الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : ما ترى ؟ قال : أرى عرشا على الماء . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اخسأ فلن تعدو قدرك . فعرف أن مادة مكاشفته التي كاشفه بها شيطانية مستمدة من إبليس الذي هو يشاهد عرشه على البحر ، ولهذا قال له اخسأ فلن تعدو قدرك . أي : لن تجاوز قيمتك الدنية الخسيسة الحقيرة .

            والدليل على أن عرش إبليس على البحر الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد : ما ترى ؟ قال : أرى عرشا على الماء . أو قال : على البحر حوله حيات . قال صلى الله عليه وسلم : ذاك عرش إبليس .

            وروى الإمام أحمد بسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ، ولكن في التحريش بينهم . وروى الإمام مسلم بسنده عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الشيطان يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا . فيقول إبليس : لا والله ، ما صنعت شيئا . ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله . قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ، ويقول : نعم أنت . يروى بفتح النون بمعنى : نعم أنت ذاك الذي تستحق الإكرام . وبكسرها أي : نعم منك . وقد استدل به بعض النحاة على جواز كون فاعل نعم مضمرا ، وهو قليل واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج الأول ، ورجحه ، ووجهه بما ذكرناه ، والله أعلم .

            وقد أوردنا هذا الحديث عند قوله تعالى : ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ البقرة : 102 ] . يعني : أن السحر المتلقى عن الشياطين من الإنس والجن يتوصل به إلى التفرقة بين المتآلفين غاية التآلف المتوادين المتحابين ، ولهذا يشكر إبليس سعي من كان السبب في ذلك ، فالذي ذمه الله يمدحه ، والذي يغضب الله يرضيه عليه لعنة الله ، وقد أنزل الله عز وجل سورتي المعوذتين مطردة لأنواع الشر وأسبابه وغاياته ، ولا سيما سورة : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس . وثبت في الصحيحين ، عن أنس ، وفي صحيح البخاري ، عن صفية بنت حيي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم .

            وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس ، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس .

            ولما كان ذكر الله مطردة للشيطان عن القلب كان فيه تذكار للناسي ، كما قال تعالى : واذكر ربك إذا نسيت [ الكهف : 24 ] . وقال فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ الكهف : 63 ] . وقال تعالى : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ يوسف : 42 ] . يعني الساقي لما قال له يوسف : اذكرني عند ربك . نسي الساقي أن يذكره لربه يعني مولاه الملك . وكان هذا النسيان من الشيطان ، فلبث يوسف في السجن بضع سنين ، ولهذا قال بعده : وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة [ يوسف : 45 ] . أي : تذكر قول يوسف له : اذكرني عند ربك . بعد مدة وقرئ : " بعد أمه " أي نسيان ، وهذا الذي قلنا من أن الناسي هو الساقي هو الصواب من القولين ،

            بسنده عن عاصم سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره فقلت : تعس الشيطان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقل تعس الشيطان ، فإنك إذا قلت : تعس الشيطان تعاظم ، وقال : بقوتي صرعته . وإذا قلت : بسم الله . تصاغر حتى يصير مثل الذباب . تفرد به أحمد ، وهو إسناد جيد . وقال أحمد بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان فأبس به كما يبس الرجل بدابته فإذا سكن له زنقه أو ألجمه . قال أبو هريرة : وأنتم ترون ذلك ; أما المزنوق فتراه مائلا كذا لا يذكر الله ، وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله عز وجل تفرد به أحمد . وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العين حق ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم . وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أحدث نفسي بالشيء ; لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة . ورواه أبو داود ، والنسائي من حديث منصور ، زاد النسائي : والأعمش ، كلاهما عن ذر به .

            الاستعاذة من الشيطان وقال البخاري بسنده عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ، ولينته . وقد قال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ الأعراف : 201 ] . وقال تعالى : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون : 97 - 98 ] . وقال تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف : 200 ] . وقال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل : 98 - 100 ] .

            وروى الإمام أحمد ، وأهل السنن من حديث أبي المتوكل ، عن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ، ونفخه ، ونفثه . وتفسيره في الحديث : فهمزه الموتة ، وهو الخنق الذي هو الصرع ، ونفخه الكبر ، ونفثه الشعر . وثبت في الصحيحين ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : أعوذ بالله من الخبث والخبائث . قال كثير من العلماء : استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم .

            وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أتى الغائط فليستتر ، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا فليستدبره ، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا ، فلا حرج . وقال البخاري بسنده عن عدي بن ثابت قال : قال : سليمان بن صرد استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . فقالوا للرجل : ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ! فقال : إني لست بمجنون .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله ، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله .

            وروى الإمام أحمد بسنده عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أكل بشماله أكل معه الشيطان ، ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان .

            وقال الإمام أحمد بسنده أبي زياد الطحان سمعت أبا هريرة يقول : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يشرب قائما ، فقال له : " قه " . قال : لم ؟ قال : " أيسرك أن يشرب معك الهر ؟ " . قال : لا . قال : " فإنه قد شرب معك من هو شر منه الشيطان " . وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي الزبير أنه سأل جابرا : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله حين يدخل وحين يطعم ، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا . وإن دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله ، قال : أدركتم المبيت . وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء . قال : نعم . وقال البخاري بسنده عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز ، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب ، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ، فإنها تطلع بين قرني الشيطان أو الشياطين . " لا أدري أي ذلك " قال هشام . وقال البخاري بسنده عن عن ابن عمر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق ، فقال : ها إن الفتنة هاهنا ، إن الفتنة هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان .

            مجلس الشيطان وفي السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس بين الشمس والظل . وقال إنه مجلس الشيطان . وقد ذكروا في هذا معاني ; من أحسنها أنه لما كان الجلوس في مثل هذا الموضع فيه تشويه بالخلقة فيما يرى كان يحبه الشيطان ; لأن خلقته في نفسه مشوهة وهذا مستقر في الأذهان ، ولهذا قال تعالى : طلعها كأنه رءوس الشياطين [ الصافات : 65 ] . الصحيح أنهم الشياطين لا ضرب من الحيات كما زعمه من زعمه من المفسرين ، والله أعلم . فإن النفوس مغروز فيها قبح الشياطين ، وحسن خلق الملائكة ، وإن لم يشاهدوا ، ولهذا قال تعالى : طلعها كأنه رءوس الشياطين ، وقال النسوة لما شاهدن جمال يوسف : حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [ يوسف : 45 ] . وقال البخاري بسنده عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استجنح أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم ، وأغلق بابك واذكر اسم الله ، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله ، وأوك سقاءك واذكر اسم الله ، وخمر إناءك واذكر اسم الله ، ولو تعرض عليه شيئا .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أغلقوا أبوابكم ، وخمروا آنيتكم ، وأوكوا أسقيتكم ، وأطفئوا سرجكم فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ، ولا يكشف غطاء ، ولا يحل وكاء ، وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله . يعني الفأرة . وقال البخاري بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتني . فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان ، ولم يسلط عليه . وقال البخاري بسنده عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ; يضرب على كل عقدة مكانها ، عليك ليل طويل فارقد . فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى انحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان . وقال البخاري بسنده عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا ، فإن الشيطان يبيت على خيشومه . وقال البخاري بسنده عن عبد الله قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله حتى أصبح . قال : ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه " أو قال : " في أذنه .

            بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط ، فإذا قضي أقبل ، فإذا ثوب بها أدبر ، فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه ، فيقول : اذكر كذا وكذا . حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ، سجد سجدتي السهو . وقال أحمد بسنده عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : راصوا صفوفكم ، وقاربوا بينها ، وحاذوا بين الأعناق ، فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف . وقال البخاري بسنده عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مر بين يدي أحدكم شيء فليمنعه ، فإن أبى فليمنعه ، فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان . وقال البخاري بسنده عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة فقال : إن الشيطان عرض لي فشد علي لقطع الصلاة علي ، فأمكنني الله منه .

            ولفظ البخاري عند تفسير قوله تعالى إخبارا عن سليمان عليه السلام أنه قال : رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب [ ص : 35 ] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية