الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإن قال : فلانة بنت فلان طالق فسمى امرأته ، ونسبها إلى غير أبيها لم تطلق امرأته ; لأنه ما أوقع الطلاق عليها فإنه ما أضافها إلى نفسه بالنكاح ، وما أشار إليها ، ولا عرفها بذكر نسبها ، إنما ذكر امرأة أخرى ، وأوقع الطلاق عليها بما ذكر من الاسم ، والنسب فلا يتناول ذلك امرأته كما لو أشار إلى أجنبية ، وقال : أنت طالق لم تطلق امرأته ، وكذلك لو قال : فلانة الهمدانية طالق [ ص: 148 ] وامرأته تميمية لم تطلق ، وكذلك لو قال : فلانة العمياء طالق ، وامرأته صحيحة العينين ، فإن نوى امرأته بهذا كله طلقت ; لأنه قصد الإيقاع عليها بذكر اسمها ، وما زاد على ذلك فضل من الكلام ، وفي هذا تشديد عليه فتعمل نيته .

وإن كان اسم امرأته زينب ، فقال : فلانة طالق يعني امرأته ، وإنما قال : فلانة ، ولم يسمها فالطلاق واقع عليها ، وإن لم يعنها لم تطلق ; لأنه أوقع الطلاق بذكر مطلق الاسم ، ومطلق الاسم كما يتناولها يتناول غيرها فكان هذا بمنزلة الإيقاع بلفظ الكناية فينوي في ذلك ; لكون اللفظ مبهما محتملا ، وإذا شهد شاهد على تطليقتين ، وشاهد على ثلاث ، والزوج يجحد ذلك ، أو شهد شاهد بتطليقة ، والآخر بتطليقتين ، أو شاهد بتطليقة ، والآخر بثلاث لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما وابن أبي ليلى تقبل على الأقل ; لأن المعتبر اتفاق الشاهدين في المعنى دون اللفظ حتى لو شهد أحدهما بالهبة ، والآخر بالتخلي تقبل ، وقد اتفق الشاهدان على الأقل ; لأن الأقل موجود في الأكثر فصار كما لو شهد أحدهما بألف ، والآخر بألف وخمسمائة ، والمدعي يدعي الأكثر تقبل شهادتهما على الأقل ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال لها : أنت طالق ، والآخر أنه قال لها : أنت طالق وطالق ، أو شهد أحدهما أنه طلقها ، والآخر أنه طلقها وضرتها تقبل شهادتهما على طلاقها ; لاتفاق الشاهدين عليه ; ولأن الموافقة كما تراعى بين الشاهدين تراعى بين الدعوى ، والشهادة .

ثم لو ادعى ألفين ، وشهد شاهدان بألف تقبل الشهادة بالاتفاق ، فكذلك إذا شهد أحد الشاهدين بألف ، والآخر بألفين ينبغي أن تقبل على الأقل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلف الشاهدان في المشهود به لفظا ومعنى فلا تقبل الشهادة كما لو قال أحدهما : إنه قال لها : أنت خلية ، والآخر : إنه قال : لها أنت برية ، وإنما قلنا ذلك ; لأن أحدهما شهد بالواحدة ، والآخر بثنتين أو بثلاث ، والواحدة أصل العدد لا تركب فيها ، والاثنان ، والثلاث اسم لعدد مركب فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ، ومن حيث إن اللفظ الواحد غير التثنية ، والجمع ، والدليل عليه أن مدعي الاثنين أو الثلاثة لا يكون مقرا بالواحد ، إذ لو كان مقرا بالواحد لكان مرتدا بالشرك بعد ذلك فينبغي أن تقبل ، ولأن التطليقتين اسم واحد ، والتطليقة كذلك ، وبزيادة حرف يتغير الاسم كما يقال : زيد وزياد ، ونصر وناصر ، وكذلك في الألف ، والألفين وإذا ثبتت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد ، فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف [ ص: 149 ] وخمسمائة فإنهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظا ومعنى ، وكذلك في قوله : طالق وطالق ، وفي قوله : فلانة وفلانة ، وهذا بخلاف الدعوى مع الشهادة ، فإن الاتفاق هناك في اللفظ ليس بشرط .

فأما بين الشهادتين الموافقة في اللفظ شرط ، ألا ترى أنه لو ادعى الغصب ، أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل ، ولو شهد أحد الشاهدين بالغصب ، والآخر بإقرار به لا تقبل ، وهذا ; لأن الشهادة تعتمد اللفظ ، ألا ترى أنها لا تقبل ما لم يقل : أشهد ، والذي يبطل مذهبهما ما ذكر في كتاب الرجوع ، لو شهد شاهدان بتطليقة ، وشاهدان بثلاث تطليقات ، وفرق القاضي بينهما قبل الدخول ، ثم رجعوا ، كان ضمان نصف الصداق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ، ولو اعتبر ما قالا أن الواحدة توجد في الثلاث ; لكان الضمان عليهم جميعا .

وإن شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار ، وأنها قد دخلت وشهد الآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا ، وأنها قد كلمت فلانا فشهادتهما باطلة ; لأن كل واحد منهما أوقع الطلاق بغير ما أوقع به صاحبه ، وإنما شهد كل واحد منهما بتعليق آخر من الزوج ، وليس على واحد من الأمرين شهادة شاهدين ، فإن شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا ، وشهد الآخر أنه قال لها : أنت علي حرام ينوي الثلاث فشهادتهما باطلة ; لاختلافهما في المشهود به لفظا ، وكذلك إن اختلفا في ألفاظ الكنايات كالخلية ، والبرية ; لأن هذه الألفاظ عندنا تعمل بحقائق موجباتها فيكون أحدهما شاهدا بالتخلية ، والآخر بالبراءة ، وكذلك الاختلاف في مقادير الشروط التي علق بها الطلاق ، وفي التعليق ، والإرسال ، وفي مقادير الجعل وصفاتها ، وفي اشتراطها وحذفها ، كل ذلك اختلاف في المشهود به لفظا ومعنى فيمتنع القضاء بهذه الشهادة ; لأنه ليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتمكن القاضي من القضاء ، وإذا شهد أحدهما أنه قال : إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها ، وشهد الآخر أنه قال : إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وحدها ، وقد دخلت فلانة فهي طالق وحدها ; لأنهما اتفقا على أن الشرط دخولها ، واتفقا أن الجزاء طلاقها ، إنما تفرد أحدهما بزيادة جزاء معطوف على طلاقها ، فيثبت ما اتفقا عليه ، ولا يثبت ما تفرد به أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية