المطلب الثاني: موقع عائشة النخبوي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

ترك النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي على خصائص خلقية رفيعة ^[1] . فلقد عرفت عائشة، رضي الله عنها، بكرمها وزهدها، فلم تكن تستهلك المال الذي يمنح لها لنفسـها بقـدر ما كانت تسخره لغيرها، عن عطاء، قال: بعث معاوية إلى عائشـة بطوق من ذهب، فيه جوهر قوم مائة ألف، فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ^[2] .

وعن أم ذرة، وكانت تغشى عائشة قالت: بعث إليها بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين أو مائة ألف. فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهـم. فلـما أمست قالت: يا جارية هلمي أفطري. فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحما بدرهم نفطر عليه؟! قالت لها: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت ^[3] .

كما عرفت عائشـة بورعـها وخـوفها من الله عز وجل. ففي رواية عن عوف بن مالك بن الطفيل، هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها، أن عائشة حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء [ ص: 199 ] أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قـالوا: نعـم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طـالت الهجرة، فقـالت: لا والله لا أشفـع فيه أبدا، ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا. قـالوا: كلنا؟ قـالت: نعم ادخلوا كلـكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير. فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما نذرها وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها" ^[4] .

وأما عن تعبدها لله عز وجل، فعن عروة، أن عائشة، رضي الله عنها، كانت تسرد الصوم ^[5] . وعن القاسم، أن عائشة كانت تصوم الدهر ولا تفطر [ ص: 200 ] إلا يوم أضحى أو يوم فطر ^[6] . وعن القاسم قال: كانت أم المؤمنين إذا تعودت خلقا لم تحب أن تدعه ^[7] .

لقد تميزت السيدة عائشة عن غيرها بمستوى علمي متميز، فلقد رأينا سابقا أن بعض الصحابيات -وليس كلهن- كن يعرفن الكتابة مثل الشفاء، لذلك يجب أن نشير إلى أن عائشة كانت تعرف القراءة والكتابة، وكانت تبدأ في مكاتبتها بعد البسملة بقولها: "من المرأة عائشـة بنت أبي بكر حبيبـة حبيب الله" ^[8] . ومما يدل على أنها كانت تكتب أيضا رواية كانت تعبر فيها عن غضبها من قتـل عثمان، ثم قال لها مسروق: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهـم بالخروج عليه. فقالت عائشة: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادا في بياض إلا جلست مجلسي هذا. وقال الأعمش: كانوا يرون أنه كتب على لسانها ^[9] .

لقد أجمع الأئمة المحدثون من المتقدمين والمتأخرين على أن أم المؤمنين عائشة كانت من بين أكبر فقهاء الصحابة، فاعتبرت مصدرا للصحابة ولمن جاء بعدهم، حيث كان كبار الصحابة يرجعون إليها في مسائل كثيرة، فلقد جمعت بين علم [ ص: 201 ] الرواية وعلم الدراية ^[10] . عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: ما رأيت أحدا أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقـه في الرأي إن احتيـج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نـزلت، ولا فريضة، من عائشة ^[11] . وقال مسروق: "لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونـها عن الفرائض" ^[12] . وقال عنها معاوية: "والله ما سمعت قط أبلغ من عائشـة إلا رسـول الله" ^[13] . وعن أبي موسـى قال: "ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما" ^[14] . وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة" ^[15] ، وقال عروة: "ما رأيت أحـدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر، من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضـائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا، فإنها نـزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة" ^[16] .

إنها الوحيدة من بين النساء، مقابل (22) صحابيا، ممن يرجع إلى اجتهاداتها في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف في الحديث. وهي المرأة الوحيدة من مقابل (13) صحابيا من بين الذين اشتهروا بالفتاوى والأحكام وتكلموا في [ ص: 202 ] الحلال والحرام. وكونها الوحيدة مقابل العددين المذكورين هذا معقول جدا. ولقد انفردت عائشة ببعض الآراء الفقهية خالفت فيها جمهور الصحابة، ومن أتى بعدهم، ومن ذلك صلاتها بصلاة الإمام، وهي في بيتها، وهو في المسجد؛ عن عائشة أنها كانت تصلي بصلاة الإمام في بيتها وهو في المسجد ^[17] ، وغير ذلك.

ولما ذكر ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام، قدم عائشة على سائر الصحابة. ولقد جمعت عائشة، رضي الله عنها، بين العلم بالقرآن الكريم والحديث والفقه. أما عن علمها بالقرآن الكريم، فقالت عائشة: "وما نـزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" ^[18] . وسبق أن رأينا كيف كانت تستفسر النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير بعض الآيات.

ولقد كان لها منهج خاص في تفسـير القرآن الكريم "فقد كانت تحرص أن تظهر اتفاق آيات القرآن فيما بينها، واتساقها وانسجـامها، فترد الآيات إلى آيات أخرى، وتفسر القرآن بالقرآن، فقد سألها عروة عن قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3 ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) (النساء:3) ، فقالت: "يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن [ ص: 203 ] يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغـوا بهن أعلى سنتهن من الصـداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن". قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=127 ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ) (النساء:127) ، والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3 ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ، قالت عائشة: "وقول الله في الآية الأخرى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=127 ( وترغبون أن تنكحوهن ) ، يعني هي رغبة أحدكم ليتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن" ^[19] .

وإلى جانب علم السيدة عائشة بالقرآن فلقد كانت محدثة، فهي تصنف أول راوية في النسـاء الراويات من حيث كثرة الرواية للحـديث. قال الحاكم أبو عبد الله: روى عنها جمع من الصحابة والتابعين، وبلغ ما روي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 2210 حديثا.

ورأينا أن مروياتها بلغت 2405)، منها 174 حديثا متفقا عليها عند الشيخين، وانفرد البخاري منها بـ 54 حديثا، ومسلم بـ 69 حديثا، [ ص: 204 ] والباقي في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد، وعدها ابن حزم في المرتبة الرابعة من بين الصحابة المكثرين للرواية ^[20] .

أخذت علمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، قولا وعملا وتقريرا، وعن أبيها أبي بكر، وعن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة بن عمرو الأسلمي، رضي الله عنهم. وقد روت عن النساء أيضا، فروت عن سيدة النساء فاطمة الزهراء، وعن جذامة بنت وهب، رضي الله عنهما ^[21] . أما من أخذوا عنها رجالا ونساء فهم كثيرون ^[22] . وكان من الآخذين عن عائشة الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها، القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء. ومن النساء من روت عنها مثلا زينب بنت أبي سلمة المخزومية الصحابية المعروفة، وخيرة أم الحسن البصري، وحفصـة بنت عبد الرحمـن بن أبي بـكر، وصفيـة بنت أبي عبيد، وعائشة بنت أبي طلحـة التيمية، وعمرة بنت عبد الرحمن، ومعاذة العدوية، وأم كلثوم بنت أبي بكر -أخت عائشة لأبيها- ونهية مولاة سيدنا أبي بكر الصديق، وجرة بنت لجاجة، وذفرة بنت غالب، وغيرها كثيرات ^[23] [ ص: 205 ] .

ومن الصحابة الذين عرفوا بروايتهم للحديث وكانوا يترددون عليها لمراجعة محفوظاتهم، أبو هريرة، رضي الله عنه، "فقد كان يأتي إلى مكان قريب من حجرة عائشة، رضي الله عنها، فيحـدث، فعن هشام عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، اسمعي يا ربة الحجرة، وعائشة تصلي... ^[24] حتى يطمئن إلى صحة الحديث عندما تقر عليه عائشة المحدثة الفقيهة الحافظة.

كانت عائشة، رضي الله عنها، من كبار علماء الصحابة المجتهدين. قال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين: والذين حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطـاب، وعـلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعـود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر ^[25] .

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة قد اشتغلت بالفتـوى في خـلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلم جرا، إلى أن مـاتت يرحمها الله ^[26] . ولقـد كانت عائشـة تجتهـد في المسـائل التي لا تجـد لهـا نصا صريحا، حتى قال عنها عبد الرحمن بن أبي سلمة: "ما رأيت أحدا [ ص: 206 ] أعلم بسنن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقـه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نـزلت، ولا فريضة، من عائشة" ^[27] .

طرقت مرويات عائشة معظم أبواب الأحكام إلا قليلا منها، وإن غلب على مروياتها طابع الأفعال على الأقوال، ولا سيما ما يتعلق بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتية والمعيشية. كما تميزت عائشة في مروياتها بنقل أحكام النساء الخاصة بهن.

وإذا فصلنا أكثر فيمكن القول: إن مروياتها تناولت أحاديث تتعلق بأبواب الإيمان والوحي والعلم والقراءة والتفسير، كما احتوت على أحاديث تتعلق بآداب قضاء الحاجة، وبالوضوء والغسل في يوم الجمعة، وفي الجنابة، وهي كثيرة، وبمسائل في الحيض والاستحاضة، وما يتعلق بجواز مباشرة الرجل الحائض، وقد برعت وفاقت غيرها في هذا المجال.

وكذا أحاديث في التيمم، تتعلق بسبب نـزول آية التيمم -وهي صاحبة القصة- وكذا حوت مروياتها روايات كثيرة جدا في أبواب الصلاة تتعلق بالأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وبكيفية فرضية الصلوات، وأحاديث في الأذان، وما ورد من الأذكار والأدعية خلالها وفي دبرها، وبالإمامة وفضل الجماعة، وأحاديث في المساجد وآدابها وفضلها، وحضور النساء للمساجد، وأحاديث بخصوص صلاة العيدين والخوف والكسوف، وما يتعلق بالسنن الراتبة والنوافل وقيام الليل، وصلاة التراويح وما ورد في الوتر، وصلاة الجنازة وما يتعلق بها من ثياب الكفن، وأحاديث في إثبات عذاب القبر والتحذير من اتخاذ القبور مساجد، وغير ذلك مما يتعلق بالقبور وأهلها. [ ص: 207 ]

كما تناولت مروياتها أحاديث كثيرة في الصدقة وأجرها، وإنفاق المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وكذا اشتملت على أحاديث كثيرة في الصوم تتعلق بمسائل شتى في تحري هلال شعبان لمعرفة هلال رمضان وفي السحور، وفي الصائم الذي يصبح وهو جنب، وتقبيل الصائم، وأحاديث في صيام التطوع وأخرى في الاعتكاف، وفي تحري ليلة القدر، وفي قضاء الصيام، وفي النهي عن صوم الوصال، وأيضا روايات كثيرة جدا في الحج تتعلق بالتلبية وأنواع الحج الثلاثة، واستعمال الطيب قبل الدخول في الإحرام وقبل طواف الإفاضة وبعد التحلل الأصغر، وبفتل القلائد للهدي، وبعدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمرة عائشة نفسها من التنعيم ونـزول المحصب، وما يتعلق ببناء الكعبة وفضلها. وكذا روايات في الأضاحي وفي الذبائح وبعض ما يتعـلق بهما نحو العقيقة، كما أن لها مرويات في البيوع وما يتعلق بها، وفي العتق والمكاتبة. وتشتمل على أحاديث في باب اللباس والأطعمة والأشربة، والطب فيما يتعلق بعلاج المريض والدواء وبالرقية والدعاء، وبأحاديث في النذور والشهادات، وأيضا على أحاديث تتعلق بالجهاد والمغازي والإمارة.

وتتضمن مروياتها أيضا مجموعة من الأحاديث تدور حول النكاح وحسن المعاشرة بين الزوجين، والطلاق وما يتعلق به، وعلى روايات في أبواب الحدود، وأبواب المناقب والسير، وعلى جملة كبيرة من الأحاديث في الآداب المعيشية وحسن المعاشرة وفي البر والصلة، ولعل هذا الجانب من الجوانب البارزة في مروياتها، كما روت أحاديث في الزهد والرقاق وأحاديث في الفتن، وأشراط الساعة، والقدر والخلقة، وما يتعلق بالقيامة، وأحاديث في الاستغفار والدعاء والتوبة، وأحاديث في الفرائض. [ ص: 208 ]

وقد عمدنا إلى هذا العرض لتتجلى لنا فائدة التنوع الذي اتسمت به مرويات عائشة، رضي الله عنها، وخاصة في مجال الأحكام وفائدته في حياة الناس، فهي أساسا مرويات تنقل لنا الفعل لبيان السنة بغير الاقتداء.. وفضلا عن تميز مروياتها بالعملية، فهي أيضا روايات دقيقة تنقل لنا أدق التفاصيل عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله المعيشية والعبادية.

لقد اشتـهر عدد من الصحابة ممن كان يكثر الرواية عن السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها:

- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، وعائشة خالته (روى عنها 1050 حديثا).

- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعائشة عمته تربى في حجرها (روى عنها 137 حديثا).

- الأسود بن يزيد النخعي الكوفي أبو عمرو (روى عنها 117 حديثا).

- عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية. وكانت في حجر عائشة (روت عنها 72 حديثا).

لم يتوقف إسهام أم المؤمنين عائشة في المجال الفكري فقط، بل أسهمت أيضا في المجال السياسي، في عهدي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ساد الاستقرار السياسي، ولم تظهر مشاكل سياسية على مستوى القيادة، وكان لموقع عائشة آنذاك أثر في المجال العلمي، الذي سبق وأن أشرنا إليه.

أما في عهد سيدنا عثمان، رضي الله عنه، فلقد بدأت بعض المشاكل السياسية تظهر على مستوى القيادة، وكان لعائشة رأي فيها، لجأت بعض [ ص: 209 ] الأطراف المعارضة إلى عائشة لمطالبة سيدنا عثمان بالعدول عن تصرفاته، فقامت بذلك، ولكن يبدو أن هذه المعارضة لم تهدأ. واستغلت ضد عثمان استغلالا سيئا، تقول عنها عائشة: "كان الناس يتجنون على عثمان، رضي الله عنه، ويزرون على عماله، ويأتوننا في المدينة، فيستشيروننا فيما يخبروننا عنه، ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك، فنجده بريا تقيا وفيا، ونجدهم فجرة كذبة، يحاولون غير ما يظهرون..." ^[28] .

إن استشارة عائشة في قضايا حساسة دليل على الموقع المهم الذي كانت تحتله في زمانها، على الرغم من أنها لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الوحيدة. ولقد كانت لعائشة، رضي الله عنها، آراء سياسية مخالفة لبعض آراء عثمان، رضي الله عنه، فتخرجها من بيت أبيها أبي بكر الصديق الذي اشتهر بالعلم بأيام العرب؛ ومن البيت النبوي، الذي عاشت فيه مع زوجها النبي القائد السياسي المحنك، أكسبها مفاتيح خاصة لفهم السياسة ومجرياتها. فالعوامل مجتمعة تجعلها تمتلك وجهات نظر خاصة في الأمور السياسية، من ذلك حينما جاء وفد مصر يشكون أميرهم عبد الله بن أبي سرح وكان أخا عثمان لأمه، عند ذلك أرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلا، فأنصفهم من عاملك" ^[29] . وحينما سئلت عن خروجها في طلب دمه، قالت: "رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربة [ ص: 210 ] بالسوط، وموقع المحماة، وإمرة سعيد بن العاص والوليد بن عقبة، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرام: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام". غير أن مخالفتها لبعض مواقفه أو آرائه لم يمنعها من أن تنكر أسلوب التغيير، الذي اتبعه الثائرون على عثمان لما كانت ناقمة على قتلته. لقد كانت ترى أن التغيير أو المعارضة يكون بأسلوب سلمي^[30] .

ولما قتل عثمان، رضي الله عنه، نصحت بأن يبايع الناس عليا، رضي الله عنه. فحسب ما يرويه الأحنف بن قيس: "من تأمريني أن أبايع؟ قالت: عليا، قال: تأمريني به، وترضينه لي؟ قالت: نعم، فمررت على علي بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى أهلي بالبصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام" ^[31] . وبعد أن تمت البيعة لعلي، طالبت عائشة وجمهرة الصحابة والتابعين عليا بأن يقتص من الثائرين، أي قتلة عثمان، وهذا حتى تستريح الأمة منهم، ولا يتعاظم شرهم. "ولقد قامت خطيبة بالناس عند الكعبة المشرفة مطالبة الناس ألا يتهاونوا في ذلك" ^[32] . غير أن عليا كان يرى التريث بدل الإسراع.

وقد خرجت عائشة، رضي الله عنها، مع طلحة والزبير لمعاقبة قتلة عثمان، وأرادت بذلك الإصلاح، غير أنها كانت مترددة في الخروج، ونصحتها أم سلمة بأن لا تخرج، واستغل البعض غضبها ليقحمها بحجة أنها تكون واسطة [ ص: 211 ] للإصلاح. وبالبصرة حدث القتال، والتحق علي، رضي الله عنه، ليصلح الأمر، لكن الثائرين استغلوا الموقف ليشعلوا نار الحرب ليحافظوا على أنفسهم تحسبا أن الصلح لا يكون في صالحهم. وتوقفت الحرب وسقط القتلى من كلا الطرفين، وتوقفت بعد أن أمر علي بعقر الجمل الذي ركبته عائشة. ندمت عائشة على خروجها إلى هذه المأساة ندما شديدا، فكانت كلما تذكرتها قالت: "والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة" ^[33] .

أما في عهد معاوية، رضي الله عنه، فقد عارضته فيما كانت ترى أنه ليس في صالح المسلمين، على الرغم من إحسانه لها، من ذلك معارضتها لأسلوب العنف والقسوة الذي استخدمه في إبعاد معارضيه كقتله لأخيها محمد بن أبي بكر وحجر بن عدي. فحينما زارها معاوية، رضي الله عنه، لما حج قالت له: آمنت أن أخبئ لك رجلا يقتلك بأخي محمد؟ قال: ما كنت لتفعلي. وعن حجر: حاولت أن تحول دون قتله، فلم تفلح في ذلك، وحينمـا زارها عاتبته بقولها: "يا معـاوية أين كان حلمـك عن حجر، فقـال: لم يحضرني رشيد" ^[34] . كما أنكرت على معاوية توعده الصحابة والتابعين الذين رفضوا بيعة ابنه يزيد، وحينما زارها قالت له: "بلغني أنك تتهددهم بالقتل، فارفق بهم، فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله، قال: أفعل" ^[35] . [ ص: 212 ]

ونظرا للمكانة التي تحتلها عائشة فقد أرسل إليها معاوية يستنصحها. أخرج الترمذي: "كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين، رضي اللهم عنها، أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي. فكتبت عائشة، رضي الله عنها، إلى معاوية: سلام عليك أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. والسلام عليك ) ^[36] .

ولم يكن لعائشة، رضي الله عنها، مواقف سياسية فحسب، بل كان لها رأي في أسباب فشل الحرب أيضا. قالت عائشة يوم الجمل عندما سمعت أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور (ضعف)، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء ^[37] .

إن امرأة اجتمعت فيها هذه القدرات لا بد أن تحدث آثارا واضحة في تشكيل وسير الحركة الفكرية وصناعة القرارات السياسية وبالضرورة على حركة التغيير الاجتماعي. ولا أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرف عليها لتكون الأنموذج الذي لا يمكن أن يتكرر، بل العكس تماما أراد أن يعلمنا كيف نعتني ونحافظ على هذا النوع من النساء؛ لأن النخبة التي تسهر على توجيه الحركة التغييرية الفكرية والاجتمـاعية لا يمكنها أن تستقيم بعنصر الرجال فقط. هذا ما حرص على تنظيمه الرسول، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في الوسط [ ص: 213 ] النخبوي. وغياب مثل هذا الأنموذج في الوسط النخبوي الفكري لابد وأن يخلف فكرا غير متوازن.

وإذا كان مصير المجتمع مرهون بالجهد والإبداع الذي تبذله النخبة في توجيه مشاكله، فإننا سندرك مدى خطورة غياب أو إزاحة أوتهميش المرأة من الوسط النخبوي وما يترتب عنها من نتائج. ومدى أهمية بعث موقعها في هذا الوسط، وخاصة إذا نظرنا إلى خطورة تقهقر دور النخبة عامة في المجتمع، بغض النظر عن الأسباب التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه. والذي يهمنا في هذا الكتاب هو النتائج التي قد تترتب على غياب أو محاولة تهميش المرأة في هذا الوسط الحساس.

لقد أثمرت جهود المصطفى صلى الله عليه وسلم في إعداد النماذج النخبوية، خاصة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما رأينا سابقا. غير أن موقع المرأة في الوسط النخبوي في المجتمع أخذ يشهد تراجعا تدريجيا بالتوازي مع تراجع الحركة العلمية النسائية، والتي كانت تتمثل في رواية الحديث بعد عصر التابعيات، أي بعد ذهاب تلميذات أمهات المؤمنـين. وهذا التراجع له أسبـابه الخاصة، التي سوف نتعرض لها، بإذن الله في كتاب آخر. [ ص: 214 ]

المطلب الثاني: موقع عائشة النخبوي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :

ترك النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي على خصائص خلقية رفيعة ^[1] . فلقد عرفت عائشة، رضي الله عنها، بكرمها وزهدها، فلم تكن تستهلك المال الذي يمنح لها لنفسـها بقـدر ما كانت تسخّره لغيرها، عن عطاء، قال: بعث معاوية إلى عائشـة بطوق من ذهب، فيه جوهر قومِّ مائة ألف، فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ^[2] .

وعن أم ذرة، وكانت تغشى عائشة قالت: بعث إليها بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين أو مائة ألف. فدعت بطبق وهي يومئذٍ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهـم. فلـما أمست قالت: يا جارية هلمي أفطري. فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم نفطر عليه؟! قالت لها: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت ^[3] .

كما عُرفت عائشـة بورعـها وخـوفها من الله عز وجل. ففي رواية عن عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمِّهَا، أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ [ ص: 199 ] أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَـالُوا: نَعَـمْ. قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَـالَتِ الْهِجْرَةُ، فَقَـالَتْ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّـعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي. فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا، حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ: السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: ادْخُلُوا. قَـالُوا: كُلُّنَا؟ قَـالَتْ: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّـكُمْ، وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولاَن:ِ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا" ^[4] .

وأما عن تعبدها لله عز وجل، فعن عروة، أن عائشة، رضي الله عنها، كانت تسرد الصوم ^[5] . وعن القاسم، أن عائشة كانت تصوم الدهر ولا تفطر [ ص: 200 ] إلا يوم أضحى أو يوم فطر ^[6] . وعن القاسم قال: كانت أم المؤمنين إذا تعودت خلقًا لم تحب أن تدعه ^[7] .

لقد تميزت السيدة عائشة عن غيرها بمستوى علمي متميز، فلقد رأينا سابقًا أن بعض الصحابيات -وليس كلهن- كن يعرفن الكتابة مثل الشفاء، لذلك يجب أن نشير إلى أن عائشة كانت تعرف القراءة والكتابة، وكانت تبدأ في مكاتبتها بعد البسملة بقولها: "من المرأة عائشـة بنت أبي بكر حبيبـة حبيب الله" ^[8] . ومما يدل على أنها كانت تكتب أيضًا رواية كانت تعبر فيها عن غضبها من قتـل عثمان، ثم قال لها مسروق: هذا عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهـم بالخروج عليه. فقالت عائشة: والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادًا في بياض إلا جلست مجلسي هذا. وقال الأعمش: كانوا يرون أنه كتب على لسانها ^[9] .

لقد أجمع الأئمة المحدثون من المتقدمين والمتأخرين على أن أم المؤمنين عائشة كانت من بين أكبر فقهاء الصحابة، فاعتبرت مصدرًا للصحابة ولمن جاء بعدهم، حيث كان كبار الصحابة يرجعون إليها في مسائل كثيرة، فلقد جمعت بين علم [ ص: 201 ] الرواية وعلم الدراية ^[10] . عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: ما رأيت أحدًا أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقـه في الرأي إن احتيـج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نـزلت، ولا فريضة، من عائشة ^[11] . وقال مسروق: "لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونـها عن الفرائض" ^[12] . وقال عنها معاوية: "والله ما سمعت قطّ أبلغ من عائشـة إلا رسـول الله" ^[13] . وعن أبي موسـى قال: "ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا" ^[14] . وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة" ^[15] ، وقال عروة: "ما رأيت أحـدًا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر، من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضـائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلًا، فإنها نـزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة" ^[16] .

إنها الوحيدة من بين النساء، مقابل (22) صحابيًا، ممن يرجع إلى اجتهاداتها في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف في الحديث. وهي المرأة الوحيدة من مقابل (13) صحابيًا من بين الذين اشتهروا بالفتاوى والأحكام وتكلموا في [ ص: 202 ] الحلال والحرام. وكونها الوحيدة مقابل العددين المذكورين هذا معقول جدًا. ولقد انفردت عائشة ببعض الآراء الفقهية خالفت فيها جمهور الصحابة، ومن أتى بعدهم، ومن ذلك صلاتها بصلاة الإمام، وهي في بيتها، وهو في المسجد؛ عن عائشة أنها كانت تصلي بصلاة الإمام في بيتها وهو في المسجد ^[17] ، وغير ذلك.

ولما ذكر ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام، قدم عائشة على سائر الصحابة. ولقد جمعت عائشة، رضي الله عنها، بين العلم بالقرآن الكريم والحديث والفقه. أما عن علمها بالقرآن الكريم، فقالت عائشة: "وما نـزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" ^[18] . وسبق أن رأينا كيف كانت تستفسر النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير بعض الآيات.

ولقد كان لها منهج خاص في تفسـير القرآن الكريم "فقد كانت تحرص أن تظهر اتفاق آيات القرآن فيما بينها، واتساقها وانسجـامها، فترد الآيات إلى آيات أخرى، وتفسر القرآن بالقرآن، فقد سألها عروة عن قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3 ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) (النساء:3) ، فقالت: "يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ [ ص: 203 ] يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يُنْكِحُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُـوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّـدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ". قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=127 ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) (النساء:127) ، وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ فِيهَا: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3 ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: "وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى: nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=127 ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) ، يَعْنِي هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِالْقِسْطِ، مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ" ^[19] .

وإلى جانب علم السيدة عائشة بالقرآن فلقد كانت محدثة، فهي تصنف أول راوية في النسـاء الراويات من حيث كثرة الرواية للحـديث. قال الحاكم أبو عبد الله: روى عنها جمع من الصحابة والتابعين، وبلغ ما روي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 2210 حديثًا.

ورأينا أن مروياتها بلغت 2405)، منها 174 حديثًا متفقًا عليها عند الشيخين، وانفرد البخاري منها بـ 54 حديثًا، ومسلم بـ 69 حديثًا، [ ص: 204 ] والباقي في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد، وعدّها ابن حزم في المرتبة الرابعة من بين الصحابة المكثرين للرواية ^[20] .

أخذت علمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، قولًا وعملًا وتقريرًا، وعن أبيها أبي بكر، وعن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة بن عمرو الأسلمي، رضي الله عنهم. وقد روت عن النساء أيضًا، فروت عن سيدة النساء فاطمة الزهراء، وعن جذامة بنت وهب، رضي الله عنهما ^[21] . أما من أخذوا عنها رجالًا ونساءً فهم كثيرون ^[22] . وكان من الآخذين عن عائشة الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها، القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء. ومن النساء من روت عنها مثلًا زينب بنت أبي سلمة المخزومية الصحابية المعروفة، وخيرة أم الحسن البصري، وحفصـة بنت عبد الرحمـن بن أبي بـكر، وصفيـة بنت أبي عبيد، وعائشة بنت أبي طلحـة التيّمية، وعمرة بنت عبد الرحمن، ومعاذة العدوية، وأم كلثوم بنت أبي بكر -أخت عائشة لأبيها- ونهيّة مولاة سيدنا أبي بكر الصديق، وجرة بنت لجاجة، وذفرة بنت غالب، وغيرها كثيرات ^[23] [ ص: 205 ] .

ومن الصحابة الذين عرفوا بروايتهم للحديث وكانوا يترددون عليها لمراجعة محفوظاتهم، أبو هريرة، رضي الله عنه، "فقد كان يأتي إلى مكان قريب من حجرة عائشة، رضي الله عنها، فيحـدث، فعن هشام عن أبيه قال: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، اسْمَعِي يَا رَبَّةَ الْحُجْرَةِ، وَعَائِشَةُ تُصَلِّي... ^[24] حتى يطمئن إلى صحة الحديث عندما تقرّ عليه عائشة المحدثة الفقيهة الحافظة.

كانت عائشة، رضي الله عنها، من كبار علماء الصحابة المجتهدين. قال ابن قيّم الجوزية في إعلام الموقّعين: والذين حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مائة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطـاب، وعـلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعـود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر ^[25] .

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانت عائشة قد اشتغلت بالفتـوى في خـلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلم جراّ، إلى أن مـاتت يرحمها الله ^[26] . ولقـد كانت عائشـة تجتهـد في المسـائل التي لا تجـد لهـا نصًا صريحًا، حتى قال عنها عبد الرحمن بن أبي سلمة: "ما رأيت أحدًا [ ص: 206 ] أعلم بسنن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقـه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نـزلت، ولا فريضة، من عائشة" ^[27] .

طرقت مرويات عائشة معظم أبواب الأحكام إلا قليلًا منها، وإن غلب على مروياتها طابع الأفعال على الأقوال، ولا سيما ما يتعلق بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتية والمعيشية. كما تميزت عائشة في مروياتها بنقل أحكام النساء الخاصة بهن.

وإذا فصلنا أكثر فيمكن القول: إن مروياتها تناولت أحاديث تتعلق بأبواب الإيمان والوحي والعلم والقراءة والتفسير، كما احتوت على أحاديث تتعلق بآداب قضاء الحاجة، وبالوضوء والغسل في يوم الجمعة، وفي الجنابة، وهي كثيرة، وبمسائل في الحيض والاستحاضة، وما يتعلق بجواز مباشرة الرجل الحائض، وقد برعت وفاقت غيرها في هذا المجال.

وكذا أحاديث في التيمم، تتعلق بسبب نـزول آية التيمم -وهي صاحبة القصة- وكذا حوت مروياتها روايات كثيرة جدًا في أبواب الصلاة تتعلق بالأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وبكيفية فرضية الصلوات، وأحاديث في الأذان، وما ورد من الأذكار والأدعية خلالها وفي دبرها، وبالإمامة وفضل الجماعة، وأحاديث في المساجد وآدابها وفضلها، وحضور النساء للمساجد، وأحاديث بخصوص صلاة العيدين والخوف والكسوف، وما يتعلق بالسنن الراتبة والنوافل وقيام الليل، وصلاة التراويح وما ورد في الوتر، وصلاة الجنازة وما يتعلق بها من ثياب الكفن، وأحاديث في إثبات عذاب القبر والتحذير من اتخاذ القبور مساجد، وغير ذلك مما يتعلق بالقبور وأهلها. [ ص: 207 ]

كما تناولت مروياتها أحاديث كثيرة في الصدقة وأجرها، وإنفاق المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وكذا اشتملت على أحاديث كثيرة في الصوم تتعلق بمسائل شتى في تحرّي هلال شعبان لمعرفة هلال رمضان وفي السحور، وفي الصائم الذي يصبح وهو جنب، وتقبيل الصائم، وأحاديث في صيام التطوع وأخرى في الاعتكاف، وفي تحرّي ليلة القدر، وفي قضاء الصيام، وفي النهي عن صوم الوصال، وأيضًا روايات كثيرة جدًا في الحج تتعلق بالتلبية وأنواع الحج الثلاثة، واستعمال الطيب قبل الدخول في الإحرام وقبل طواف الإفاضة وبعد التحلل الأصغر، وبفتل القلائد للهدي، وبعدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمرة عائشة نفسها من التنعيم ونـزول المحصب، وما يتعلق ببناء الكعبة وفضلها. وكذا روايات في الأضاحي وفي الذبائح وبعض ما يتعـلق بهما نحو العقيقة، كما أن لها مرويات في البيوع وما يتعلق بها، وفي العتق والمكاتبة. وتشتمل على أحاديث في باب اللباس والأطعمة والأشربة، والطب فيما يتعلق بعلاج المريض والدواء وبالرقية والدعاء، وبأحاديث في النذور والشهادات، وأيضًا على أحاديث تتعلق بالجهاد والمغازي والإمارة.

وتتضمن مروياتها أيضًا مجموعة من الأحاديث تدور حول النكاح وحسن المعاشرة بين الزوجين، والطلاق وما يتعلق به، وعلى روايات في أبواب الحدود، وأبواب المناقب والسير، وعلى جملة كبيرة من الأحاديث في الآداب المعيشية وحسن المعاشرة وفي البر والصلة، ولعل هذا الجانب من الجوانب البارزة في مروياتها، كما روت أحاديث في الزهد والرقاق وأحاديث في الفتن، وأشراط الساعة، والقدر والخلقة، وما يتعلق بالقيامة، وأحاديث في الاستغفار والدعاء والتوبة، وأحاديث في الفرائض. [ ص: 208 ]

وقد عمدنا إلى هذا العرض لتتجلى لنا فائدة التنوع الذي اتسمت به مرويات عائشة، رضي الله عنها، وخاصة في مجال الأحكام وفائدته في حياة الناس، فهي أساسًا مرويات تنقل لنا الفعل لبيان السنة بغير الاقتداء.. وفضلًا عن تميز مروياتها بالعملية، فهي أيضًا روايات دقيقة تنقل لنا أدق التفاصيل عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله المعيشية والعبادية.

لقد اشتـهر عدد من الصحابة ممن كان يكثر الرواية عن السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها:

- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، وعائشة خالته (روى عنها 1050 حديثًا).

- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعائشة عمته تربى في حجرها (روى عنها 137 حديثًا).

- الأسود بن يزيد النخعي الكوفي أبو عمرو (روى عنها 117 حديثًا).

- عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية. وكانت في حجر عائشة (روت عنها 72 حديثًا).

لم يتوقف إسهام أم المؤمنين عائشة في المجال الفكري فقط، بل أسهمت أيضًا في المجال السياسي، في عهدي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ساد الاستقرار السياسي، ولم تظهر مشاكل سياسية على مستوى القيادة، وكان لموقع عائشة آنذاك أثر في المجال العلمي، الذي سبق وأن أشرنا إليه.

أما في عهد سيدنا عثمان، رضي الله عنه، فلقد بدأت بعض المشاكل السياسية تظهر على مستوى القيادة، وكان لعائشة رأي فيها، لجأت بعض [ ص: 209 ] الأطراف المعارضة إلى عائشة لمطالبة سيدنا عثمان بالعدول عن تصرفاته، فقامت بذلك، ولكن يبدو أن هذه المعارضة لم تهدأ. واستغلت ضد عثمان استغلالًا سيئًا، تقول عنها عائشة: "كان الناس يتجنون على عثمان، رضي الله عنه، ويزرون على عماله، ويأتوننا في المدينة، فيستشيروننا فيما يخبروننا عنه، ويرون حسنًا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك، فنجده بريًا تقيًا وفيًا، ونجدهم فجرة كذبة، يحاولون غير ما يظهرون..." ^[28] .

إن استشارة عائشة في قضايا حساسة دليل على الموقع المهم الذي كانت تحتله في زمانها، على الرغم من أنها لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الوحيدة. ولقد كانت لعائشة، رضي الله عنها، آراء سياسية مخالفة لبعض آراء عثمان، رضي الله عنه، فتخرّجها من بيت أبيها أبي بكر الصديق الذي اشتهر بالعلم بأيام العرب؛ ومن البيت النبوي، الذي عاشت فيه مع زوجها النبي القائد السياسي المحنك، أكسبها مفاتيح خاصة لفهم السياسة ومجرياتها. فالعوامل مجتمعة تجعلها تمتلك وجهات نظر خاصة في الأمور السياسية، من ذلك حينما جاء وفد مصر يشكون أميرهم عبد الله بن أبي سرح وكان أخا عثمان لأمه، عند ذلك أرسلت إليه عائشة: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت أن تعزله، فهذا قد قتل منهم رجلًا، فأنصفهم من عاملك" ^[29] . وحينما سئلت عن خروجها في طلب دمه، قالت: "رأي رأيته حين قتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربة [ ص: 210 ] بالسوط، وموقع المحماة، وإمرة سعيد بن العاص والوليد بن عقبة، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاث الحرام: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام". غير أن مخالفتها لبعض مواقفه أو آرائه لم يمنعها من أن تنكر أسلوب التغيير، الذي اتبعه الثائرون على عثمان لما كانت ناقمة على قتلته. لقد كانت ترى أن التغيير أو المعارضة يكون بأسلوب سلمي^[30] .

ولما قتل عثمان، رضي الله عنه، نصحت بأن يبايع الناس عليًّا، رضي الله عنه. فحسب ما يرويه الأحنف بن قيس: "من تأمريني أن أبايع؟ قالت: عليًا، قال: تأمريني به، وترضينه لي؟ قالت: نعم، فمررت على علي بالمدينة فبايعته، ثم رجعت إلى أهلي بالبصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام" ^[31] . وبعد أن تمت البيعة لعلي، طالبت عائشة وجمهرة الصحابة والتابعين عليًا بأن يقتص من الثائرين، أي قتلة عثمان، وهذا حتى تستريح الأمة منهم، ولا يتعاظم شرهم. "ولقد قامت خطيبة بالناس عند الكعبة المشرفة مطالبة الناس ألا يتهاونوا في ذلك" ^[32] . غير أن عليًا كان يرى التريث بدل الإسراع.

وقد خرجت عائشة، رضي الله عنها، مع طلحة والزبير لمعاقبة قتلة عثمان، وأرادت بذلك الإصلاح، غير أنها كانت مترددة في الخروج، ونصحتها أم سلمة بأن لا تخرج، واستغلّ البعض غضبها ليقحمها بحجة أنها تكون واسطة [ ص: 211 ] للإصلاح. وبالبصرة حدث القتال، والتحق علي، رضي الله عنه، ليصلح الأمر، لكن الثائرين استغلوا الموقف ليشعلوا نار الحرب ليحافظوا على أنفسهم تحسبًا أن الصلح لا يكون في صالحهم. وتوقفت الحرب وسقط القتلى من كلا الطرفين، وتوقفت بعد أن أمر علي بعقر الجمل الذي ركبته عائشة. ندمت عائشة على خروجها إلى هذه المأساة ندمًا شديدًا، فكانت كلما تذكرتها قالت: "والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة" ^[33] .

أما في عهد معاوية، رضي الله عنه، فقد عارضته فيما كانت ترى أنه ليس في صالح المسلمين، على الرغم من إحسانه لها، من ذلك معارضتها لأسلوب العنف والقسوة الذي استخدمه في إبعاد معارضيه كقتله لأخيها محمد بن أبي بكر وحجر بن عدي. فحينما زارها معاوية، رضي الله عنه، لما حج قالت له: آمنت أن أخبئ لك رجلًا يقتلك بأخي محمد؟ قال: ما كنت لتفعلي. وعن حجر: حاولت أن تحول دون قتله، فلم تفلح في ذلك، وحينمـا زارها عاتبته بقولها: "يا معـاوية أين كان حلمـك عن حجر، فقـال: لم يحضرني رشيد" ^[34] . كما أنكرت على معاوية توعده الصحابة والتابعين الذين رفضوا بيعة ابنه يزيد، وحينما زارها قالت له: "بلغني أنك تتهددهم بالقتل، فارفق بهم، فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله، قال: أفعل" ^[35] . [ ص: 212 ]

ونظرًا للمكانة التي تحتلها عائشة فقد أرسل إليها معاوية يستنصحها. أخرج الترمذي: "كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِي اللَّهم عَنْهَا، أَنِ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ، وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ. فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ، رَضِي اللَّه عَنْهَا، إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ. وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ ) ^[36] .

ولم يكن لعائشة، رضي الله عنها، مواقف سياسية فحسب، بل كان لها رأي في أسباب فشل الحرب أيضًا. قالت عائشة يوم الجمل عندما سمعت أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور (ضعف)، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء ^[37] .

إن امرأة اجتمعت فيها هذه القدرات لا بد أن تحدث آثارًا واضحة في تشكيل وسير الحركة الفكرية وصناعة القرارات السياسية وبالضرورة على حركة التغيير الاجتماعي. ولا أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرف عليها لتكون الأنموذج الذي لا يمكن أن يتكرر، بل العكس تمامًا أراد أن يعلمنا كيف نعتني ونحافظ على هذا النوع من النساء؛ لأن النخبة التي تسهر على توجيه الحركة التغييرية الفكرية والاجتمـاعية لا يمكنها أن تستقيم بعنصر الرجال فقط. هذا ما حرص على تنظيمه الرسول، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في الوسط [ ص: 213 ] النخبوي. وغياب مثل هذا الأنموذج في الوسط النخبوي الفكري لابد وأن يخلف فكرًا غير متوازن.

وإذا كان مصير المجتمع مرهون بالجهد والإبداع الذي تبذله النخبة في توجيه مشاكله، فإننا سندرك مدى خطورة غياب أو إزاحة أوتهميش المرأة من الوسط النخبوي وما يترتب عنها من نتائج. ومدى أهمية بعث موقعها في هذا الوسط، وخاصة إذا نظرنا إلى خطورة تقهقر دور النخبة عامة في المجتمع، بغض النظر عن الأسباب التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه. والذي يهمنا في هذا الكتاب هو النتائج التي قد تترتب على غياب أو محاولة تهميش المرأة في هذا الوسط الحساس.

لقد أثمرت جهود المصطفى صلى الله عليه وسلم في إعداد النماذج النخبوية، خاصة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما رأينا سابقًا. غير أن موقع المرأة في الوسط النخبوي في المجتمع أخذ يشهد تراجعًا تدريجيًا بالتوازي مع تراجع الحركة العلمية النسائية، والتي كانت تتمثل في رواية الحديث بعد عصر التابعيات، أي بعد ذهاب تلميذات أمهات المؤمنـين. وهذا التراجع له أسبـابه الخاصة، التي سوف نتعرض لها، بإذن الله في كتاب آخر. [ ص: 214 ]