقبل الأوقات، فهذا منتهى القول في هذا الفن». [ ص: 170 ]