11- الوصل لفظا.. الفصل معنى:
ومن مظاهر الانسجام أيضا الوصل لفظا الفصل معنى:
هذا باب جليل عقد له بدر الدين الزركشي فصلا ضمن علم المناسبات، سماه: "فصل في اتصال اللفظ، والمعنى على خلافه" [1] ، ووضع له جلال الدين السيوطي بابا في أنواع علوم القرآن الكريم، وسماه "بيان الموصول لفظا المفصول معـنى" [2] ، وعده نوعا مهما وأصلا كبيرا في الوقف، جديرا بأن يفرد بالتصنيف، وبه يحصل حل إشكالات وكشف معضلات كثيرة [3] .
فمن ذلك أنه قد تأتي الكلمة إلى جانب كلمة أخرى كأنها معها، وهي غير متصلة بها، ومن لم ينعم النظر حسب جزأي الكلام متصلين لفظا ومعنى، لشدة الانسجام بينهما. ومن ذلك في كتاب الله: ( قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ) (يوسف:51)، هذا من كلام امرأة العزيز، ثم أتى بعده كلام يوسف: [ ص: 74 ] ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) (يوسف:52)، ومثله: ( قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) ، هذا منتهى قول ملكة سبأ، فقال الله تعالى: ( وكذلك يفعلون ) (النمل:34) [4] ، ولا يجـوز معـنى أن يوصـل الآخر بالأول على أن يجعل من كلام متكلم واحد. ومثله: قوله تعالى: ( قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ) (يس:52)، هنا ينتهي قول الكفار، ويبدأ قول أهل الهدى: ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) (يس:52). وأخرج ابن أبـي حاتـم عن قتادة [5] في هذه الآية قال: آية من كتاب الله أولها أهـل الضـلالة وآخرهـا أهل الهدى: ( قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ) هـذا قول أهل النفاق، وقال أهل الهدى حين بعثوا من قبورهم: ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) (يس:52).
فتبين من الآيات السابقة أن الموصول لفظا المفصول معنى: "هو مجيء الآية أو الآيات في السورة الواحدة على نظم واحد في اللفظ، يوهم اتصال المعنى" [6] ، والمقصود بالاتصال اللفظي تجاور الألفاظ. [ ص: 75 ]
وهكذا، فإن الحديث عن مظاهر انسجام النص القرآني وتماسك أجزائه، يثبت أن الوحدة المعنوية -وحدة المعنى وكلية القضية- تؤثر في إحكام الوحدة البيانية الفنية، وذلك بالتقريب بين المؤلفات، حتى تتماسك وتتعانق [7] . وعليه فإن الكلام في الموضوع الواحد إذا ساء نظمه انحلت وحدة معناه فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعا، وانفصل ما كان متصلا... فالتأليف بين الأجزاء حتى تتعالق وتتعانق مطلب كبير يستلزم مهارة وحذقا ولطف حس في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء، أيها أحق أن يجعل أصلا أو تكميـلا، وأيها أحـق أن يبدأ به أو يختم أو يتبوأ موقعا وسطا؟ ثم يحتـاج مثل ذلك في اختيار أحسن الطرق لمزجها: بالإسناد أو بالتعليق أو بالعطف أو بغيرها؟ هذا كله بعد التلطف في اختيار تلك الأجزاء أنفسها، والاطمئنان على صلة كل منها بروح المعنى وأنها نقية من الحشو قليلة الاستطراد وأن أطرافها وأوساطها تستوي في تراميها إلى الغرض [8] .
تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالا طبيعيا، فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق... يتطلبه التأليف بين أمزجتها المختلفة المتفاوتة، ليصير لها مزاج واحد واتجاه واحد، وليلزم عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى. [ ص: 76 ]
"هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحـد. فكيف لو قـد جيء بها في ظروف مختـلفة وأزمان متطاولة؟ ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعا، والهوة بينها أعظم اتساعا؟
فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه، حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر إلى السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز.
ألسـت تعـلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطـالة والتزام جانب الإيجاز بقـدر ما يتسع له جمـال اللغة قد جعله هو أكثر الكلام افتنانا، نعـني أكثره تناولا لشؤون القول وأسرعه تنقلا بينها، من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون؟
أو لست تعلم أن القرآن - في جل أمره- ما كان ينـزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنـزل بها آحادا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها؛ والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطبيعته مستتبعا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعا للتواصل والترابط؟ [ ص: 77 ]
ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟" [9] .
لقد كانت الآيات تنـزل مفرقة على حسب الدواعي وأسباب النزول المتجددة، فكان الانفصال الزماني بينها واختلاف أسباب نزولها يفترض معه انفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منـزعا للترابط. فالنص القرآني مهما تتعدد قضاياه فهو كلام واحد يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره ويترامى بجملته إلى غرض واحد.
وإن ما امتاز به النص القرآني من إيجاز في الأسلوب، جعله أكثر تناولا لشؤون القول وأسرعه تنقلا بينها، من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد تنطوي تحته شؤون.
وهكذا فإن وراء إحكام البنيان القرآني وتماسكه تدبيرا محكما وتقديرا مبرما؛ كان قد أعد لهذه المواد المتفرقة نظامها، ووجهها في مرحلة تشتتها نحو وجهتها البنائية الأخيرة التي استقرت عليها في النص القرآني، حتى صيغ منها عقد القرآن النظيم. [ ص: 78 ]