مسألة قال ابن رشد في نوازله في باب الوصايا : إذا فلا يجوز لأحد من القضاة والحكام أن يتعقب شيئا من ذلك ولا ينظر فيه والأمر في ذلك للورثة ، فإن كانت الوصية مما يبقى لهم فيه منفعة كالعتق وشبهه كان لهم أن يقوموا حتى يعلموا أنها قد نفذت كان المتقدم لها وارثا أو أجنبيا ، وإن كانت الوصية مما لا يبقى فيه منفعة كالصدقة فلا قيام لهم في ذلك إلا أن يكون المنفذ وارثا انتهى . أوصى بوصية كفك أسير أو غير ذلك من وجوه البر ، وجعل تنفيذ الوصية إلى رجل أجنبي أو وارث وشرط في تنفيذ الوصية دون مشورة قاض ولا تعقب حاكم
قال في [ ص: 394 ] النوادر أيضا قبل ذلك بنحو الورقة في باب الوصايا سؤال سأله عنه ، ونصه : المقدم على تنفيذ ثلث الميت إذا أراد مقاربة الورثة ومسامحتهم ، وقد جعل له في التقديم أنه لا اعتراض عليه من حاكم وغيره بوجه من الوجوه هل للحاكم النظر في تحصيل الثلث والحوطة عليه ثم بعد ذلك يفوض نظره إليه إذ التفويض إنما هو في التفريق وحده أم لا سبيل للحاكم إليه ؟ فأجاب لا يجوز للمقدم على تنفيذ الثلث مقاربة الورثة ولا مسامحتهم في ذلك ، وإن اتهمه القاضي بذلك شرك معه من يثق به في تحصيل الثلث ثم يكل تنفيذ ذلك إليه في الوجوه التي جعل تنفيذها فيه أو بما يراه باجتهاد إن كان فوض إليه النظر في ذلك ، لقول الموصي ولا اعتراض عليه من حاكم ولا غيره وهذا في الوصي المأمون وأما في غير المأمون الذي يخشى عليه على الوصية ولا ينفذها فيكلفه إقامة البينة على تنفيذها على معنى ما وقع في سماع القاضي عياض أشهب من كتاب الوصايا ، فإن لم يأت بالبينة على ذلك ضمن إن كان سارقا معلنا ، وإن كان متهما ولم يكن بهذه الصفة استحلف ولم يضمن إلا أن ينكل عن اليمين ، وإن كان مأمونا لم تكن عليه يمين وهو محمول على أنه مأمون حتى يثبت أنه غير مأمون انتهى .
وما ذكره عن سماع أشهب هو في رسم الوصايا من كتاب الوصايا الثاني ، ونصه : " وسمعته يسأل عمن فقال : أما الصدقة فليس لهم أن يكشفوه عنها إذا كان غير وارث إلا أن يكون سفيها معلنا مارقا فيكشف عن ذلك ولهم أن يكشفوه ، وإن كان غير وارث ولا سفيه عن العتق ; لأن ذلك يعقد لهم الولاء فأما إذا كان الموصى إليه سفيها معلنا فأرى أن يكشف عن ذلك كله فإن من الأوصياء من يقبض عن الوصية فلا ينفذ منها شيئا قال أوصى إلى رجل بوصايا من عتق وصدقة وغير ذلك فأراد الورثة أن يكشفوه عنها وأن يطلعهم عليه ابن رشد : هذا كما قال أن الوصي يكشف عما جعل إليه من تنفيذ الوصية بالصدقة وغير ذلك مما لا يبقى فيه منفعة للورثة إذا كان سفيها معلنا مارقا يبين ما تقدم من قوله في سماع ابن القاسم في أنه ليس للورثة أن يقوموا معه في تنفيذ الوصية إلا أن يكون مما يبقى له فيه منفعة كالعتق وشبهه
وقوله إنه يكشف عن ذلك إذا كان سفيها معلنا مارقا معناه أنه يكلف إقامة البينة على تنفيذ الوصية فأما إن لم يأت ببينة على ذلك وتبين نقيضه عليها أو استهضامه لها ضمه إياها ، وإن لم يكن بهذه الصفة من الاشتهار بالسفه والمروق واتهم استحلف ، فإن نكل عن اليمين ضمن ، وإن كان من أهل العدل والثقة لم تلحقه يمين وهو محمول على الثقة والعدالة حتى يعرف خلاف ذلك من حاله ا هـ ، وبالله التوفيق .
ونص ما أشار إليه في أول سماع ابن القاسم قال سحنون أخبرني ابن القاسم قال سمعت قال في الرجل يوصي بأن يعتق عنه وأن يحمل عنه في سبيل الله ويستخلف على ذلك وارثا فيريد بعض الورثة أن ينفذ ذلك وينظر فيه معه قال إن كان وارثا رأيت ذلك عليه ، وإن لم يكن المستخلف وارثا فليس ذلك عليه إلا فيما تبقى منفعته للورثة كالعتق ، وما أشبهه قال مالكا ابن رشد هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أن الرجل إذا فليس له أن يغيب على تنفيذ ذلك دون سائرهم ، ولمن قام مع ذلك أن ينفذ ذلك وينظر معه مخافة أن يكون أوصى إليه ، والوصية للوارث لا تجوز إلا أن يجيزها الورثة سواء سمى الميت ما ينفذها فيه من عتق أو صدقة ، قال في البيان أو بما سوى ذلك من وجوه البر أو كان قد فوض إليه حيث أراه الله ، وأنه استخلف على ذلك غير وارث عليه أن ينفذ عليه شيئا من ذلك بحضرتهم ولا لهم أن يكشفوه عن ذلك ، قال في الرواية إلا فيما تبقى منفعته للورثة كالعتق وشبهه استخلف على تنفيذ وصيته وارثا من ورثته
والمنفعة التي تبقى في العتق هو الولاء الذي ينجر عن المتوفى إلى من يرثه عنه فلا يختص بذلك الورثة دون غيرهم إذ قد يرثه من لا ينجر إليه [ ص: 395 ] من الولاء شيء وهم البنات والأخوات والزوجات والأمهات والجدات ، وقد ينجر إلى من لم يرثه ممن حجب عن ميراثه من الإخوة والعصبة فالحق في كشف الوصي الأجنبي عن العتق إنما هو ممن ينجر إليه الولاء عن الميت ، وإن لم يكن وارثا ولا كلام لمن ينجر إليه الولاء عنه ، وإن كان وارثا له والذي يشبه العتق في بقاء المنفعة للورثة هو الإخدام والتعمير والتحبيس ، فأما الإخدام والتعمير فالحق فيه لجميع الورثة ; لأن المرجع في ذلك إليهم وأما التحبيس فمنه ما يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس ، ومنه ما يختلف هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس به فالحق في بالمحبس الذي يرجع إلى أقرب الناس بالمحبس لمن رجع إليه منهم والحق في الحبس الذي يختلف هل يرجع إلى ورثته أو إلى أقرب الناس إليه لجميع ورثته وأقاربه من الرجال والنساء من قام منهم كان له كشفه عنه حتى يعلم أنه قد أنفذه لما قد يكون له فيه من المنفعة باتفاق أو على اختلاف وهذا في الوصي المأمون وأما غير المأمون فيكشف عن الوصايا من العتق والصدقة بالعين وغير ذلك على ما قاله في رسم الوصايا من سماع ابن القاسم أن السفيه المعلن المارق يكشف عن كل شيء من الصدقة وغيرها وهو محمول على أنه مأمون حتى يتبين أنه غير مأمون ، وعلم من لفظ السماعين المذكورين أنه لا فرق في الحكم المتقدم بين أن يشترط الوصي للموصى تنفيذ الوصية دون مشورة قاض ولا تعقب حاكم ، وأنه لا اعتراض عليه من حاكم وغيره بوجه من الوجوه كما ذكر ذلك في السؤال في النوادر ، ولا يشترط ذلك كما في لفظ السماعين المذكورين ، والله أعلم .
ومن هذا المعنى مسألة كتاب الوديعة والشهادة من المدونة ، ونصها على ما في كتاب الوديعة ولو أمرته بصدقة على قوم معينين ، فإن صدقه بعضهم وكذبه بعضهم ضمن حصة من كذبه ولو أمرته بصدقة على غير معينين صدق مع يمينه إن لم يأت ببينة انتهى . قال أبو الحسن هذه المسألة تبين مسألة كتاب الشهادة ، قال فيه : فإن كانوا غير معينين صدق ولم يذكر هناك يمينا ابن يونس يحلف إذا كان متهما انتهى . ومن هذا المعنى كشف وارث المحجور الوصي عما بيده ، فقال ابن رشد في نوازله في كتاب الصدقات : وليس للوارث المحجور ، ولا لوليه أن يكشف الوصي عما بيده لمحجوره ، ولا أن يأخذ منه نسخ عقوده ولكن للقاضي أن يجبر الوصي على أن يشهد لليتيم بماله بيده انتهى . ونقله ابن سلمون في الوصايا ، ونصه : " وسئل ابن رشد في رجل له ولي محجور ، وله مال وتصدق عليه بصدقات ونحل نحلا ، فطلب هذا الرجل من وصيه أو من الحاكم نسخ تلك العقود وقام في الكشف لوصيه عما في يده من مال المحجور إذا زعم أنه وارثه وأن المال لما توفي هذا المحجور صار إليه ، هل له في ذلك حجة أم لا ؟ فقال :
ليس لوارث اليتيم أن يستكشف وصيه عما له بيده من المال أو يخاصمه في ذلك ولا أن يأخذ منه نسخ عقوده ، وعلى الوصي أن يشهد ليتيمه بماله بيده ، فإن أبى من ذلك أخذه الحاكم ببيانه أن يوقف فيعين مال اليتيم عنده انتهى . وقال في العتبية في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الوصايا ، وسئل يعني فقيل له : إن سيدي كاتبني وأوصى إلي فسألني بعض موالي وهو ولد سيدي عما في يدي ، وعما ربحت فيه ، وأنا عند الناس كما أحب أفذلك علي ؟ قال لا أرى ذلك عليك أليس ما في يدك مال معروف ، قال : بلى ولكنه يريد أن يعلمه ، ويعلم ما ربحت فيه ، قال مالكا ابن رشد .
وقوله : وأوصى إلي يريد أنه أو أوصى إليه بالنظر على بنيه فلم ير عليه أن يخبره بما ربح في مال اليتيم الذي هو ناظر فيه لولده ; لأن الوصي لا يلزمه أن يكشف عما بيده إلا إذا خيف عليه أن يكون قد أتلفه وهو محمول على الأمن من ذلك حتى يثبت خلاف ذلك من حاله فإذا كان ما في يده من المال معروفا فلا يلزمه أن يكشف عنه ولا يخبر بما [ ص: 396 ] ربح فيه ; لأن ذلك غضاضة عليه إذ لا يفعل ذلك إلا بمن لا يوثق به ، وسيده قد استأمنه ووثق به فهو محمول على ذلك انتهى .
ومن هذا المعنى كشف المرأة الموصى إليها بولدها إذا تزوجت حسبما ذكره في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا الأول ، ونصه : " وسئل عن مالك ؟ قال امرأة هلك زوجها وأوصى إليها بولدها وبما كان له من مال فتزوجت المرأة وخيف على المال أترى أن يكشف : إن كانت المرأة لا بأس بحالها فلا أرى ذلك ، وإن كانت بخلاف ذلك كشف ما قبلها . مالك
قال ابن رشد إنما قال إنه يكشف ما قبلها إن كان يخاف على المال عندها ولا يكشف إن كان لا بأس بحالها ولم يبين ما تحمل عليه من جهل حالها والظاهر من قول في رسم الوصايا من سماع مالك أشهب بعد هذا أن المرأة إذا تزوجت غلبت على حال أمرها حتى تعمل ما ليس بصواب إنها عنده محمولة على الخوف عليها إذا تزوجت فيكشف ما قبلها إلا أن يعلم أنه لا بأس بحالها ، وقال ابن المواز قال ابن القاسم ووجه ما سمعت هذا في المال أن ينظر إلى حالها ، فإن رضي حالها وسيرتها ، والمال يسير لم يؤخذ منها محمد ولم يكشف إن كان المال كثيرا ، ولا هي مقلة وخيف من ناحيتها .
وأرى أن ينزع المال منها ، وقاله وهي على الوصية على كل حال إلا أن تكون مبرزة إلا من إبقاء المال عندها بعد النكاح في الحزم والدين واليسير والحرز فيقر بيدها أصبغ ( قلت ) وإذا خيف على المال عندها فنزع منها ولم تعزل هي عن الوصية فليقدم معها من يكون المال عنده ويشاورها في النظر انتهى . وبالله التوفيق .