سادسا: القيم المتعلقة بالمرأة
احتلت المرأة مكانتها المميزة في الإسلام بما يتناسب مع تكريمها الإنساني أولا، بوصفها الإنسان الذي كرمه الله تعالى، فقال سبحانه: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر (الإسراء:70) ، وثانيا بوصفها ذلك النصف الجميل في المجتمع، الذي يمنح الحياة رونقا وبهاء مميزين، فوق ما تقوم به من دور هائل في تربية النشء، التربية التي تصنع من الأبناء رجالا ومن البنات أمهاتا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" [1] .
ولم يغفل النبي صلى الله عليه وسلم - حاشاه - عن إبداء اهتمامه بالمرأة حتى وإن كانت أمة سوداء، فقد كانت أمة سوداء تخدم في المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عنها، فقالوا: ماتت، قال: "أفلا كنتم آذنتموني" فكأنما صغروا من أمرها وهونوه، فقال صلى الله عليه وسلم : "دلوني على قبرها" فدلوه، فصلى عليها [2] .
وقيل: إن حليمة السعدية مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم وردت عليه يوم خيبر، فقام إليها، ثم بسط لها رداءه فجلست عليه [3] ، تعبيرا عن مبلغ اهتمامه بشأنها.. فالمرأة كيان حظي بالرعاية والاهتمام اللائقين بها فيما سنه النبي صلى الله عليه وسلم من قواعد تعامل معها. [ ص: 106 ]
1- اشتراك النساء في معركة خيبر:
قالت أم سنان، رضي الله عنها: لـما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر جئته فقلت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا، أعد الماء للسقاء، وأداوي المرضى والجرحى، إن كانت هنـاك جـراح، وأحرس الرحـل، فأذن لها النـبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اخرجي على بركة الله، فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك وإن شئت فمعنا"، قلت: معك! قال: "فكوني مع أم سلمة زوجتي" [4] ، فقد كانت أمية بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية قد سبقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضت عليه الأمر نفسه، فقال أيضا: "على بركة الله"، فخرجت معه عشرون امرأة [5] .
وفعلا ظهرت الحاجة إليهن هناك، فقد وقعت إصابات كثيرة بين المسلمين في اليوم الأول من القتال، إذ أصيـب خمسـون من المسـلمين بما كان يرميه اليهود من سهام من فوق حصونـهم، فـكانت النسـاء تداوي الجرحى ويقمن على أمرهم [6] .
وكانت أمية بنت قيس الغفارية قد خرجت مع المسلمين في غزوتهم هذه وكانت حديثة السن، فأركبها النبي صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فلما أصبح الصباح تبين أنـها قـد حـاضت، وكانت حيضتـها الأولى، فاستحيت وانقبضت، فطيب [ ص: 107 ] النبي صلى الله عليه وسلم خاطرها وخفف عنها، ونصحها بأشياء تفعلها لتطهر ولا تصيبها أية مضـاعفات وبـما يزيل الأثر، الذي أصاب حقائبه [7] ، من دون إظهار امتعاض أو استياء بل عامل المرأة بروح سمحة وبرحابة صدر.
وتشير هذه الشواهد إلى احترام المرأة وعدم الاستهانة بها أو بشأنها، واحترام رغبتها، والتعامل معها بجدية من دون استخفاف أو استهانة، ولاسيما أن الأمر يتعلق بالحرب، التي هي من شأن الرجال وحدهم أصلا. كما دلت هذه الشواهد على اللطف في التعامل مع المرأة، ومراعاة تكوينها الخاص.
2- زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية:
كيف آلت صفية بنت حيي بن أخطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ابتداء، فإن صفية سـبيت عند فتح حصن النزار، من حصون الشق، وقبل التوجه إلى الكتيبة [8] ، وإن كان ابن هشام قد أشار إلى أنها سبيت من حصن القموص من حصون الكتيبة [9] ، ولكن الراجح أنها سبيت قبل ذلك؛ لأن حصون الكتيبة استسلمت من دون قتال ولم يسـب أحد من نسـائها، بل وقع السـبي في حصـن النزار، الذي فتح عنوة.
فماذا جرى بعد ذلك؟ اختلفت الروايات اختلافا حادا في الأمر؛ فأشارت مصادر عديدة إلى أنها آلت أولا إلى دحية الكلبي رضي الله عنه بأحد طريقين؛ فأشارت بعض المصادر إشارة عامة من دون تحديد الكيفية التي آلت بها إلى دحية بقولهم: [ ص: 108 ] "فصارت إلى دحية الكلبي" [10] ، في حين أفادت مصادر أخرى أن دحية الكلبي سـأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يهبه صفية بعد أن رآها، فوهبها له [11] ، أو أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يهبه جـارية من السبي، فأذن له أن يأخذ من يشاء فأخذ صفية [12] . أما القول الآخر فيشير إلى أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي [13] .
ثم إن بعض الصحابة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كانت عليه صفية في كونها بنت حيي ابن أخطب، سيد قريظة والنضير، ولا تصلح إلا له، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم دحية ومعه صفية، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم استعادها منه، ولكن كيف؟ في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "خذ جارية من السبي غيرها" [14] ، وفي قول آخر أنه أعطاه بدلا عنها ابنة عمها [15] ، وفي قول ثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراها منه بتسعة أرؤس [16] أو بسبعة [17] .
أما القـول الآخر فـيرى أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية لنفسه بموجب حق [ ص: 109 ] النبي صلى الله عليه وسلم في أن يصطفي لنفسه من كل غنيمة شيئا ما [18] ، إذ إنه لما وقع نساء اليهود وذراريهم في حصن النزار في السبي، وفي أثناء نقلهم إلى المعسكر أمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه؛ فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه [19] ، وقيل أيضا: إنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم جمال صفية وحسنها، فاصطفاها لنفسه [20] .
أما بالنسبة للقول الذي يرى أن دحية سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يهبها له هي بعينها أو أن يهبه جارية ما فاختارها هو من بين السبايا، فربما تقاطع هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لأحد المسلمين وقد طلب أن ينفله شيئا من الغنيمة، إنه لا يحل له من الغنيمة شيء قبل قسمته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وهب امرأة من بيته عقدا من الغنيمة، إن صحت الرواية، تذكر ذلك، فلم ينم ليلته حتى شق الفجر نوره فسارع إليها لاسترداد العقد، إلا أنها كانت قد قسمته في الفقراء والمحتاجين؛ وعليه، ليس من المتوقع أن يخص دحيـة الكلبي بشيء من الغنيمـة قبل قسمتـها، مع أن ذلك لا يمنع - في الحقيقة - من أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لاستثناءات قد يراها ضرورية، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء توزيع غنائم معركة حنين.
وللتوفيق بين هذه الآراء أرى أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي، فكلمه بعض الصحابة في شأنها، وقد أدركوا أنه لا ينبغي معاملتها كواحدة من عامة [ ص: 110 ] السبايا بل لا بد من مراعاة خصوصيتها، فاستدعاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعها دحية الكلبي، فوجدها كذلك، فاسترضى دحية، ثم بعد ذلك اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه.
كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة صفية؟
هنا تـجلت القيم النبيلة والخلق الرفيع في التعامل، وفي ظرف بالغ الدقة والحساسية بالنسبة لفتاة كانت في مقتبل العمر تستشعر حالها من جمال ومكانة وأهمية، وجدت نفسها على غير ما تتمنى تماما، فهي في ذل العبودية ومهانتها، تحولت في ساعة من الزمن من أميرة وسيدة قومها إلى درك الذل والهوان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك حقيقة هذا التحول وما يعتلج في نفسها من تداعيات وألم ومرارة، فوهبها الحرية التامة المطلقة بأن خيرها؛ خاطبها بقوله: "... إن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقين بقومك"، فكان القرار لها والاختيار لها من دون إكراه ولا تعسف ولا إحراج، فقالت: ما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، فاختـارت الله ورسـوله [21] ، فاعتـقها النـبي صلى الله عليه وسلم وتـزوجـها، وجـعل عتقها صداقها [22] .
كان بوسعها أن تختار قومها لتعود إليهم، وكل سادة خيبر سيكونون لها أبا وأخا، وكل واحد من هؤلاء سيتمنى الزواج منها لمكانتها وما كانت عليه من جمال؛ إلا أنها اختارت الإسلام واختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجا لها بملء إرادتها، فقد كانت على استعداد كامل لاعتناق الإسلام [23] ، فربما تداعى في ذهنها في [ ص: 111 ] تلك اللحظة أمران مهمان؛ الأول تلك المحاورة التي سمعتها وما زالت صبية لكنها تعي وتفهم، المحاورة التي دارت بين أبيها وعمها أبو ياسر بن أخطب، وقد عادا من قباء بعد أن شاركا في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم بعـد خـروجـه من مـكة مهاجـرا إلى المدينة، إذ دفعهما الاهتـمام إلى حضـور ذلك الاستـقبال، محاورة روتها السيدة صفية بنفسها، وجاء فيها، قال أبو ياسر لأخيه حيي: أهو هو؟ قال: نعم، والله؛ قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته، والله ما بقيت [24] .
فها هي تستمع إلى الحقيقة الصريحة والواضحة التي لا لبس فيها ومفادها أن محمدا نبي هذا الزمان، ولكن ما بوسعها أن تفعل وهي صبية صغيرة ولا تفقه جيدا حقيقة هذه الأمور!
كما تداعى في داخلها في تلك اللحظة أيضا تلك الرؤيا، التي رأتها في ليلة عرسها، ومفادها أن قمرا أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجرها، فلما قصت الرؤيا على عريسها كنانة لطمها على وجهها حتى اخضر ما حول عينيها [25] ، وكأنه أدرك ما تـعنيه تلك الرؤيـا.. والآن الرؤيا تجد تفسـيرها في الواقع فعلا، فلم تتمالك نفسـها من أن توافق تلك التحـولات لتخـتار أفضـل ما فيها، الحرية التامة، والزواج من نبي صادق، فكان ذاك.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كريما في منتهى الكرم لـما عرض عليها الاختيار بينه وبين [ ص: 112 ] قومها [26] ، كان من الممكن أن تساق إلى بيته سبية وأمة وجارية، لتذوق الذل والهوان، ألم يكن أبوها حيي بن أخطب أكثر اليهود عداوة له، وكاد للنبي وللمسلمين الدسائس والمؤامرات، التي استهدفت حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودولة المسلمين؟ لكنه لم يكن من خلق النبي صلى الله عليه وسلم الإذلال والتشفي، بل لقد عاملها بأرفع درجات الذوق والاحترام والتقدير، التي تليق بسيدة مبجلة. فقد عاملها صلى الله عليه وسلم على أفضل ما يكون من رقي وذائقـة ولطـف ومراعـاة ولاسيما أنه وجدها راغبة فيه حقا، فقد سألها: "هل لك أي رغبة في"؟ قالت: يا نبي الله! كنت أتمنى ذلك في الشرك، فـكيف إذ مـكنني الله منك في الإسلام؟ [27] .. وتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إلي، قتل زوجي وأبي، فما زال يعتـذر ويقول: "إن أباك ألب علي العرب، وفعل، وفعل"، حتى ذهب ذلك من نفسي [28] .. وهكذا، ما زال يلاطفـها ويـحـسن إليـها في المعـامـلـة حـتى وجـدت فيه ما تقر به عينها.
ومن جميل معاملته لها أنها لما أرادت أن تركب راحلتها أدنى فخذه منها لتركب عليها، فأبت أن تضع قدمها على فخذه، فوضعت ركبتها، ثم حملها [29] . وكان يحوي لها رداءه بعباءة أو كساء ليحفظها من أن تسقط [30] . وتقول السيدة [ ص: 113 ] صفية: ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت معه على بعيره، فربما أنعس، فيضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسني بيده ويقول: يا هذه، مهلا يا بنت حيي، فينبهها برفق [31] .
وفي طريق العودة بين خيبر والمدينة أعرس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة صفية في منطقة تـدعى الصـهباء [32] حيث دخل عليها [33] . وقيـل: إنها حلت - أي طهرت - في الروحاء [34] فأعرس بها، إلا أن القول الأول أصوب [35] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرادها قبل هذا المكان فامتنـعت عليه فوجـد في نفسـه عليها، فلما أعرس بها في الصهباء سألها عن امتناعها أولا؟ قالت: يا رسول الله، خشيت عليك قرب اليهود، فوقع ذلك منه موقعا حسنا [36] .
وهنا تتجلى أيضا قيمة سلوكية أخرى عبرت عن رقي سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وذائقته ولطفه، إذ أرادهـا فامتنـعـت، فـلـم يغصبـها على أن يأتيـها بـل راعـى أنها كانت غير راغبة في الأمر، جاعلا الأمر إليها، فالمرأة إذا أجبرت على المعاشرة ولم تكن راغبة جرى الأمر على غير الذائقة الإنسانية السليمة، أما إذا كانت [ ص: 114 ] راغبة في الأمر فسيجري الحال أفضل ما يراه الذوق الإنساني السليم.
وتولت أم سليم - إحدى الصحابيات وهي أم أنس بن مالك - تجميل صفية وإعدادها العداد اللائق بها كعروس. فمما لا ريب فيه أن الحال، التي كانت عليها في حينه تتناسب مع ظروف الحرب والقتال من ارتباك وعدم اهتمام بالمظهر، ومن ثم فإن إعـدادها وتـجميلها يعـكس الاهتـمام بقيمتـها الإنسانية اللائقة بـها، كما يعكس الذائقة الحضارية، فليس الأمر قضاء شهوة فحسب، بل هو ممارسة إنسانية تميز الإنسان من الحيوان في تعاطيه مع المعاشرة الزوجية، واستكمالا لذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة وليمة عرسه، فكانت من الحيس [37] ، الذي يعمل من التمر والأقط - اللبن المجفف - والسمن [38] . فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنزلها في بيت لحارثة بن النعمان [39] ، حتى تخصص لها حجرتها في بيت النبوة.
وربما وقع بينها وبين بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما يقع بين الضرائر، فيفخرن عليها يقلن لها: يا بنت اليهودي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلطف بها ويكرمها، فدخـل عليها يوما وهي تبكي، فسأل عما يبكيها، فأخبرته بالأمر، فغضب رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها: "إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هارون، وعمي موسى" [40] .
وبعد، فما الذي قيل في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية؟ [ ص: 115 ]
إذا كان بعض قدامى المستشرقين قد تكلموا عن الأمر من جانب قضاء الشهوة، فإنما ذلك لمواقفهم المناهضة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يناسب مجمل تصوراتهم عن الإسلام، لكن أن يتعرض كاتب مسلم للأمر بمقاصد سيئة فهذا مما يشين كثيرا؛ فقد تناول "سيد محمود القمني" زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية بطريقة غامضة ربط فيها بين قتل كنانة بن الربيع زوج صفية وبين اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم لها مع الإشارة لجمالها المميز. ومع أنه صرح أن الربط بهذه الطريقة بين الأمور الثلاثة لا يتبادر إلا إلى ذهن من يكيد للإسلام، ولا سيما أن الرواة - بحسب قوله - أشاروا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرف إلى جمال صفية إلا بعد قتل زوجها [41] ، إلا أنه ساق الأمر بطريقة تدفع القارئ إلى ضرورة الربط بين اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم لصفية وقتل زوجها إعجابا بجمالها، وتدفع القارئ إلى استنتاج ما أنكره هو.
فلننظر ماذا قال غير المسلمين من المنصفين عن هذا الزواج وعن النبي صلى الله عليه وسلم . يقول "توماس كارليل": "وما كان محمد أخا شهوات - برغم ما اتهم به ظلما وعدوانا - وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلا شهويا، لا هم له إلا قضاء مآربه في الملاذ، كلا! فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيا كانت" [42] .
وقال "إسرائيل ولفنسون": "ولقد اقتفى النبي بعمله هذا أثر الفاتحين العظماء، حيث كانوا يتزوجون من بنات عظماء الممالك التي كانوا يفتحونها، ليخففوا من مصابهم ويحفظوا من كرامتهم" [43] . [ ص: 116 ]
ويقول "نبيل لوقا بباوي": "لو كان هدف الرسول صلى الله عليه وسلم هو الشهوة الجنسية - كما يدعي المفترون والمستشرقون - لكان الرسول استعرض الأسيرات في طابور وأخذ لنفسه أجملهن، كما كان يفعل الرومان مع الأسيرات" [44] . ولقد لاحظنا أن الرواة أشاروا إلى جمال زوجة أحد اليهود وإلى حسنها، وقد سلمها المسلمون له بعد أن أدلى بمعلومات مهمة عن حصون اليهود، فوفى له النبي صلى الله عليه وسلم بما وعده، كان من الممكن قتل ذلك اليهودي بذريعة أن لا أمان لمن خان قومه، ثم تسبى زوجته الحسناء، إلا أن ذلك لم يحصل، كما تقدم ذكره.
ويقول "نظمي لوقا": "ولكن الجمال لم يكن هو الدافع إلى ذلك الزواج، وما نظن إلا أن سواها من السبايا كن في مثل جمالها أو يدانيه، وهن بنات عمومتها وخؤولتها اليهوديات، فما باله لم يدخل في حريمه بملك اليمين زهرات مؤنقة من ذلك الحسن المباح بشريعة الحرب لكل محارب منتصر" [45] . لقد كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم "جبر خاطر كسر" [46] .
وعليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن عفة ظاهرة لكل مستبصر منصف.
ويقول "نظمي لوقا" أيضا: "بنت ملك، وزوجة ملك، ينتهي نسبها العريق إلى هارون أخي موسى، وزوجها أحد ملوك خيبر... وشريعة الحرب التي لا ترحم والتي ويل فيها للمغلوب من الغالب، سقط صناديد خيبر صرعى بعد أن سقطت قلاعهم، وسقطت نساؤهم سبايا بين الغالبين، زال ملكها، وضاعت حريتها، وفنى أهلها أجمعون، من الزوج إلى الشقيق إلى بني العمومة الأقربين... وانتهت في [ ص: 117 ] ساعة من الزمن إلى ذل الأسر المهين" [47] ، ألم تكن بحاجة إلى من يرفع شأنها ويعيد لها قدرها ومكانتها المرموقة في المجتمع؟ هنا برهن النبي صلى الله عليه وسلم - بهذا الزواج - على قدرته على تجاوز كل ما خلفته أيام الصراع مع اليهود من مرارة وألم في نفسه "حين جعل من ابنة ألد خصومه زوجة له، ورفعها إلى مصاف أمهات المؤمنين، معبرا عن سماحة الإسلام الحقيقية والصادقة" [48] ، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن تذل هذه السيدة الشريفة في قومها بالرق والعبودية [49] . ويبدو أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألف اليهود بهذا الزواج ويخفف عليهم وقع الهزايم [50] . وقد يكون في هذا الزواج مصلحة للدعوة، بأن ينفي بهذه المصاهرة عداوة يهود خيبر ويضمن عدم انضمامهم لكفار مكة، التي لم تكن قد فتحت بعد [51] .
3- التعامل مع السبايا:
ولما كان لا بد للحرب من أن يقع فيها سبايا، لذا توجب ملاحظة هذا الأمر وتوجيه المسلمين الوجهة الصحيحة في التعامل معهن، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن "إتيان الحبالى من السبايا" [52] ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره، ومن كان يؤمن بالله [ ص: 118 ] واليـوم الآخـر فلا يـقعـن على امـرأة من السـبي حتـى يسـتبرئها" [53] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مر على امرأة من السبي حاملا في أواخر أيام حملها، فقال: "لمن هذه"؟ فقيل: لفلان، فقال: "فلعله يطؤها"؟ قالوا: نعم، قال: "كيف بولدها يرثه وليس بابنه، أو يسترقه وهو يعدو في سمعه وبصره؟ لقد هممت أن ألعنه لعنة تتبعه في قبره" [54] .
إذ إن الأمر يحتاج إلى مراعاة جوانب إنسانية وذوقية في التعامل مع السبايا، فليس الأمر إشباع شهوة فحسب، ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ففي تعامله مع صفية، رضي الله عنها، ضرب مثلا رائعا في الذائقة الحضارية واللطف والرحمة في التعامل، حتى نقل صفية من أشد الناس بغضا إلى محبة صادقة في حبها له.
ومن ناحية أخرى، فإن المسلمين عمدوا إلى طريقة العزل في وطئ السبايا [55] من أجل أن لا يقعن في الحمل، وذلك لأنهم قد وضعوا في حسابهم أن هؤلاء السبايا قـد يأتي من يفاديهن من أقاربـهـن، لذلك عمـدوا إلى هذه الطريقة لكي لا يكون لهم أبناء من يهوديات قد يستردهن قومهن [56] ، وذلك جانب إنساني وضعه المسلمون في حسابهم في تعاملهم مع السبايا. [ ص: 119 ]