المطلب الثاني: الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط: [1]
اعتبر الإمام ابن تيمية تنقيح المناط وتخريجه وتحقيقه جماع الاجتهاد [2] ، فما هي الفروق الجوهرية بينها؟ خصوصا أن مصطلح "المناط" ارتبط ارتباطا كبيرا بهذه المصطلحات الثلاثة عند الأصوليين.
ولاستخراج الفروق لا بد من تعريف كل من تنقيح وتخريج المناط حتى تتم المقارنة بينه وبين تحقيق المناط الذي سبق تعريفه.
1- تنقيح المناط:
أ- التعريف المعجمي:
التنقيح: من نقح ينقح أي قشر. ونقح النخل: أصلحه وقشره، وتنقيح الشعر: تهذيبه، ونقح الكلام: فتشه وهذبه وأحسن النظر فيه، وقيل: أصلحه وأزال عيوبه، ونقح العظم ينقحه نقحا وانتقحه: استخرج مخه [3] .
فالدلالات المعجمية للتنقيح تدور حول التقشير والتهذيب والتفتيش وإحسان النظر، والاستخراج، وإزالة العيوب. [ ص: 83 ]
فكأن المجتهد يحسن النظر في الحكم فيستخرج المناطات الموجودة فيهذبها ويحسن النظر فيها ليزيل المناطات غير المقصودة.
المناط: تقدم أن المناط هو موضع التعليق.
ب- التعريف المصطلحي:
يعرفه الإمام ابن تيمية بقوله: "وهو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في معين، وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه" [4] . وعرفه في موضع آخر: "هو أن ينص على حكم أعيان معينة لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها" [5] .
وجاء في المسودة: "... وهو أن ينص الشارع على الحكم عقيب أوصاف جرت، فيها ما يصلح للتعليل وما لا يصلح، فينقح المجتهد الصالح ويلغي ما سواه" [6] . [ ص: 84 ]
ومن أمثلته قول الأعرابي للنبي، صلى الله عليه وسلم : ( إني وقعت على أهلي في رمضان "فأمره أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا )
فإن الحكم ليس مخصوصا بذلك الأعرابي باتفاق المسلمين، لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر، أو جامع في رمضان، أو أفطر فيه بالجماع، أو أفطر بالجنس الأعلى؟
مثال(2): وكذلك لما سأله صلى الله عليه وسلم سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة، وهو متضمخ بالخلوق، فقال: ( انزع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجتك ) [7] .
فهل أمره بغسل الخلوق لكونه طيبا، حتى يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه، أو لكونه خلوقا لرجل؟ وقد نهى أن يتزعفر الرجل، فينهى عن الخلوق للرجل سواء كان محرما أو غير محرم [8] .
فتنقيح المناط هو تشذيب المناط الأصلي وتهذيبه حتى يتم التفريق بينه وبين الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية.
2- تخريج المناط:
أ - التعريف المعجمي:
التخريج: من خرج يخرج، يقال عام فيه تخريج: خصب وجدب... وتخريج الراعية المرعى: أن تأكل بعضا وتترك بعضا [9] . وأرض خرجاء: فيها تخريج، وعام فيه تخريج إذا أنبت بعض المواضع ولم ينبت بعض... وقال [ ص: 85 ] بعضهم: تخريج الأرض: أن يكون نبتها في مكان دون مكان فترى بياض الأرض في خضرة النبات. [10]
والمناط معجميا هو موضع التعليق.
ب- التعريف المصطلحي:
يقول الإمام ابن تيمية: "وأما تخريج المناط وهو: القياس المحض، وهو أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها، إما لانتفاء الفارق، أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم في الأصل" [11] .
فهو إضافة حكم لم يتعرض الشرع لعلته إلى وصف يناسب في نظر المجتهد بالسـبر والتقسيم، ومعناه: أنا إذا رأينا الشـارع قد نص على حكم ولم يتعرض لعلته، قلنا: هذا الحكم حادث لا بد له بحق الأصل من سبب حادث، فيجتهد المجتهد في استخراج ذلك السبب من محل الحكم، فإذا ظفر بوصف مناسب له ولم يجد غيره غلب على ظنه أن ذلك الوصف هو سبب الحكم.
مثال: أن يقال: حرم الربا في البر؛ لأنه مكيل جنس أو مطعوم جنس، فالأرز مثله، لأنه كذلك، أو يقال: وجب العشر في زكاة البر لكونها قوتا فتلحق الأقوات، أو لكونه نبات الأرض وفائدتها فتلحق به الخضروات وأنواع النبات. [12] [ ص: 86 ]
بعد هذا العرض السريع للتعاريف المعجمية والاصطلاحية للمفاهيم الثلاثة يتبين أن الخلاف يقع في التعامل مع المناط، ففي عملية تنقيح المناط وكذا تخريجه يكون التعامل مع المناط على مستوى الفهم، فالعلة في الأول منصوصة لكن تشوبها شوائب تتمثل في الأوصاف غير المؤثرة مما يستلزم إزالتها، والعلة في الثاني غير مذكورة مما يتطلب استنباطها، وهذه كلها عمليات تندرج ضمن فهم النص.
أما تحقيق المناط فيندرج ضمن عملية التنـزيل، فالعلة تكون معروفة نصا أو استنباطا، لكن يبقى النظر في تحقق ووجود مناط الحكم في المحل.