ثامنا: إعمار الأرض وإصلاحها
1- الاهتمام بالحياة النباتية والحيوانية:
طبعا نحن لا نزعم أن في غزوة خيبر تجلت مظاهر القيم الحضارية بكامل أبعادها بل ثمة إشارات وردت في بعض الجوانب تحمل كثيرا من المعاني والدلالات الحضارية، وهي تتضافر مع غيرها من الإشارات في مناسبات أخرى ليتشكل من مجملها عمق الرؤية الحضارية الإسلامية، ونحن هنا لسنا بصدد التوسع كثيرا خارج إطار غزوة خيبر حتى لا يفقد الموضع خصوصيته المتعلقة بظروف هذه الغزوة.
ففي غزوة خيبر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الـمجـثــمة [1] .. والمـجـثــمة الحيوان الذي يمسك أو يقيد ويرمى بالنبل حتى يموت [2] ، فمثل هذا العمل عبث لا طائل من تحته، وفيه اعتداء واستهانة بما خلق الله سبحانه وتعالى، علما أن النهي لم يخص نوعا معينا من الحيوانات، بل إن الأمر يشمل مطلق الحيوان، ومن ثم فإن النهي يعكس الاهتمام بالحياة الحيوانية والعناية بها وعدم إلحاق الأذى والضرر بها، وهذا موقف يمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام عكسـت مفاهيم الرفق بالحيوان، التي راحت تتشدق بها الحضارات الحديثة بوصف ذلك من مظاهر الرقي الإنساني، أما حضاراتهم القديمة فقد بالغت في تحميل الحيوان مسؤولية ما يتحمل الإنسان العاقل، وذلك ما يجافي كل أنواع المنطق، فقد شكل اليونانيون القدامى محاكم لمحاكمة الحيوانات، وفي حالة إدانتها(!!) تقتل قصاصا ويلقى بها خارج [ ص: 128 ] البلاد، وكذلك فعل الرومان.. ففي قـوانينهم، يعاقب بالإعدام الثور وصـاحبه إذا تجاوز الثور - في أثناء الحراثة - على أرض فلاح مجاور [3] . فأي بون هائـل بين ما كان عليه المسلمون وما كان عليه غيرهم؟!
أما بالنسبة للحياة النباتية، فنحن إزاء واقعتين:
الواقعة الأولى أن الحباب بن المنذر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل خيبر من أجل قهر الروح المعنوية لليهود لاعتـزازهم الكبيـر بنخيـلهم، فالنخـل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فأصـدر النبي صلى الله عليه وسلم أوامره بأن يعمل المسلمون عدتهم في قطع النخيل، الذي حولهم قرب حصون النطاة، فقطعوا أربعمائة نخلة، غير أن آخرين من الصحابة أشاروا عليه بالكف عن القطع، ولاسيما أن الله قد وعد المسلمين بأنها ستكون غنيمة لهم، فأمر بالكف عن القطع [4] .
ومع أن القطع كان له ما يسـوغه من الناحية العسـكرية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوقفه، فقد كان الغرض الأول كسر الروح المعنوية لليهود وهذا في الحرب مشروع، ثم إن القطع كان ضروريا لاتخاذ المكان معسكرا للجند، كما إنه يحول دون استخدام العدو لغابات النخيل للتسلل عبرها أو نصب الكمائن فيها، وهذه كلها ضرورات لازمة، إلا أن الحفاظ على الحياة النباتية بوصفها ثروة مهمة تفوقت في كفة الميزان.
أما الواقعة الثانية فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أن وصل المدينة عائدا من خيبر حتى جعل من المدينة حرما، فلما أشرف على المدينة قال، "اللهم إني أحرم ما بين [ ص: 129 ] لابتيها [5] ، كتحريم إبراهيم مكة" [6] . ومما دل عليه هذا التحريم، أن عاصما سأل أنس: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم، ما بين كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [7] ، بل إن منع قطع الشجر امتد إلى الغابة المجاورة للمدينة، فقد راحت فؤوس الناس تقطع فيها لاتخاذها خشبا للوقود، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن "من قطع شجرة فليغرس مكانها" [8] .
وتحريم المدينـة، وقبلها مكة، أشـبه شيء بتـحويلها إلى محميات طبيعية، وهو ما يسعى إليه حماة البيئة اليوم، مع التركيز هنا على الحياة النباتية، بما يعد خطوة متقدمة تاريخيا كشفت عن القيم الحضارية السابقة لغيرها من الحضارات في فهم الحياة ومتطلباتها كافة، بما في ذلك الحفاظ على التوازن البيئي اللازم لسلامة الحياة الإنسانية.
2- العمارة والبنيان:
وتجلى ذلك في غزوة خيبر في بناء المساجد، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجها صـوب خيـبر، فلما بلغ منطـقة تدعى عصر، بنى له فيها مسجـدا [9] . ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وعسكر في الرجيع بنى المسلمون مسجدا لهم أيضا [10] ، وعند حصن [ ص: 130 ] القموص هناك أيضا مسجد للمسلمين [11] ، يرجح أنه بني في هذه الغزوة.
هنا يجدر التوقف والتأمل، كان من الممكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولعامة المسلمين إقامة صلواتهم في الفضاء، فقد كانوا في حملة عسكرية تنجز مهمتها ثم تعود إلى وطنها، إلا أن اتخاذ مسجد مشيد يعكس طبيعة التوجه العمراني الحضري، وفيه مخالفة لأنماط العيش والاستيطان الأخرى، ولاسيما النمط البدوي المتنقل، إذ يسعى الإسلام إلى الرقي بالحياة إلى النمط الحضري المتمدن المستقر والمتوطن، وهذا هو أساس جوهري لأي ارتقاء حضاري. وعليه فإن اتخاذ مساجد مشيدة ليس عملا عاديا عابرا، بل فيه الإشارات الرمزية للتوطن والاستقرار والتمدن.
3- تطوير العمل المهني:
أشـار الكتـاني إلى مسألة على درجة عالية من الأهمية فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر سبى فيها ثلاثين قينا وكانوا صناعا مهرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعاتهم ويتقوون بها على جهاد عدوهم"، فتركوا لذلك، فمن تعلم عليهم الصناعة سمي صانعا أو معلما، ومن كان من أصلهم سمي قينا [12] .
وهذه الخطوة على درجة كبيرة من الأهمية تعكس مدى الاهتمام بإحداث التطوير والارتقاء بالمهارات المختلفة للإنسان بما يقود إلى ارتقاء العمل وتنوع مناشطه، تعبيرا عن إدراك القيمة الحضارية العليا للعمل الانساني وموجبات الارتقاء به. [ ص: 131 ]