الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              إحياء دور الوقف لتحقيق التنمية

              الدكتور / أسامة عبد المجيد العاني

              - المطلب الثاني: إنضاج المفهوم في تقارير التنمية البشرية [1] :

              لا بد من الإشارة أولا إلى أن مفهوم «التنمية البشرية» هو مفهوم معاصر، شاع إلى الوجود رسميا بعد أن تبناه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 1990م، وقصد به تلك العملية التي تهدف إلى «زيادة القدرات المتاحة أمام الناس».. وعلى الرغم من أن هذه العملية تشتمل على خيارات كثيرة ومتنوعة وغير محدودة، إلا أنه يمكن إفراد ثلاثة خيارات مهمة تتمثل في: ضرورة «أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل؛ وأن يكتسبوا المعرفة؛ ويحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة». ثم تمتد هذه الخيارات كي تستوعب الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

              أي أن المراد من التعريف أعلاه، هو أن التنمية البشرية تستهدف الارتقاء بثلاثة محاور أساس في حياة الناس هي:

              - رفع متوسط العمر، وهذا يتطلب النهوض بالجانب الصحي.

              2- رفع مستوى المعرفة، وهذا يتطلب النهوض بالجانب التعليمي بكل أنواعه.

              3- رفع المستوى المعاشي، وهذا يتطلب النهوض بالجانب الاقتصادي من خلال توفير فرص العمل اللازمة والنهوض بالأنشطة الاقتصادية. [ ص: 70 ] وتعمل هذه المحاور الثلاثة ضمن إطار لا غنى لها عنه، هو إطار الحرية، من خلال توفير جوانبها المختلفة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

              ويمكن القول: إن قفزة نوعية في تطور المفهوم قد حصلت مع صدور تقرير التنمية البشرية لعام 1990م، فبعد أن حدث تطور في مفهوم «تنمية الموارد البشرية» كي يشتمل على القدرات البشرية كافة لاستخدامها في العملية الإنتاجية، وذلك في أواخر الثمانينيات، فإن مفهوم «التنمية البشرية» قد ركز بالإضافة إلى ذلك على الاستفادة من القدرات البشرية، بحيث أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها في الوقت ذاته.

              وبشكل عام فإن تقارير التنمية البشرية، التي صدرت منذ مطلع التسعينيات، اشتملت على مجموعة مفاهيم للتنمية البشرية؛ فتقرير التنمية البشرية لعام 1990م مثلا يذكر أن «للتنمية البشرية جانبان، الأول هو تشكيل القدرات البشرية، مثل تحسين مستوى الصحة والمعرفة والمهارات، والثاني هو انتفاع الناس بقدراتهم المكتسبة، إما للتمتع بوقت الفراغ أو في الأغراض الإنتاجية في الشؤون الثقافية والاجتماعية والسياسية».

              وتتجلى التغييرات التي أضافها هذا التقرير في أنه حدد علاقة مفهوم التنمية البشرية مع ما سبقه من مفـاهيم، فهو يؤكد أهمية النمو الاقتصادي إلا أنه لا يعده هدفا بحد ذاته، إذ أن الهدف هو توزيع ثمار التنمية البشرية، فالأولى تعتمد على اعتبار البشر وسيلة العملية الإنتاجية، وتهمل إلى حد بعيد الجانب الآخر في المعادلة والخاص بانتفاع البشر بقدراتهم المكتسبة وكونهم الهدف الأساس للتنمية. [ ص: 71 ] لقد جاء هذا المفهوم كرد فعل لما يسمى بالعقود الضائعة للتنمية وللإحباط الذي أصـاب كلا من المنظرين والمنفذين، إضافة إلى إحباط الغالبية متمثلا بالجماهير. هذا الأمر جعل من مفهوم «التنمية البشرية» حركيا (Dynamic) فهو قابل للتطور ويمكن أن يتسع لكي يغطي جميع احتياجات الناس.

              ثم جرت عملية بلورة لهذا المفهوم في تقارير «التنمية البشرية» التي تلت تقرير عام 1990م، ففي تقرير عام 1992م ورد تأكيد ضرورة تمييز مفهوم «التنمية البشرية» عن غيره من المفاهيم، كما تم تأكيد الطابع (الأممي) له، إذ ذكر التقرير «أن التنمية البشرية فكرة أوسع وأشمل، فهي تغطي جميع اختيارات الإنسان في كل المجتمعات، وفي مراحل التنمية، فهي تهتم بالنمو الاقتصادي قدر اهتمامها بالتوزيع، كما تهتم بالحاجات الرئيسية بقدر ما تهتم بالشريحة الكاملة للتطلعات الإنسانية، وتهتم بمأزق الناس في الشمال بقدر ما تهتم بحرمانهم في الجنوب، وهي تنسج التنمية حول الناس وليس العكس». كما أعطى التقرير دورا مهما للأسواق العالمية، وسعى إلى تثبيت مبدأ الأسواق التنافسية باعتبارها تقدم ضمانا أفضل لكفاية الإنتاج، ودعا إلى فك القيود الموضوعة على الأسواق باتجاه جعلها مفتوحة لجميع الشعوب.

              ويخلص تقرير التنمية البشرية لعام 1992م إلى أن الدول النامية ستحتاج إلى استثمارات ضخمة في رأس المال البشري.

              وقد وسع تقرير التنمية البشرية لعام 1993م مفهوم المشاركة الجماهيرية، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، فعرف التنمية البشرية بأنها «تنمية الناس من أجل الناس بواسطة الناس. وتنمية الناس [ ص: 72 ] معناها الاستثمار في قدرات البشر، سواء في التعليم والصحة والمهارات حتى يمكنهم العمل على نحو منتج ومبدع. والتنمية من أجل الناس معناها كفالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي الذي يحققونه توزيعا عادلا وواسع النطاق. والتنمية بواسطة الناس، أي إعطاء كل فرد فرصة المشاركة فيها، وعليه فإن الإنسان هو الوسيلة وهو الهدف والغاية».

              ويلاحظ أن تعريف «التنمية البشرية» في تقرير سنة 1993م اكتسب بعدا آخرا تمثل في أهمية المشاركة الجماهيرية، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، فجاء التعريف على أنها «تنمية الناس من أجل الناس وبواسطة الناس» . أما «تنمية الناس» فيقصد به الاستثمار في الرأس المال البشري، سواء في التعليم أو الصحة أو المهارات كي يكتسب العمل صفة الإنتاجية والإبداع. ويقصـد بالتنميـة من «أجل الناس» تحقيق العدالة في التوزيع أو التوصل إلى أقرب درجاتها من حيث شمول جميع فئات المجتمع بثمار التنمية. أما «التنمية بواسطة الناس»، فهي ضمان حق الفرد في أن يأخذ دوره الطبيعي الإيجابي في تحقيق تلك التنمية، ومن هنا فإن الإنسان وفقا لهذا التعريف سيكون الهدف والغاية والوسيلة والمحصلة في آن واحد.

              ويرى تقرير «التنمية البشرية» لعام 1994م أن وراء صراعات العالم وحالاته الطارئة الكثيرة تكمن أزمة صامتة، أزمة نقص تنمية، وأزمة فقر عالمي، وأزمة ضغوط سكانية متزايدة، وأزمة تدن بيئي، وهي أزمات لن تستجب للإغاثة الخاصة بحالات الطوارئ، فهي تتطلب عملية صادقة [ ص: 73 ] وطويلة من التنمية البشرية المستـدامة، التي لا تولد نموا اقتصاديا فحسب، بل توزع فوائده توزيعا منصفا أيضا.

              أما تقرير «التنمية البشرية» لعام 1995م فقد توجه نحو بيان وضع المرأة بالنسبة إلى الرجل، موضحا أن النساء في العالم يشكلن نصف المجتمع الإنسـاني من حيث الـكم لكنهن مازلن لا يحصلن إلا على نصيب متدن مما يحصل عليه الرجل من الدخل وفرص العمل والخدمات وغيرها، وأن ذلك لم يقتصر على البلدان النامية بل شمل الدول المتقدمة.

              وهكذا في كل تقرير للتنمية البشرية يتطور المفهوم، كما تتطور الإجراءات والسبل المؤدية له، حيث ناقش تقرير عام 1996م الإجراءات الذاتية التي يتوجب اتباعها في البلدان النامية لتحقيق تنميتها البشرية، ووضع عددا من التوصيات أبرزها ضرورة أن تقوم الدولة بتحسين طبيعة ونوعية النمو الاقتصادي، الذي يعد واحدا من الحاجات الأساس في كثير من البلدان النامية، وأكد التقرير ضرورة أن تكون السياسات المرسومة نابعة من البيئة المحلية لتلك الأقطار، وأشار إلى إمكانية النهوض بالتنمية عن طريق تعزيز دور التعاون الدولي في مساعدة الاستراتيجيات الوطنية.

              ودعا تقرير « التنمية البشرية» لعام 1997م إلى تبني استراتيجية للحد من الفقر مطلع القرن الواحد والعشرين؛ وعلى الرغم من اعتراف التقرير بتباين خصوصيات كل بلد عن الآخر، إلا أنه أشار إلى اعتماد ست أولويات يمكن تطبيقها في كافة البلدان تتمثل في الآتي: [ ص: 74 ] أولها: يجب تمكين المرأة والرجل على حد سواء وفي كل مكان من بقاع المعمورة.

              ثانيها: المساواة في التمكين، ويعني ذلك إعطاء الفرص نفسها والممنوحة إلى الرجل للإسهام في تمكين المرأة.

              ثالثها: إن استدامة الحد من الفقر تتطلب مرافقتها بتنمية اقتصادية شاملة تشمل البلدان النامية ككل.

              رابعها: يمكن للعولمة أن تكون عاملا مساعدا للحد من الفقر فيما إذا ما تمت إدارتها بشكل يهدف إلى إقرار العدالة العالمية.

              خامسها: لابد للدولة أن تضطلع بدورها في توفير الإطار السياسي الملائم لتفعيل استراتيجية الحد من الفقر.

              سادسها: لابد من توافر دعم عالمي خاص في حالات محددة، تتمثل في منح القروض الميسرة والمساعدات اللازمة وتوفير الأسواق لتشجيع صادرات البلدان الفقيرة.

              أما تقرير «التنمية البشرية» لعام 1998م فقد بحث الاستهلاك والدور الذي يمكن أن يؤديه في التنمية البشرية والكيفية التي يمكن أن يؤدي بها إلى تعزيز التقدم البشري أو عرقلته. فعلى الرغم من الارتفاع الكبير في الاستهلاك الذي بلغ 24 تريليون دولار في ذلك العام، فإن هناك أكثر من مليار شخص لا تتوافر لهم فرصة الاستهلاك التي تلبي حاجاتهم الأساس.

              وبعد ثبوت الوجه الكالح للعولمة، دعا تقرير التنمية البشرية لعام 1999م إلى عولمة ذات ملامح إنسانية، إذ حمل التقرير عنوان: «البشر وليس الأرباح فقط» ليبرز دور العولمة في تعميق الهوة الموجودة أساسا ما بين [ ص: 75 ] البشر، والمتمثلة في فوارق العلم والاقتصاد والمدنية، وطالب التقرير بخلق توازن بين الاندماج المحموم وراء جني الأرباح ومشكلات البشر، عن طريق تطوير العولمة وجعلها إنسانية.

              وحاول تقرير التنمية البشرية لعام 2000م أن يبرز مفهوم الحرية، وما هي الجوانب التي يجب أن تغطيها، فهدف إلى تأمين ( الحريات السبع) : التحرر من التمييز حسب الجنس أو العنصر أو الأصل العرقي أو القومي أو الدين؛ والتحرر من الخوف ومن التهديدات المتعلقة بالأمن الشخصي والتعذيب والاعتقال التعسفي وغيرها من أعمال العنف؛ وحرية الفكر والكلام والمشاركة في صنع القرار؛ والتحرر من الفاقة؛ وحرية تنمية الإمكانيات البشرية؛ والتحرر من الظلم ومن انتهاكات سيادة القانون؛ وحرية الحصول على فرصة عمل كريمة دون أن يستحوذ على جهده من قبل المستغلين.

              أما تقرير عام 2001م فقد جاء بعنوان: «مساهمة التقنيات الحديثة في خدمـة التنمية البشرية» وحمل العديد من المتغيرات سواء على صعيد دليل التنمية البشرية، الذي تباينت مراتب الدول فيه قياسا بالسنوات السابقة، بسبب اعتماد التقرير إسهام التقنيات الحديثة في خدمة التنمية البشرية كمعيار إلى جانب معايير التنمية الأساس الثلاثة.

              وهدف تقرير «التنمية البشرية» لعام 2002م إلى تعميق الديمقراطية في عالم ممزق، إذ تناول التقرير علاقة السياسة بالتنمية البشرية، وبتفصيل أدق: كيف تتمكن السلطة السياسية والمؤسسات «الرسمية وغير الرسمية، الوطنية والعالمية» من تحديد شكل التقدم الإنساني. كما تطرق التقرير إلى الاحتياجات [ ص: 76 ] اللازمة للدول لإرساء الحكم الراشد الديمقراطي، الذي يمكن بدوره من تحقيق التنمية البشرية في أرجاء المعمورة، في الوقت الذي لا تزال فيه الكثير من دول العالم متخلفة في هذا المجال. وأشار التقرير إلى أن الديمقراطية التي تمكن الشعوب يجب أن تؤسس ولا يمكن استيرادها من الخارج، الأمر الذي يتطلب بناء الكثير من المؤسسات التي تعد مفتاحا للديمقراطية.

              «الميثاق الدولي لإنهاء الفقر البشري» هو عنوان تقرير التنمية البشرية لعام 2003م، إذ يعتمد إعلان الألفية الذي أعلنته الأمم المتحدة وتم توقيعه من قبل 189 دولة في أيلول 2000م وتضمن ثمانية أهداف تراوحت ما بين نهاية تنصيف الفقر، إلى إنهاء انتشار فايروسHIV بحلول عام 2015م. ويتولى مسؤولية تنفيذ ذلك الحكومات والوكالات الدولية للمساعدة ومنظمات المجتمع المدني في كل بقاع العالم. ويتطرق الجزء الأساس من التقرير إلى تشخيص المشاكل الرئيسة التي تعيق تنفيذ الأهداف ويحدد الاحتياجات اللازمة ويقدم مقترحات لتسريع تنفيذ هذه الأهداف.

              ويبشر تقرير «التنمية البشرية» لعام 2004م بالحرية الثقافية، ويعتبرها جزءا حيويا من التنمية البشرية، فالناس يريدون حرية ممارسة تدينهم علانية، والتكلم بلغتهم، والاحتفال بتراثهم العرقي أو الديني، دون خوف من تهكم أو عقاب أو انتقاص، وكذلك حرية المشاركة في المجتمع دون الاضطرار إلى التخلي عن جذورهم الثقافية.

              وتطرق تقرير «التنمية البشرية» لعام 2005م إلى حجم التحدي الذي يواجهه العالم في مستهل العد التنازلي للسنوات العشر الباقية حتى عام 2015م، [ ص: 77 ] وتمحور حول ما يمكن الحكومات في البلدان الغنية أن تفعله للوفاء من جانبها من صفقة الشراكة الكونية، إذ لا يمكن لأي حجم من التعاون الدولي أن يعوض عما تفعله حكومات تقصر عن وضع التنمية البشرية في صدر أولوياتها، أو عن احترام حقوق الإنسان، أو معالجة اللامساواة، أو عن استئصال الفساد.

              ويشير تقرير «التنمية البشرية» للعام 2006م، إلى أن هناك حاجة ماسة لوضع خطة عمل دولية بقيادة مجموعة الثمانية (G8) لحل أزمة المياه والصرف الصحي المتنامية التي تتسبب بموت ما يقارب المليوني طفل سنويا. ووفقا لهذا التقرير، وعنوانه: «ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية»، تشكل المياه غير النظيفة في معظم أنحاء العالم النامي تهديدا للأمن البشري أشد من التهديد الذي تشكله النـزاعات العنيفة.

              وتطرق تقرير «التنمية البشرية» 2007/2008م إلى مشكلة تغير المناخ، الأمر الذي يتطلب - حسب التقرير- استجابة عاجلة لخطر يواجه طرفين لا يتمتعان بالنفوذ السياسي الكافي هما: فقراء العالم وأجيال المستقبل. كما يطرح التقرير أسئلة غاية في الأهمية حول قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الإنسان بين الدول والأجيال.

              مما تقدم يلاحظ أن مفهوم «التنمية البشرية» لا يمكن حصره في تعريف محدد، ولا يمكن اعتباره تعريفا متبلورا رغم مرور أكثر من عقد من الزمن على ظهوره، الأمر الذي يشير إلى أن عملية إنضاج المفهوم ما تزال مستمرة، وأن المفهوم يواكب احتياجات البشرية ويتطرق إلى محاولة شمول كل الأمور التي من شأنها عرقلة مسار التنمية البشرية. [ ص: 78 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية