المطلب الأول: مفهوم تحقيق المناط:
1 - مفهوم تحقيق المناط على المستوى الإفرادي:
1-1 التحقيق:
أ- التعريف المعجمي:
تحقيق: حققت الأمر وأحققته إذا كنت على يقين منه، وحققت حذر الرجل وأحققته: إذا فعلت ما كان يحذره [1] ، أصل الحق المطابقة والموافقة [2] . وأحققت الشيء أي أوجبتـه، واستحققته أي استـوجبته [3] ، وحققت الأمر إذا تحققته وتيقنته أي: وصرت منه على يقين [4] ، ويقال: أحققت الأمر إحقاقا إذا أحكمته وصححته، وحقق قوله وظنه تحقيقا، أي صدق، وكلام محقق، أي رصين، والحقة: حقيقة الأمر [5] . [ ص: 72 ]
يتبين مما سبق أن المعاني المعجمية للتحقيق تدور حول الإحكام والرصانة والموافقة والمطابقة والتيقن والصحة والتصديق، فكأن الفقيه يتيقن من مطابقة وموافقة المناط في الواقع حتى يحكم تنـزيل الحكم "فالحق إذن هو أن تستيقن من الأمر، وتتأكد من أنه كما هو في الواقع" [6] .
ب- التعريف المصطلحي:
لا يحمل مصطلح التحقيق - حسب ما أوصلني إليه البحث - أي دلالة مصطلحية أصولية أو فقهية.
2- 1- المناط:
أ - التعريف المعجمي:
يعتبر المعنى المعجمي الأساس الذي تدور حوله كلمة المناط هو التعليق.
يقـول ابن فارس: "النون والواو والطـاء: أصل صحيح يدل على تعلق شـيء بشـيء، ونطته به: علقته به. والنوط: ما يتعلق به أيضا، والجمع أنواط" [7] .
وقـال ابن منظـور: "ناط الشـيء ينوطـه نوطا: علقه، والنوط: ما علق... وقالوا: هو مني مناط الثريا، أي في البعد، وقيل أي بتلك المنـزلة... ونيط به الشيء أيضا: وصل به... وانتاط أي بعد". [8] [ ص: 73 ]
لذا يقال: هو مني بمناط الثريا: أي شديد البعد، وفلان مناط الثريا: أي شريف عالي المنـزلة. [9]
والمناط: مصـدر ميمي بمعنى اسـم مكان، وعليه يكون المناط هو موضع التعليق.
ب- التعريف المصطلحي:
يمكن تقسيم التعاريف الاصطلاحية للمناط إلى ثلاثة أقسام:
قسم يطلق المناط على العلة، وقسم يطلق المناط على متعلق الحكم، وقسم يرى أن المناط يشمل الأصول الكلية التي ربطت بها الأحكام.
فمن الذين قالوا: إن المناط هو العلة الإمام الغزالي وابن قدامة والشوكاني، قال الغزالي: "اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم: أي ما أضاف الشرع الحكم إليه، ونصبه علامة عليه" [10] قال الشوكاني: "والمناط هو العلة" [11] .
وقال ابن قدامة: "ونعني بالعلة: مناط الحكم". [12]
فهذا القسم لا يفرق بين المناط والعلة.
وأما الفريق الثاني الذي يرى أن المناط يختلف عن العلة ويعتبره متعلق الحكم، فهو جمهور مدرسة الحنفية، قال ابن النجار: "المناط متعلق الحكم" [13] . [ ص: 74 ]
ويتبين من كلام الإمام ابن تيمية اعتباره المناط هو متعلق الحكم؛ ولعل المثال يبين ذلك ويزيده وضوحا؛ فقد ذكر في "مسألة الفأرة في السمن"، أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة، وذلك السمن، ولا بفأر المدينة وسمنها، ولكن سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعـت في سمن، فأجابه صلى الله عليه وسلم ؛ لا أن الجواب يختص به، ولا بسؤاله، كما أجاب غيره؛ ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون هو الذي علق الحكم بها، بل من كلام السائل الذي أخبر بما وقع له ...
فالصواب في هذا ما عليه الأئمة المشهورون: أن الحكم في ذلك معلق بالخبيث، الذي حرمه الله، إذا وقع في السمن ونحوه من المائعات؛ لأن الله أباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فإذا علقنا الحكم بهذا المعنى، كنا قد اتبعنا كتاب الله. [14] وأيضا ما ذكره في درء التعارض: "... فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصـوصا بتلك الأعيان، بل يتناول ما كان مثلها، لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك، الذي به علق الشارع الحكم" [15] . [ ص: 75 ]
والملاحظ أن هناك مدرستين لكل مدرسة منهجها الخاص في تعليل الأحكام، فمدرسة الشافعية ترى أنه بمجرد الاهتداء للوصف تجعله صالحا للعلية، وسرعان ما تعلل به الحكم، وعند هؤلاء لا فرق بين المناط والعلة.
أما مدرسة الحنفية فترى أن مجرد الاهتداء إلى الوصف الذي تعلق به الحكم لا يكفي التعليل به، بل إن هذا الوصف يحتاج إلى نظر وبحث في ذاته، ومن خلاله يمكن التوصل إلى علة الحـكم، فالشافعية يعللون الكفارة في حديث الأعرابي، الذي واقع أهـله في نـهار رمضان بالوقاع نفسه، بينما الحنفية يعتبرون أن هذا مناط الحكم، وهو بحاجة إلى نظر وبحث وتنقية للوصول من خلاله إلى علة الحـكم والاهتداء إليها، وهذا ما يميز مناط الحكم عن باقي الأوصاف المذكورة في الحكم، ومن هنا ينشأ الفرق بين العلة والمناط [16] .
وهناك من لم يشأ التفريق بينها، قال الأستاذ عبد الحكيم السعدي: "ونحن نرى من خلال التدقيق في الطريقتين أنهما واحدة في المآل، فإنهما يعتمدان على إلغاء الفارق من الأصل، وبالتالي فإنه خصوص لا مدخل له في العلية، وعلى حذف الأوصاف التي لا دخل لها في التعليل، اللهم إلا إذا قلنا: بأن تعديه من غير الوقاع إلى الأكل والشرب، فإنهم يرون انتهاك حرمة الشهر موجبة للكفارة" [17] . [ ص: 76 ]
أما الفريق الثالث فهو الذي توسع في دلالة المناط وأعطاه بعدا شموليا يشمل مضمون القاعدة التشريعية أو الفقهية أو معنى الأصل الكلي الذي ربط به حكم كل منها، ليكون عند الشاطبي مطلق الحكم التكليفي الثابت بمدركه الشرعي. [18] . [19]
والآن بعد أن تم بيان كل من الدلالات المعجمية للمركب الإضافي، وكذا الدلالات الاصطلاحية للمناط، أنتقل إلى تحديد الدلالات الاصطلاحية لتحقيق المناط باعتباره مصطلحا مستقلا.
2- مفهوم تحقيق المناط على المستوى التركيبي:
أ- التعريف المعجمي:
تحقيق المناط معجـميا يقصد به "التيقن من كون صورته مطـابقة لما هو عليه في الواقع، وتعيينه حتى يطابق صورته" [20] .
ب- التعريف المصطلحي [21] :
عرف مصطلح تحقيق المناط تطورا ملحوظا في الفكر الأصولي، فكان يطلق ويراد به "تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع" [22] أو "النظر في معرفة [ ص: 77 ] وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها وسواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط" [23] ، فتحقيق المناط في هذه المرحلة من الفكر الأصولي كان يمثل "أسلوبا إجرائيا لتعدية الحكم المعلل إلى صور تثبت فيها علة ذلك الحكم" [24] .
ثم عرف المصطلح نوعا من النضج فغدا يطلق على بيان "وجود الحكم الكلي المأخوذ به أو المنهـي عنه، والمعنى الذي تضمنـه المأمور به أو المنهي عنه في آحاد الصور" [25] .
وبعد ذلك عرف المصطلح طفرة مفهومية على يد إمامين جليلين، أولهما الإمام ابن تيمية الذي أعطى لهذا المصطلح بعدا تنـزيليا أكثر منه بعدا استنباطيا [26] ، بل إن الإمام أعاد تحقيق المناط إلى قياسي التمثيل والشمول، فقال: "وحقيقة ذلك ترجع إلى تمثيل الشيء بنظيره، وإدراج الجزئي تحت الكلي، وذلك يسمى قياس التمثيل، وهذا يسمى قياس الشمول، وهما متلازمان" [27] ، فعرفه بقوله: " وهو - أي تحقيق المناط - أن [ ص: 78 ] ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي، فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام" [28] ؛ كما عرفه بأن "يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان" [29] .. وفي السياق نفسه يعرفه الإمام الشاطبي بقوله: "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله" [30] [31] ..
ومن أمثلته: أمر الله بإشهاد ذوي عدل منا، وممن نرضى من الشهداء، ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد، فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا؟ [32]
وكما حرم الله الخمـر، يبقى الـكلام في الشراب المعين: هل هو خمر أم لا؟ [33]
- ضمائم (تحقيق المناط) عند الإمام ابن تيمية:
إذا كان الإمام ابن تيمية قد شكل طفرة لمفهوم تحقيق المناط، فإنه تفرد بطفرة أكثر عمقا وهي تحديد مفهوم التأويل، حيث أرجعه إلى أصله القرآني [ ص: 79 ] معتمـدا منهج الترتيل الذي مكنه من حسم الخلاف الكلامي برد المفهوم إلى وسطـه القرآني الطبيعي، ورصـد تحركه خـلالـه، بـدون عوج ولا أمت [34] ، لذلك ستـتم مناقشة هذا المفهـوم عند الإمام ابن تيمية بنوع من التفصيل:
التأويل: مطابقة بين معاني الوحي وأعيان الوجود وعلاقاته:
هذا المعنى من بين معاني التأويل لم يلق اهتماما من اللغويين والأصوليين على أهميته وشيوع استخدامه في القرآن. فقد ورد التأويل في سورة الكهف: ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) (الكهف:78) ، وفي سورة يوسف: ( وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) (يوسف:100) ، وفي سورة الأعراف: ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) (الأعراف:53) وغيرها من سور القرآن، وهو في هذه الآيات لا يقصد به صرف اللفظ القرآني عن المعنى الحقيقي في اللغة إلى معنى مجازي، وإنما يقصد به ربط الوصف القرآني بالأعيان الظاهرة في الوجود، أو بالعلاقات بينها. فتأويل الرؤيا هو مآلها وتحققها في الوجود [35] . ومع وضوح هذا المعنى في القرآن إلا أن الجدال في كتب التراث قد احتدم وتطاول حول إشكال مفهوم التأويل بمعناه الكلامي، [ ص: 80 ] نظرا لاتباع مجموعة من الطوائف المتشابه، ذلك أن اتباعه - قولا وعملا -يؤدي إلى الفتنة بين الناس وممارسة الاعتقادات الفاسدة [36] .
وقد وضع الإمام ابن تيمية رسالة "الإكليل في المتشابه والتأويل" ليجيب عن هذا الإشكال، ويمكن إيجاز كلامه فيما يأتي:
1- إن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. والمتأول عليه وظيفتان: أولهما: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو قال بعضهم آيات الصفات لا تؤول ..
2- التأويل في لفظ السلف، وله معنيان:
أ- استعمال التأويل على نحو ترادفي أو تقاربي مع مصطلح التفسير، ومن هذا قول ابن جرير الطبري في تفسيره: "القول في تأويل قوله كذا وكذا ومراده من التفسير".
ب- أنه هو المراد بالكلام نفسه، فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله الفعل المطلوب ذاته، وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به.
ثم يختم القول معلقا: [ ص: 81 ]
3- وبين هذا المعنى والذي قبله بون، فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي، وأما هذا التأويل فهو نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلية، فإذا قيل طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام هو الحقائق في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام أو إخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب.
فالإمام ابن تيمية له فضل السبق في إبراز مفهوم التأويل القرآني. [37]
فالتأويل بالمفهوم القرآني هو انطباق الوصف على الموصوف، ومن هنا عبر الإمام ابن تيمية عن تحقيق المناط بالتأويل، قال: "وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ، فهذا قد يكون ظاهرا، وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد، وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه" [38] .
إن تحقيق المناط هو روح فقه التنـزيل، به يكون الوصل، وعنده ينظر في النص وينظر في الواقع، ويفعل العقل، فأنعم بهم لحظا دقيقا لابن تيمية أن اعتبره تأويلا [39] . [ ص: 82 ]