الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( إن عرف وإلا فبجميع المشكوك فيه ككميه بخلاف ثوبه فيتحرى )

                                                                                                                            ش : يعني أن من تحقق إصابة النجاسة لمحل فإن عرف موضعها منه غسله وإن لم يعرف موضع النجاسة مع تحققه الإصابة فإنه يغسل جميع ما شك في إصابة النجاسة له ; لأنه لما تحقق إصابة النجاسة وجب غسلها ولما لم يتميز موضعها تعين غسل الجميع ; لأنه لا يتحقق زوالها إلا بذلك ، قال في المدونة : ومن أيقن أن نجاسة أصابت ثوبه لا يدري موضعها غسله كله ، وإن علم تلك الناحية غسلها قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى - : هذا متفق عليه ، قال في التوضيح : إلا أن لا يجد من الماء ما يعم به الثوب ويضيق الوقت فإنه يتحرى موضعها نص عليه في الذخيرة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وأصله لصاحب الطراز وهو ظاهر ، وقوله ككميه يعني أن الثوب المتصل إذا تحققت إصابة النجاسة له وشك في محلها فلا بد من غسل جميع المشكوك فيه ، ولو وقع الشك في جهتين متميزتين كالكمين ، ولا يجتهد في أحد الجهتين وهذا هو المذهب قاله سند وقال ابن العربي : يجتهد فما أداه اجتهاده أنه النجس غسله كما سيأتي في الثوبين ، ووجه المذهب أن الكمين متصلان بالثوب والثوبين منفصلان ، وقوله بخلاف ثوبيه فيتحرى يعني أنه إذا تحقق إصابة النجاسة لأحد ثوبيه وطهارة الآخر فاشتبه الطاهر بالنجس فإنه يتحرى أي يجتهد بعلامة تميز له الطاهر منهما من النجس فما أداه اجتهاده إلى أنه طاهر صلى به وما أداه اجتهاده إلى أنه نجس تركه حتى يغسله وهذا هو المشهور ، وقال ابن الماجشون : يصلي بعدد النجس وزيادة ثوب كالأواني ، وقال ابن مسلمة كذلك ما لم يكثر ، هذا تحصيل ابن عرفة ، وحكى ابن الحاجب القولين الأولين فقط .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قال في التوضيح ظاهر كلام ابن الحاجب يتحرى في الثياب عدم اشتراط الضرورة وكلامه في الجواهر قريب منه ونص سند على أنه إنما يتحرى في الثوبين عند الضرورة وعدم وجود ما يغسل به الثوبين انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وهكذا نقل صاحب الجمع عن ابن هارون أنه إنما يتحرى إذا لم يجد ثوبا طاهرا ، أو ما يطهر به ما اشتبه عليه من الثياب ونقله عن سند أيضا ، قال : وظاهر كلام ابن شاس وغيره الإطلاق من غير تقييد بضرورة وهو غير صحيح ; لأنه إذا لم يكن [ ص: 161 ] مضطرا فقد أدخل احتمال الخلل في صلاته بغير ضرورة انتهى وهو ظاهر .

                                                                                                                            وعلى هذا فلا فرق بين الشك في الثوبين ، أو في الثوب الواحد في وجوب الغسل مع عدم الضرورة . وأما مع الضرورة فيتحرى في الثوبين . وأما الثوب الواحد فلا فائدة للتحري فيه إلا في الصورة التي تقدمت عن التوضيح وهي ما إذا لم يجد من الماء ما يغمر به الثوب وضاق الوقت ، وهكذا قال سند بعد أن ذكر الفرق بين الثوبين والثوب الواحد بأنه إذا تحرى في الثوبين صلى بأحدهما من غير غسل . وأما الثوب الواحد فلا بد من الغسل والشك في جميع الثوب فيغسل جميعه . قال : وفي التحقيق لا فرق بينهما وذكر ما تقدم .

                                                                                                                            وقال ابن غازي : وقد أغفلوا كلهم ما في سماع ابن أبي زيد من كتاب الصلاة وذكر عنه قولين أحدهما عن مالك يصلي في أحدهما ثم يعيد في الوقت إن وجد ثوبا طاهرا كما في الثوب الواحد ، والثاني عن ابن القاسم كقول ابن الماجشون أنه يصلي في أحدهما ثم يعيد في الآخر ، ولا إعادة عليه بعد ذلك قال ابن رشد قول ابن القاسم استحسان ; لأنه يرى إذا صلى بأحدهما ثم أعاد في الآخر مكانه فقد تيقن أن إحدى صلاتيه قد وقعت بثوب طاهر وفيه نظر ; لأنه إذا صلى بأحدهما على أنه يعيد في الآخر فلم يعزم في صلاته فيه على أنها فرضه إذا صلى بنية الإعادة فحصلت النية غير مخلصة للفرض ، وكذلك إذا أعادها لم يخلص نيته في إعادته للفرض ; لأنه نوى أنها صلاته إن كان هذا الثوب هو الطاهر .

                                                                                                                            وقول مالك أصح وأظهر من جهة النظر والقياس ; لأنه يصلي في أحدهما على أنها فرضه فيتحرى صلاته إذ لو لم يكن عليه غيره وصلى به وهو عالم بنجاسته لأجزأته صلاته ثم إن وجد في الوقت ثوبا طاهرا أعاد استحبابا انتهى كلام ابن رشد وما ذكره من النظر فيما إذا صلى بأحدهما ثم أعاد في الآخر يأتي نحوه لابن رشد في اشتباه الأواني ويأتي الجواب عنه . وما ذكره ابن غازي عن سماع ابن أبي زيد حسن والظاهر أن معنى قول مالك يصلي بأحدهما أي بعد أن يتحرى ولا أظن أن أحدا يجيز له الصلاة في أحدهما بلا تحر مع إمكان التحري اللهم إلا إذا تحرى أي اجتهد فلم يترجح أحدهما على الآخر فحينئذ يصلي في أحدهما وعلى هذا فهو موافق للقول الذي مشى عليه المصنف ، وقوله : إنه إن وجد ثوبا أعاد في الوقت لا ينافي ذلك كما قال ابن غازي إذ هو على جهة الاستحباب كما ذكر ابن رشد - رحمه الله تعالى - ويرجح ما ذكره صاحب الطراز وابن هارون أن التحري إنما هو مع الضرورة وهو الظاهر فينبغي أن يعتمد إذ لا فرق بين الثوبين والثوب الواحد ، وقد فرقوا بينهما بفروق ضعيفة أحسنها ما ذكره ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وأصله لابن العربي أن الأصل في كل واحد من الثوبين الطهارة على انفراده فيستند إلى أصل ، ولا كذلك الثوب الواحد ; لأن حكم الأصل قد بطل لتحقق حصول النجاسة فيه فيجب غسله قال ابن عبد السلام هكذا قالوا ولا يخفى ما فيه ، فلو فصل هذا الثوب نصفين بقي وجوب الغسل على ما كان لاحتمال أن يكون القسم في محل النجاسة فيكون كل واحد منهما نجسا وهذا هو الفرق بينه وبين الكمين على القول بالتحري فيهما وهو اختيار ابن العربي قال : ولو فصلهما جاز له التحري إجماعا يعني على القول بالتحري في الثوبين انتهى .

                                                                                                                            وقال صاحب الجمع فيما إذا قسم الثوب : فلو فرضنا أنه قسم في موضع يتحقق أنه ليس فيه نجاسة بل النجاسة بعيدة منه لكان مثل أحد الكمين انتهى .

                                                                                                                            وفرق بعضهم بأن الأصل عدم التحري في الثوب الواحد لثبوت النضح فيما شك في وصول النجاسة إليه ولأنه قائم بنفسه ، ولا يجتمع فيه الاجتهاد واليقين وهذان الوصفان غير موجودين في الثوبين .

                                                                                                                            ( قلت : ) وإذا مشينا على ما قاله سند وغيره لم يحتج لشيء من هذا والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            وصدر صاحب الشامل بالقول [ ص: 162 ] بالتحري ثم قال وقيده بعضهم بالضرورة والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني ) إذا قلنا لا يتحرى إلا مع الضرورة فهل يكون حكمه حكم المتيمم فالآيس يتحرى في أول الوقت والراجي في آخره والمتردد في وسطه أو يقال لا يصلي بالتحري إلا في آخر الوقت المختار . تردد في ذلك صاحب الجمع ، وفي كلامه ميل إلى الثاني قال والفرق بينه وبين المتيمم أن التيمم طهارة بدل عن طهارة وإزالة النجاسة لا بدل لها فيؤخر إلى آخر الوقت المختار ثم قال ويمكن أن يجاب بأنه غير مصل بالنجاسة بل يحتمل احتمالا مرجوحا انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) الظاهر أنه لا يتحرى إلا مع الضرورة كما قال سند وغيره وأنه يفصل فيه كالتيمم وأنه إن وجد ثوبا طاهرا ، أو ما يغسل به يعيد في الوقت كما قال في العتبية والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ( الثالث ) إذا قلنا بالتحري مع عدم الضرورة فلا يلزمه إلا غسل أحدهما وهو ما حكم اجتهاده بأنه نجس ، وهذا اختيار ابن العربي ، وفرع عليه ما إذا لبسهما وصلى بهما قال فتجوز صلاته ; لأن أحد الثوبين طاهر بيقين وهو الذي غسله ، والآخر طاهر بالاجتهاد ، وقال بعض الشافعية : لا يجوز ; لأنه كثوب واحد بعضه نجس وبعضه طاهر ، قال : وهذا قلب للحقائق لا يكون الثوبان ثوبا ، ولا الثوب ثوبين والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) لا اعتبار في إزالة النجاسة بالعدد عندنا بل المعتبر في عينها إزالة العين ، وفي حكمها إصابة الماء المحل واستحب الإمام الشافعي ثلاث غسلات لحديث القائم من النوم وأوجب ابن حنبل التسبيع في كل نجاسة قياسا على الكلب إلا الأرض فواحدة لحديث بول الأعرابي .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية