سابعا: العدل
وهو من أعظم القيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية، فهو الروح التي تجعل الحياة تنساب انسيابا سلسا ويمنحها البعد الذي يجعلها أكثر فاعلية وثراء.. والعدل يعني: إعطاء كل ذي حق حقه، من دون إجحاف أو ظلم أو تعد. فإذا ضمن الإنسان حقوقه استشعر قيمة جهده وعمله فزاد فيه ووسع منه، الأمر الذي يجعل الازدهار والنمو أكثر مدى وأوسع نطاقا، فيكون ذلك أساس بناء الحضارات وارتقائها، لهذا قيل قديما: بالعدل تعمر الأوطان.
ومما نص الله تعـالى عليه في موضـوع العدل قوله، وهو أصدق القائلين: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (النحل:90) ، وقوله سبحانه: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة:8).
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا" [1] .. وفي حديث السارقة: أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سـرقت، في عهد النـبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتـح، فقـالوا: من يكـلم فيها رسـول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقـالوا: ومن يجـترئ عليـه إلا أسـامة بن زيـد، حب رسـول الله صلى الله عليه وسلم .. فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "أتشفع في حد من حدود الله"؟.. فقال له أسامة: استغفر [ ص: 120 ] لي يا رسول الله.. فلما كان العشي قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" [2] .
ومصادرنا التاريخية ملأى بالشواهد على الأقضية العادلة، التي فصل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بين المتخاصمين من المسلمين وغير المسلمين، كانت نموذجا فذا للعدل، إدراكا لحقيقة عميقة في الذهن: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة" [3] ، وهذا العدل الذي أقامه المسـلمون حيثما حكموا كان الأساس الذي قامت عليه دولتهم، التي امتدت على رقعة جغرافية واسعة ولزمن امتد عدة قرون.
وكان منهج النبي صلى الله عليه وسلم العمل بالحق والعدل في غزوة خيبر، وتجلى ذلك في مظاهر منها:
1- العدل في الغنيمة:
ففي واقعة تعكس حقيقة منهج العدل في توزيع الغنيمة، أمر الله تعالى بتخصيص الخمس من الغنيمة لله ولرسوله، بقوله (جل جلاله): واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (الأنفال:41) ، [ ص: 121 ] إلا أن الله سبحانه وتعالى لم يحدد نوع الخمس ولا صنفه ولا طبيعته، لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستخرج هذا الخمس بطريقة عشوائية عن طريق القرعة، ولكنه إذا أراد شيئا أن يكون في الخمس دعا الله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك في الخمس [4] . ومع أن هذا الخمس ينفق جانب منه للفقراء والمسـاكين وحاجة الأمة من السـلاح والعتاد، إلا أن ذلك لم يشفع في انتقاء الخمس بطريقة قد تستحوذ على أفضل ما في الغنيمة ليكون ذلك على حساب حقوق بقية المسلمين.
2- العدل في الخرص على اليهود:
وعلى خطى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه في العمل بالعدل وإحقاق الحق، عمل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عند تقديرهم للمحاصيل والثمار، التي كانت تنتجها أرض خيبر لتتم مناصفتها بين الطرفين، بموجب الاتفاق، الذي عقد بينهما، وكان عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه أول من خرص الثمار وقدرها.. ولأنه كان مسترضعا في خيبر، لذا حاول اليهود أن يرشوه فجمعوا له حليا من حلي نسائهم ليتجاوز في القسمة والتقدير لصالحهم أو على الأقل أن لا يحيف عليهم، فرفض عرضهم وقال: "والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم".. قالوا: بهذا قامت السموات والأرض [5] . ولما قالوا له مرة أنك تعديت علينا، قال: "إن شئتم [ ص: 122 ] فلكم.. وإن شئتم فلنا"، فخيرهم أي المقدارين يأخذون، فلهم ذلك، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض [6] ، مؤكدين أن الرجل عمل بكل معاني الحق والعدل.
3- عدم التعدي على حقوق يهود خيبر:
بعد أن تم اتفاق المساقاة بين المسلمين ويهود خيبر، الذي بموجبه يزرع اليهود الأرض - التي غدت ملكا للمسلمين - على أن يكون التمر والمحاصيل مناصفة بينهما، بعد هذا الاتفاق وقع بعض المسلمين في الحرث وأخذ من البقل - الخضراوات - فشكى اليهود ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن ينادي المنادي: "الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم"، فاجتمع الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن اليهود شكوا إلي أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم والذي في أيديهم من أراضيهم، وعاملناهم، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها"، فكان المسلمون بعد ذلك لا يأخذون شيئا من بقلهم إلا بثمن، بل إن بعض اليهود عرض عليهم أن لا يأخذوا منهم ثمنا، فيأبى المسلمون إلا بثمن [7] .
وفي رواية أخرى أوردتها المصادر ببعض الاختلاف، ولا ندري إن كانت الواقعة نفسها أو غيرها، أن المسلمين نزلوا خيبر، فجاء كبيرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلا باردا منكرا، وفي مصادر أخرى كان رجلا ماردا منكرا، مما يشير إلى [ ص: 123 ] فظاظته، وتجلى ذلك في طريقة خطابه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! ألكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتدخلوا بيوتنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "يا ابن عوف، نادي في الناس الصلاة جامعة وأن الجنة لا تدخل إلا لمن شهـد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله".. فـلـمـا اجتـمع المسـلمون خـطب فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله لم يـحـل لكم أن تـدخـلوا بيـوت المـكاتبيـن إلا بإذن، ولا تـأكلوا أموالهم، ولا تضـربوا نسـاءهم، أم حسـب امرؤ منكم - وقد شبع حتى بطن - وهو متكئ على أريكته لا يظن الله عز وجل حرم شيئا إلا ما في القرآن، ألا إني قـد حدثت ووعظت بأشياء هي مثل القرآن أو أكثر، وأنه لا يحل لكم من السباع كل ذي ناب، ولا الحمر، ولا تدخلوا بيوت المـكاتبين ولا تأكـلوا مـن أموالهم شيئا إلا ما طـابوا له نفسا"، وقـال: "لا تضربوا"، أو قال: "لا تجلدوا نساءهم" [8] . وقد أورد أبو داؤد الحديث وضعفه الألباني [9] .
فإن الواقعة إذا ما حصلت فعلا، فإن الأمر لا يعدو قيام أفراد قلائل بمثل هذا العمل، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التشديد على المسلمين بعدم التعدي على حقوق المعـاهدين والتجـاوز عليها إنفـاذا لمبدأ العدل وإحقاق الحقوق، مع أن كثيرا [ ص: 124 ] من المنتصـرين في الحروب لا يأبـهون لمثـل هـذه التجـاوزات ولا يلقون لها بالا، إذ تأخذهم نشوة النصر بعيدا عن الإقرار للمهزوم بأية حقوق، غير أن نبي المسلمين صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك.
4- إنفاذ القصاص في الدماء:
فقد أكد الإسلام أن لأموال المعاهدين ودماءهم عصمة عصمها العهد الذي لا يحل نقضه إلا بمسوغ شرعي. لذلك فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم حنين مسلما بكافر، قتله غيلة، وقال: "أنا أولى، أو أحق من أوفى بذمته" [10] . وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة، فيقتل فيه المسلم بالكافر [11] ، وهذه درجة عالية من العدالة تكفل حفظ حقوق الجميع - المسلمين وغيرهم - في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي هذا ضمان لحماية أمن المجتمع وحفظه من أية اختراقات.
وفي موقف مخـالف تماما، تتجلى أيضا منهجية العدل الحقيقي والراسـخ في التعامل مع الحقوق بمنتهى العدل. فقد "خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر - وهي يومئذ صلح- تفرقا في بعض ما هنالك، ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا، فدفنه، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، [ ص: 125 ] فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كبر، الكبر في السن".. فصمت، فتكلم صاحباه، وتكلم معهما، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: "أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟.. قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" قـالوا: وكيف نقبـل أيمان قـوم كفـار؟.. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله" [12] ، أي: ديته.
وقد كتـب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر بتوعدهم: "إما أن تؤدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب"، فكتبوا: ما قتلناه [13] . ومع أن خيبر كانت منطقة يهودية محضـا لا يوجد فيها غيرهم، وأن العـداوة كانت ظاهرة بين اليهود والأنصار [14] ، إلا أن ذلك لا يكفي لإدانة اليهود بالقتل من دون إقرار أو بينة قاطعة؛ وهذا يعكس درجة عالية من العدالة لا يدانيها أحد في منهجه.
5- حفظ حقوق اليهود الدينية:
ومما تجلى في معركة خيبر أيضا حفظ حقوق اليهود الدينية، فقد كان من بين ما غنمه المسلمون من حصون خيبر مصاحف فيها التوراة، فجاء وجوه اليهود وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدها لهم، فأعيدت إليهم [15] ، الأمر الذي يدل [ ص: 126 ] على المكانة التي كانت عليها هذه الصحف في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يتعرض لها بسوء، وهذا إزاء ما فعله الرومان حينما سيطروا على بيت المقدس في عام (70م) إذ أحرقوا صـحف التوراة وداسوا عليها بأرجلهم، ومثل ذلك ما فعله النصـارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس، إذ أحرقت صحف التوراة، ليؤشر ذلك البون الشاسع الذي كانت عليه حال المسلمون ونبيهم مقارنة بغيرهم في التعامل مع مقدسات الآخرين [16] .
ومع أن المسلمين فتحوا بعض حصون خيبر عنوة، مثل حصون منطقتي النطاة والشق، إلا أنـهم لم يهدموا معابدهم، ولم يلحقوا بها ضررا وأقروهم عليها، ولم يتدخلوا في شؤونهم الدينية [17] ، انطلاقا من الأفق الواسع الذي كان عليه المسلمون في التعامل مع غير المسلمين واحترام مقدساتهم وضمان حرياتهم الدينية، فضلا عن حرياتهم المدنية والشـخصية، بعيدا عن التعصب الأعمى، الذي يلغي وجود الآخرين ولا يعترف لهم بحقوق دينية. [ ص: 127 ]