إن قوم عاد لما تجبروا وعتوا وعبدوا الأوثان أرسل الله فيهم هودا رجلا منهم يدعوهم إلى الله ، وإلى إفراده بالعبادة ، والإخلاص له ، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلما أمرهم بعبادة الله ، ورغبهم في طاعته واستغفاره ، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة ، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة : قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة [ الأعراف 66 ] . أي ; هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق ، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك . قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين [ الأعراف : 67 ] . أي ; ليس الأمر كما تظنون ، ولا ما تعتقدون أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ الأعراف : 68 ] . والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه ، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة ، لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب ، وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه ، والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم ، لا يبتغي منهم أجرا ، ولا يطلب منهم جعلا ، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه ، والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه ، وأمره إليه ، ولهذا قال : يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون [ هود : 51 ] . أي ; ما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها ، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا ، وأهلك من خالفه من الخلق ، وها أنا أدعوكم إليه ، ولا أسألكم أجرا عليه ، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ، ولهذا قال مؤمن يس : اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ يس : 21 - 22 ] . وقال قوم هود له فيما قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . [ هود : 53 ] . يقولون : ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به . وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ، ولا برهان نصبته ، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه ، وعندنا ; إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك ، وهو قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون [ هود : 54 - 55 ] . وهذا تحد منه لهم ، وتبرؤ من آلهتهم ، وتنقص منه لها ، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر ، وأنها جماد حكمها حكمه ، وفعلها فعله ، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر ، فها أنا بريء منها لاعن لها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . أنتم وهي جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه ، وتقدروا عليه ، ولا تؤخروني ساعة واحدة ، ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ، ولا أفكر فيكم ، ولا أنظر إليكم إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . أي ; أنا متوكل على الله ومتأيد به . وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به . واستند إليه ، فلست أبالي مخلوقا سواه ، ولست أتوكل إلا عليه ، ولا أعبد إلا إياه ، وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله ، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ، ولا نالوا منه مكروها ، فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه ، وفساد ما ذهبوا إليه ، وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون [ يونس : 71 ] . وهكذا قال الخليل عليه السلام : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم [ الأنعام : 80 - 83 ] . استعباد قوم هود أن يبعث الله بشرا رسولا وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [ المؤمنون : 33 - 35 ] . استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا ، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا ، كما قال تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ يونس : 2 ] . وقال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ الإسراء : 94 - 95 ] . ولهذا قال لهم هود عليه السلام : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم . أي ; ليس هذا بعجيب فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين [ المؤمنون : 35 - 39 ] . استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما ، وقالوا : هيهات هيهات . أي ; بعيد بعيد هذا الوعد إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين . أي ; يموت قوم ويحيا آخرون . وهذا هو اعتقاد الدهرية ، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة : أرحام تدفع ، وأرض تبلع .
وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة . وهذا كله كذب ، وكفر وجهل وضلال ، وأقوال باطلة ، وخيال فاسد بلا برهان ، ولا دليل يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون ، كما قال تعالى : ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون [ الأنعام : 113 ] . وقال لهم فيما وعظهم به : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . يقول لهم : أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ، ونحوها تعبثون ببنائها ; لأنه لا حاجة لكم فيه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام ، كما قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد . فعاد إرم هم عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام .
ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة ، وهي تتنقل في البلاد فقد غلط وأخطأ . وقال ما لا دليل عليه . وقوله : وتتخذون مصانع . قيل : هي القصور . وقيل : بروج الحمام . وقيل : مآخذ الماء . لعلكم تخلدون . أي ; رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . وقالوا له فيما قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . أي ; أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونخالف آباءنا وأسلافنا ، وما كانوا عليه فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال ، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك ، كما قالوا : سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين . أما على قراءة فتح الخاء فالمراد به اختلاق الأولين أي ; أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك ، وأخذته من كتب الأولين هكذا فسره غير واحد من الصحابة ، والتابعين ، وأما على قراءة ضم الخاء واللام فالمراد به الدين أي ; إن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا ، ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به . ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم : وما نحن بمعذبين . قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين . أي ; قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس ، والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها ، وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان . أي ; لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا ، وإذا أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل ، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا ، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم ، وبأسه الذي لا يرد ، ونكاله الذي لا يصد . وقال تعالى : قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين . وقال تعالى : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين