الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( والمسألة الثانية ) رفض النية وذكر المصنف أنه مغتفر أيضا ، والرفض في اللغة الترك ، ومعناه هنا تقدير ما وجد من العبادة والنية كالمعدوم ، وظاهر كلام المصنف أن الرفض لا يضر سواء كان بعد كمال الوضوء أو في أثنائه إذا رجع وكمله بنية رفع الحدث بالقرب على الفور ، وظاهر كلامه في التوضيح أن الخلاف جار في الصورتين وسيأتي كلامه ، أما إذا رفض النية في أثنائه ثم لم يكمله أو كمله بنية التبرد أو التنظف أو نية رفع الحدث بعد طول فلا إشكال في بطلانه ، وأما إذا كمله بالقرب فالذي جزم به عبد الحق في نكته أن ذلك لا يضر ويظهر من كلام المصنف في التوضيح أنه المعتمد هنا وهو ظاهر إطلاقه ، والذي جزم به ابن جماعة وصاحب الطراز أن ذلك مبطل للوضوء . قال ابن ناجي في شرح المدونة : إن عليه أكثر الشيوخ ، وقال : إن الذي نقله صاحب النكت من غرائب أنقاله . وأما إذا رفض الوضوء بعد كماله فالذي جزم به ابن جماعة التونسي أن رفض الوضوء بعد كماله لا يؤثر ، ولم يحك في ذلك خلافا وحكى اللخمي في الكلام على نواقض الوضوء الخلاف في ذلك وفي الصلاة والصوم وكذلك ذكره القرافي في نواقض الوضوء وحكى ابن ناجي في شرح المدونة الخلاف أيضا في ذلك لكنه قال : الفتوى أنه لا يضر .

                                                                                                                            ورجح صاحب الطراز أن الرفض لا يؤثر بعد الفراغ من العبادة وكذلك قال اللخمي : إنه القياس ، قال ابن الحاجب : وفي تأثير رفضها بعد الوضوء روايتان قال في التوضيح : هذا الخلاف جار في الوضوء والصلاة والصوم والحج ، وذكر القرافي عن العبدي أنه قال المشهور في الوضوء والحج عدم الرفض ، عكس الصلاة والصوم ، ومقتضى كلامه أن الخلاف جار بعد الفراغ من الفعل فإنه قال : رفض النية من المشكلات لا سيما بعد كمال العبادة كما نقله العبدي فذكر الكلام السابق ثم قال والقاعدة العقلية أن رفع الواقع محال انتهى . وقد أشرنا إلى الفرق بين هذه الأربعة في باب الصلاة فانظره .

                                                                                                                            ابن عبد السلام : وكان بعض من لقيته من الشيوخ ينكر إطلاق الخلاف في ذلك ويقول : إن العبادة المشترط فيها النية إما أن تنقضي حسا وحكما كالصلاة والصوم بعد خروج وقتهما ، أو لا تنقضي حسا وحكما كما في حال التلبس بها ، أو تنقضي حسا دون الحكم كالوضوء بعد الفراغ منه فإنه وإن انقضى حسا لكن حكمه وهو رفع الحدث باق ، فالأول لا خلاف في عدم تأثير الرفض فيه ، والثاني لا خلاف في تأثيره فيه ، ومحل الخلاف هو الثالث وهو أحسن من جهة الفقه لو ساعدت الأنقال انتهى . وقد نص صاحب النكت في باب الصوم على خلافه فإنه نص على أنه لو رفض الوضوء وهو لم يكمله أن رفضه لا يؤثر إذا أكمل وضوءه بالقرب .

                                                                                                                            قال : وكذلك الحج إذا رفض بعد الإحرام ثم قال فلا شيء عليه ، قال : وأما إن كان في حيز الأفعال التي تجب عليه نوى الرفض وفعلها بغير نية كالطواف ونحوه ، فهذا رفض يعد كالتارك لذلك انتهى كلام التوضيح ، وكلامه الذي أشار إليه في كتاب الصلاة هو ما نصه ( فإن قلت ) ما الفرق على المشهور بين الصلاة والصوم والحج والوضوء ؟ قيل : لما كان الوضوء معقول المعنى بدليل أن الحنفية لم توجب فيه النية ، والحج محتو على أعمال مالية وبدنية لم يتأكد طلب النية فيهما فرفض النية فيهما رفض لما هو غير متأكد وذلك مناسب لعدم اعتبار الرفض ولأن الحج لما كان عبادة شاقة ويتمادى في فاسده ناسب أن يقال بعدم [ ص: 241 ] تأثير الرفض دفعا للمشقة الحاصلة على تقدير رفضه والله تعالى أعلم انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) كلامه رحمه الله تعالى يقتضي أن الخلاف جار في كل من الوضوء والصلاة والصوم والحج وأنه جار في الرفض قبل كمال العبادة وبعد كمالها ، وبذلك صرح القرافي في كتاب الأمنية في إدراك النية ونقله عن العبدي ، وصرح بذلك أيضا في الفرق السادس والستين وهو مشكل ، فإن الإحرام سواء كان بحج أو عمرة أو بهما أو بإطلاق لا يرتفض ولو رفضه في أثنائه ، ولم أر في ذلك خلافا بل قال سند في كتاب الحج : مذهب الكافة أنه لا يرتفض وهو باق على حكم إحرامه ، وقال داود : يرتفض إحرامه وهو فاسد ; لأن الحج لا ينعدم بما يضاده حتى لو وطئ بقي على إحرامه ، وغاية رفض العبادة أن يضادها فما لا ينتفي مع ما يفسده لا ينتفي مع ما يضاده انتهى . وقال القرافي في الذخيرة في كتاب الحج إذا رفض إحرامه لغير شيء فهو باق عند مالك والأئمة خلافا لداود .

                                                                                                                            ولم يحك ابن الحاجب ولا ابن عرفة ولا غيرهما في ذلك خلافا ، وإذا لم يؤثر الرفض وهو في أثنائه فأحرى بعد كماله ، وأما الصلاة والصوم فظاهر كلام غير واحد أن الخلاف جار فيهما سواء وقع الرفض في أثنائهما أو بعد كمالهما ، قال ابن عرفة في كتاب الصلاة : وفي وجوب إعادتها لرفضها بعد تمامها نقلا اللخمي انتهى . وحكى غيره أنه إذا كان الرفض في أثناء الصلاة والصوم .

                                                                                                                            فالمعروف من المذهب البطلان وهو الذي جزم به صاحب النكت ولم يحك غيره وأما إذا كان الرفض في أثناء الوضوء فتقدم أن الذي جزم به صاحب النكت أنه لا يرتفض ، وظاهر كلام المصنف في التوضيح أنه اعتمده هنا ، وهو ظاهر إطلاقه ، وكلام صاحب الطراز وابن جماعة يقتضي أنه يرتفض . قال ابن ناجي : وعليه الأكثر وسيأتي كلامهم ، وأما إذا كان الرفض بعد الفراغ من العبادة فنقل صاحب الجمع عن ابن راشد أنه قال : إن القول بعدم التأثير عندي أصح لأن الرفض يرجع إلى التقدير ; لأن الواقع يستحيل رفضه والتقدير لا يصار إليه إلا بدليل والأصل عدمه ، ولأنه بنفس الفراغ من الفعل سقط التكليف به ، ومن ادعى أن التكليف يرجع بعد سقوطه لأجل الرفض فعليه الدليل انتهى . وفي كلام صاحب الطراز في باب غسل الجنابة ما يقتضي أن العبادة كلها الوضوء والغسل والصلاة والصوم والإحرام لا يرتفض منها شيء بعد كماله ، وأن الجميع يرتفض في حال التلبس إلا الإحرام ، وبذلك صرح ابن جماعة التونسي في فرض العين فقال : ورفض الوضوء إن كان بعد تمام الوضوء لا يرتفض ، وكذلك الغسل والصلاة والصوم والحج ، وإن كان في أثنائه وهو يعتقد أنه لا يتمه بنية الوجوب أو يقطع النية عنه بطلت كلها إلا الحج والعمرة فإنهما لا يرتفضان سواء رفضهما في أثنائهما أو بعد كمالهما انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن ناجي في شرح المدونة في أواخر باب الغسل : واختلف إذا رفض النية بعد الوضوء على قولين لمالك ، والفتوى بأنه لا يضر ; لأن ما حصل استحال رفعه وأما الرفض قبل فراغ الوضوء فالأكثر على اعتباره ، وقال عبد الحق في النكت في باب الصوم : لا يؤثر رفضه إذا أكمل وضوءه بالقرب ، وهو من غرائب أنقاله ، وكلام القرافي في كتاب الأمنية في الفرق المذكور يقتضي أن المشهور في الصلاة والصوم من أن الرفض يؤثر ولو بعد الكمال ، ولكنه استشكل ذلك بأنه يقتضي إبطال جميع الأعمال وبحث فيه وأطال خصوصا في الفروق وقال في آخر كلامه : إنه سؤال حسن لم أجد ما يقتضي اندفاعه فالأحسن الاعتراف بذلك والله تعالى أعلم . وكلام ابن ناجي يدل على أن الخلاف في رفض الوضوء بعد إكماله وأن مذهب ابن القاسم أنه لا يرتفض وظاهر كلامه أن الغسل لا يرتفض بلا خلاف ونصه رفض الطهارة ينقضها في رواية أشهب عن مالك ; لأنه روي عنه : من تصنع لنوم فعليه الوضوء وإن لم [ ص: 242 ] ينم . قال الشيخ أبو إسحاق : هذا يدل على أن رفض الوضوء يصح ، وابن القاسم يخالف في هذا ويقول هو كالحج لا يصح رفضه . وجه رواية أشهب أن هذه عبادة يبطلها الحدث فصح رفضها كالصلاة ، ووجه قول ابن القاسم أن هذه طهارة فلم تبطل بالرفض كالطهارة الكبرى انتهى من ترجمة ما لا يجب منه الوضوء

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية